فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)}.
قد تقدّم أن لوطًا هو ابن أخي إبراهيم، فحكى الله سبحانه ها هنا أنه نجى إبراهيم ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين.
قال المفسرون: وهي أرض الشام، وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء؛ وأصل البركة: ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح.
وقيل: الأرض المباركة: مكة، وقيل: بيت المقدس، لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضًا كثيرة الخصب، وقد تقدّم تفسير العالمين.
ثم قال سبحانه ممتنًا على إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النافلة: الزيادة، وكان إبراهيم قد سأل الله سبحانه أن يهب له ولدًا، فوهب له إسحاق، ثم وهب لإسحاق يعقوب من غير دعاء، فكان ذلك نافلة، أي زيادة؛ وقيل: المراد بالنافلة هنا: العطية، قاله الزجاج.
وقيل: النافلة هنا: ولد الولد، لأنه زيادة على الولد، وانتصاب {نافلة} على الحال.
قال الفراء: النافلة: يعقوب خاصة، لأنه ولد الولد {وَكُلًا جَعَلْنَا صالحين} [الأنبياء: 72] أي وكل واحد من هؤلاء الأربعة: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب، لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحًا عاملًا بطاعة الله تاركًا لمعاصيه.
وقيل: المراد بالصلاح هنا: النبوّة.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات، ومعنى {بأمرنا} بأمرنا لهم بذلك، أي بما أنزلنا عليهم من الوحي {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} أي أن يفعلوا الطاعات.
وقيل: المراد بالخيرات: شرائع النبوّات {وَكَانُواْ لَنَا عابدين} أي كانوا لنا خاصة دون غيرنا مطيعين، فاعلين لما نأمرهم به، تاركين ما ننهاهم عنه.
{وَلُوطًا آتيناه حُكْمًا وَعِلْمًا} انتصاب {لوطًا} بفعل مضمر دلّ عليه قوله: {آتيناه} أي وآتينا لوطًا آتيناه.
وقيل: بنفس الفعل المذكور بعده.
وقيل: بمحذوف هو: اذكر، والحكم: النبوّة.
والعلم: المعرفة بأمر الدين.
وقيل: الحكم: هو فصل الخصومات بالحق.
وقيل: هو الفهم.
{ونجيناه مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} القرية هي سدوم كما تقدّم، ومعنى {تعمل الخبائث}: يعمل أهلها الخبائث، فوصفت القرية بوصف أهلها، والخبائث التي كانوا يعملونها هي اللواطة والضراط وخذف الحصى كما سيأتي، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين} أي خارجين عن طاعة الله.
والفسوق: الخروج كما تقدّم.
{وأدخلناه فِي رَحْمَتِنا} بإنجائنا إياه من القوم المذكورين، ومعنى في {رحمتنا}: في أهل رحمتنا.
وقيل: في النبوّة.
وقيل: في الإسلام.
وقيل: في الجنة {إِنَّهُ مِنَ الصالحين} الذين سبقت لهم منّا الحسنى.
{وَنُوحًا إِذْ نادى} أي واذكر نوحًا إذ نادى ربه {مِن قَبْلُ} أي: من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين {فاستجبنا لَهُ} دعاءه {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي من الغرق بالطوفان، والكرب: الغمّ الشديد، والمراد بأهله: المؤمنون منهم.
{ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} أي نصرناه نصرًا مستتبعًا للانتقام من القوم المذكورين.
وقيل: المعنى منعناه من القوم.
وقال أبو عبيدة: من بمعنى على، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} أي لم نترك منهم أحدًا، بل أغرقنا كبيرهم وصغيرهم بسبب إصرارهم على الذنب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في قوله: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: الشام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مالك نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لوط كان ابن أخي إبراهيم.
وأخرج ابن جرير عنه {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق} قال: ولدًا {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قال: ابن الابن، وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم نحوه أيضًا، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق} قال: أعطيناه {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قال: عطية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَنُوحًا}: فيه وجهان: أحدُهما: أنَّه منصوبٌ عَطْفًا على {لُوْطًا} فيكونُ مشتَرِكًا معه في عامِلِه الذي هو {آتَيْنا} المفسَّرِ بـ: {آتيناه} الظاهرِ. وكذلك {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الآية: 78] والتقدير: ونوحًا آتيناه حُكْمًا، وداودَ وسليمان آتيناهما حكمًا. وعلى هذا فـ: إذ بدلٌ مِنْ {نوحًا} ومِنْ {داود وسليمان} بدلُ اشتمالٍ. وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذا في طه.
الثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ {اذكُرْ} أي: اذكر نوحًا وداودَ وسليمانَ أي: اذْكُرْ خبَرهم وقصتَهم، وعلى هذا فتكونُ إذ منصوبةً بنفسِ المضافِ المقَّدرِ أي: خبرَهم الواقعَ في وقتٍ كان كيتَ وكيتَ.
وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ هؤلاءِ المذكورين. {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} قوله: {مِنَ القوم} فيه أوجهٌ:
أحدها: أن يُضَمَّن {نَصَرْناه} معنى منَعْناه وعَصَمْناه. ومثلُه {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] فلمَا ضُمِّنَ معناه تَعَدَّى تعَديتَه. الثاني: أنَّ نَصَر مطاوِعُهُ انتصر، فتعدى تعديةً ما طاوعه. قال الزمخشري: وهو نَصَر الذي مطاوِعُه انتصر. وسمعتُ هُذَِليًَّا يدعو على سارِقٍ اللهم انْصُرْهم منه أي: اجْعَلْهم منتصِرين منه. ولم يظهر فرقٌ بالنسبةِ إلى التضمين المذكور؛ فإنَّ معنى قوله: منتصرين منه أي: ممتنعين أو مَعْصُوْمين منه. الثالث: أن مِنْ بمعنى على أي: على القوم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}.
كان نوح- عليه السلام- أطولَهم عمرًا، وأكثرهم بلاءً. ففي القصة أنه كان يُضْرَبُ سبعين مرةً، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قولَ هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح- عليه- يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمَا أيِسَ من إيمانهم، وأُوحِيَ إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود: 36] دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فقال تعالى: {ونوحًا إذ نادى من قبل} فأُزْهِقَ الشِّرْكُ وأغْرِقُ أَهلُه. اهـ.

.تفسير الآيات (78- 80):

قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ربما قيل: لم قدم إبراهيم ومن معه على نوح وهو أبوهم ومن أولي العزم، وموسى وهارون على إبراهيم وهو كذلك، أشار بقصة داود وسليمان- على جميعهم الصلاة والسلام- إلى أنه ربما يفضل الابن الأب في أمر، فربما قدم لأجله وإن كان لا يلزم منه تقديمه مطلقًا، مع ما فيها من أمر الحرث الذي هو أنسب شيء لما بعد غيض الماء في قصة نوح عليه السلام، هذا في أوله وأما في آخره فما ينبته مثال للدنيا في بهجتها وغرورها، وانقراضها ومرورها، ومن تصريف داود عليه السلام في الجبال وهي أشد التراب الذي هو أقوى من الماء، وفي الحديد وهو أقوى من تراب الجبال، وسليمان عليه السلام في الريح وهي أقوى من التراب فقال: {وداود} أي أول من ملك ابنه من أنبياء بني إسرائيل {وسليمان} ابنه، أي اذكرهما واذكر شأنهما {إذ} أي حين {يحكمان في الحرث} الذي أنبت الزرع، وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قيل: كان ذلك كرمًا، وقيل: زرعًا {إذ نفشت} أي انتشرت ليلًا بغير راع {فيه غنم القوم} الذي لهم قوة على حفظها فرعته؛ قال قتادة: النفش بالليل، والهمل بالنهار.
{وكنا} أي بعظمتنا التي لا تقر على خلاف الأولى في شرع من الشروع {لحكمهم} أي الحكمين والمتحاكمين إليهما {شاهدين} لم يغب عنا ذلك ولا شيء من أمرهم هذا ولا غيره، فذلك غيرنا على داود عليه السلام تلك الحكومة مع كونه ولينا وهو مأجور في اجتهاده لأن الأولى خلافها، فإنه حكم بأن يمتلك صاحب الحرث الغنم بما أفسدت من الكرم، فكأنه رأى قيمة الغنم قيمة ما أفسدت {ففهمناها} أي الحكومة بما لنا من العلم الشامل والقدرة الكاملة على رفع من نشاء {سليمان} فقال: تسلم الغنم لصاحب الكرم ليرتفق بلبنها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل صاحبها في الكرم حتى يعود كما كان فيأخذ حرثه، وترد الغنم إلى صاحبها، وهذا أرفق بهما.
وهذا أدل دليل على ما تقدمت الإشارة إليه عند {قل ربي يعلم القول}، و{كنا به عالمين إذ قال لأبيه} وفيه رد عليهم في غيظهم من النبي صلى الله عليه وسلم في تسفيه الآباء والرد عليهم كما في قصة إبراهيم عليه السلام لأنه ليس بمستنكر أن يفضل الابن أباه ولو في شيء، والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه.
ولما كان ذلك ربما أوهم شيئًا في أمر داود عليه السلام، نفاه بقوله دالًا على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم إنما هو أحدهما {وكلًا} أي منهما {ءاتينا} بما لنا من العظمة {حكمًا} أي نبوة وعملًا مؤسسًا على حكمة العلم، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن من الشعر حكمًا»- أي قولًا صادقًا مطابقًا للحق {وعلمًا} مؤيدًا بصالح العمل، وعن الحسن رحمه الله: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولَكِنه أثنى على سليمان عليه السلام بصوابه، وعذر داود عليه السلام باجتهاده انتهى.
وأتبعه من الخوارق ما يشهد له بالتقدم والفضل فقال: {وسخرنا} أي بعظمتنا التي لا يعيبها شيء.
ولما كان هذا الخارق في التنزيه، لم يعد الفعل اللام زيادة في التنزيه وإبعادًا عما ربما أوهم غيره فقال مقدمًا ما هو أدل على القدرة في ذلك لأنه أبعد عن النطق: {مع داود الجبال} أي التي هي أقوى من الحرث، حال كونهن {يسبحن} معه، ولو شئنا لجعلنا الحرث أو الغنم يكلمه بصواب الحكم، ولم يذكر ناقة صالح لأنها مقترحة موجبة لعذاب الاستئصال، فلم يناسب ذكرها هنا، لما أشار إليه قوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم}، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وهذه الآيات التي ذكرت هنا ليس فيها شيء مقترح {والطير} التي سخرنا لها الرياح التي هي أقوى من الجبال وأكثر سكناها الجبال، سخرناها معه تسبح {وكنا فاعلين} أي من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده بما لنا من العظمة المحيطة، فلا تستكثروا علينا أمرًا وإن كان عندكم عجبًا، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة، كان مطرف بن عبد الله ابن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه ابنته، هذا مع أن الطعام كان يسبح بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والحصا وغيره.
ولما ذكر التسخير بالتسبيح، أشار إلى تسخير الحديد الذي هو أقوى تراب الجبال وأصلبه وأصفاه فقال: {وعلمناه} أي بعظمتنا {صنعة لبوس} قال البغوي: وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها، وهو كالجلوس والركوب.
{لكم} أي لتلبسوه في حربكم، وألنا له في عمله الحديد ليجتمع له إلى العلم سهولة العمل فيأتي كما يريد {لتحصنكم} أي اللبوس أو داود أو الله على قراءة الجماعة في حصن مانع، وهو معنى قراءة النون الدال على مقام العظمة عند أبي بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب، وقراءة أبي جعفر وابن عامر وحفص بالفوقانية للدروع نظرًا إلى الجنس {من بأسكم} الكائن مما يحصل من بعضكم لبعض من شدائد الحرب لا من البأس كله {فهل أنتم شاكرون} لنا على ذلك لتوحدنا وتؤمنوا بأنبيائنا؛ قال البغوي: قال قتادة: أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود عليه السلام، وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفة والحصانة. اهـ.