فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} يعني إذ دعانا على قومه من قبل إبراهيم.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ويحتمل وجهًا آخر إذ نجيناه من أذية قومه حين أغرقهم الله.
ويحتمل ثالثًا: نجاته من مشاهدة المعاصي في الأرض بعد أن طهرها الله بالعذاب.
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا} فيه وجهان:
أحدهما: نصرناه عليهم بإجابة دعائه فيهم. الثاني: معناه خلصناه منهم بسلامته دونهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}.
و{الكرب العظيم} الغرق وما نال قومه من الهلكة بدعائه عليهم الذي استجيب، وقوله تعالى: {ونصرناه} لما كان جل نصرته النجاة وكانت غلبة قومه بغير يديه بل بأمر أجنبي منه حسن أن يكون {نصرناه من} ولا يتمكن هنا على كما يتمكن في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، مع قومه ع وذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ضرب لمثل لقصة محمد صلى الله عليه وسلم، مع قومه ونجاة الأنبياء وهلاك مكذبيهم ضمنها توعد للكفار من قريش. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ونوحًا} المعنى: واذكر نوحًا، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء {إِذ نادى} أي: دعا على قومه {مِنْ قَبْلُ} أي: مِنْ قبل إبراهيم ولوطٍ.
فأما الكرب العظيم، فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه.
قوله تعالى: {ونصرناه من القوم} أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ.
وقيل: من بمعنى على. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نادى مِن قَبْلُ} أي واذكر نوحًا إذ نادى؛ أي دعا.
{مِن قَبْلُ} أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وقال لما كذبوه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}.
{فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي من الغرق.
والكرب الغم الشديد {وأَهْلَهُ} أي المؤمنين منهم.
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قال أبو عبيدة: من بمعنى على.
وقيل: المعنى فانتقمنا له {مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
{فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي الصغير منهم والكبير. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث، وانتصب {نوحًا} على إضمار اذكر أي واذكر {نوحًا} أي قصته {إذ نادى} ومعنى نادى دعا مجملًا بقوله: {إني مغلوب} فانتصر مفصلًا بقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق، وغرقت في بحر النيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة، وهو أول أحوال مجيء الموت.
{ونصرناه من القوم} عداه بمن لتضمنه معنى {نجيناه} بنصرنا {من القوم} أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله: {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} وقال الزمخشري: هو نصر الذي مطاوعه انتصر، وسمعت هذليًا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن.
وقال أبو عبيدة {من} بمعنى على أي {ونصرناه} على {القوم} {فأغرقناهم} أي أهلَكِناهم بالغرق.
و{أجمعين} تأكيد للضمير المنصوب.
وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل، وأن الكثير استعماله تابعًا لكلهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَنُوحًا} أي اذكر نوحًا أي خبرَه وقوله تعالى: {إِذْ نادى} أى دعا الله تعالى على قومه بالهلاك، ظرف للمضاف أي اذكر نبأَه الواقعَ وقت دعائه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المذكورين {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي من جملته قوله: إني مغلوبٌ فانتصر {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو الطوفانُ، وقيل: أذيّةُ قومِه وأصلُ الكرب الغمُّ الشديد.
{ونصرناه} نصرًا مستتبِعًا للانتقام والانتصار ولذلك قيل: {مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} وحملُه على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإنه ظاهرَه يوجب إسناد الانتصارِ إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الأمر وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء} تعليلٌ لما قبله وتمهيد لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى: {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} فإن الإصرارَ على تكذيب الحقِّ والانهماكَ في الشر والفساد مما يوجب الإهلاكَ قطعًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَنُوحًا} أي واذكر نوحًا أي نبأه عليه السلام، وزعم ابن عطية أن نوحًا عطف على {لوطًا} [الأنبياء: 74] المفعول لآتينا على معنى وآتينا نوحًا ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء، قيل ولما ذكر سبحانه {ضَيْفِ إبراهيم} عليه السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه السلام الأب الأول بناءً على المشهور من أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام وهو ابن لملك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم السلام على ما في التهذيب عمرًا، وذكر الحاكم في المستدرك أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه، وقال الجواليقي: إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن {إِذْ نادى} أي دعا الله تعالى بقوله: {أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10] وقوله: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وإذ ظرف للمضاف المقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح.
{مِن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المذكورين، وذكرنا قبل قولًا آخر {فاستجبنا لَهُ} دعاءه {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو الطوفان أو أذية قومه؛ وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب، وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل عليه.
{ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه، وقيل: أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على، وقال بعضهم: إن النصر يتعدى بعلى ومن، ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه، وفرق بينهما بأن المتعدي بعلى يدل على مجرد الأعانة والمتعدي بمن يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء} منهمكين في الشر، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى: {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} فإن تكذيب الحق والانهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعًا في الأمم السابقة، ونصب {أَجْمَعِينَ} قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى، وقال أبو حيان: على أنه تأكيد له وقد كثير التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعكمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعًا لكل انتهى. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} أي: دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو الطوفان، أو من الشدة والتكذيب والأذى. فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ يؤمن به إلا القليل.
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أي: نصرناه نصرًا مستتبعًا للانتصار والانتقام من قومه: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيّهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}.
قوله: {وَنُوحًا} منصوب بـ: اذكر مقدرًا، أي واذكر نوحًا حين نادى من قبل، أي من قبل إبارهيم ومن ذكر معه. ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 75- 77] وقد أوضح الله هذا النداء بقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26- 27]، وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السماء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 9- 11] الآية. والمراد بالكرب العظيم في الآية: الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام، كما قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} [هود: 42]، وقال تعالى: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} [العنكبوت: 15] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والكرب: هو أقصى الغم، والأخذ بالنفس.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأنبياء: 76] يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين، كما قال تعالى: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} [هود: 40] الآية. ومن سبق عليه القول منهم: ابنه المذكور في قوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] وامرأته المذكورة في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ} إلى قوله: {وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}.
لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب بذكر أول الرسل.
وعطف {ونوحًا} على {لوطًا} [الأنبياء: 74]، أي آتينا نوحًا حُكمًا وعلمًا، فحذف المفعول الثاني لـ: {آتينا} [الأنبياء: 74] لدلالة ما قبله عليه، أي آتيناه النبوءة حين نادى، أي نادانا.
ومعنى {نادى} دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله: {فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم}.
وبناء {قبلُ} على الضمّ يدل على مضاف إليه مقدر، أي من قبل هؤلاء، أي قبل الأنبياء المذكورين.
وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنتُه المرادة له تعريضًا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسلَه شاذّة ولا فاذّة.
وأهل نوح: أهل بيْتِه عدا أحد بنيه الذي كفر به.
والكرب العظيم: هو الطوفان.
والكَرب: شدّة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.
ووجه كون الطوفان كربًا عظيمًا أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مَدّه ولا يزال لاحقًّا بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقَوا زمنًا يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويَطفَوْن حتى يموتوا بانحباس التنفس؛ وفي ذلك كله كرب متكرر، فلذلك وصف بالعظيم.
وعدي {نصرناه} بحرف من لتضمينه معنى المنع والحماية، كما في قوله تعالى: {إنكم منا لا تنصرون} [المؤمنون: 65]، وهو أبلغ من تعديته بـ علَى لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المَنعَةُ والحماية فلا يناله العدوّ بشيء.
وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.
ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد.
وجملة {إنهم كانوا قوم سوء} علة لنصر نوح عليه السلام لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.
والسّوء بفتح السين تقدم آنفًا.
وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به.
والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.
و{أجمعين} حال من ضمير النصب في {أغرقناهم} لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريبًا من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.
وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كما رُوي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة [سورة فصّلت: 13] حتى بلغ {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فزع عتبة وقال له: ناشدْتُك الرّحمَ. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {وَنُوحًا} [الأنبياء: 76] مثلما ثلنا في {وَلُوطًا} [الأنبياء: 74] أي: آتيناه هو أيضًا رُشْده {إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 76] والنداء في حقيقته: طلبُ إقبال، فإنْ كان من أعلى لأدنى فهو نداء، وإنْ كان من مُسَاوٍ لك فهو التماس، فإنْ كان من أدنى لأعلى فهو دعاء، فحين تقول يا رب: الياء هنا ليست للنداء بل للدعاء.
وحين تمتحن تلميذًا تقول له: أعرب: رَبِّ اغفر لي، فلو كان نبيهًا يقول: ربّ مدعو. والتقدير يا رب، ومن قال: منادى نسامحه لأنه صحيح أيضًا، فالياء في أصلها للنداء، لَكِنه غير دقيق في الأداء. كذلك في: اغفر لي، إنْ قال فِعْل أمر نعطيه نصف الدرجة، أما إن قال دعاء فَلَهُ الدرجة الكاملة.
فماذا قال نوح عليه السلام في ندائه؟ المراد قوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] فاستجاب الله لنبيه نوح عليه السلام: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} [الأنبياء: 76] والمراد بالكرب ما لبثه نوح في دعوة قومه من عمر امتد ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما تحمَّله في سبيل دعوته من عَنَتٍ ومشقّة قال الله فيها: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 7- 9].
ثم لما أمره الله بصناعة الفُلك أخذوا يسخرون منه: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} [هود: 38] إذن: استجاب الله دُعَاءه ونداءه {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 76] وفي موضع آخر: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون} [الصافات: 75] فوصف الحق سبحانه إجابته لنوح بـ: نِعْم الدالة على المدح.
فهل يعني ذلك أن هناك مَنْ يكون بِئْس المجيب؟ قالوا: نعم إذا سألته شيئًا فأجابك إليه وهو شَرٌّ لك، أمَا الحق سبحانه فهو نِعْم المجيب؛ لأنه لا يُجيبك إلا بما هو صالح ونافع لك، فإنْ كان في دعائك شَرٌّ ردَّه لعلمه سبحانه أنه لن ينفعك.
وكأن الحق الأعلى سبحانه يقول لك: أنا لستُ موظفًا عندك، أجيبك إلى كُلِّ ما تطلب، إنما أنا قيُّوم عليك، وقد تدعو بما تظنّه خيرًا لك، وأعلم بأزلية عِلْمي أن ذلك شر لا خيرَ فيه، فيكون الخير لك أَلاَّ أجيبك؛ لأنني نِعْمَ المجيب.
وهَبْ أن الله تعالى يجيب كُلًا منّا إلى ما يريد، فكيف حال الأم التي تغضب مثلًا من وحيدها، وفي لحظة الغضب والثورة تدعو عليه فتقول مثلًا: إلهي أشرب نارك؟ فالحق- تبارك وتعالى- حين يردُّ مِثْل هذا الدعاء هو نِعْم المجيب؛ لأنه نِعْم المانع.
لذلك يقول تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} [الإسراء: 11] أي: يدعو ويُلِحُّ في الدعاء بما يظنُّه خَيْرًا، وهو ليس كذلك. {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم}.
مازالت الآيات تقصُّ علينا طرفًا مُوجزًا من رَكْب النبوات، ونحن في سورة الأنبياء، وحينما نتأمل هذه الآية نجد أن الله تعالى يُعذَّب بالماء كما يُعذِّب بالنار، مع أنهما ضِدَّانِ لا يلتقيان، فلا يقدر على هذه المسألة إلا خالقهما سبحانه وتعالى.
وقصة غَرَق قوم نوح وأهل سبأ بعد انهيار سَدِّ مأرب أحدثَا عقدة عند أهل الجزيرة العربية، فصاروا حين يروْنَ الماء يخافون منه ويبتعدون عنه، حتى إذا احتاجوا الماء يذهبون إلى مكان بعيد يملأون قِرَبهم، ذلك لعلمهم بخطر الطوفان، وأنه لا يُصَدُّ ولا يردُّه عنهم شيء. اهـ.