فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقبه الآمدي بقوله: ولقائل أن يقول: إن غاية ما في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكمًا بالنص حكمًا واحدًا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه، والذي يدل على هذا قوله تعالى: {وَكُلًا ءاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ولو كان أحدهما مخطئًا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكمًا وعلمًا وأن سلمنا أن حكمهما كان مختلفًا لَكِن يحتمل أنهما حكمًا بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به حقًّا متعينًا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئًا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى.
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل {وَسَخَّرْنَا مَعَ داود الجبال} شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام {يُسَبّحْنَ} يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول: سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل: يسمعه كل أحد، وقيل: بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدا فليس بشيء أصلًا؛ ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل: {يُسَبّحْنَ} بمعنى يسرن من السباحة.
وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى وأو خبر سير الجبال معه عليه السلام.
وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى.
وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من {الجبال} أو استئناف مبين لكيفية التسخير و{مَّعَ} متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء: بيسبحن وهو نظير قوله تعالى: {فَضْلًا ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} [سبأ: 10] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدا {والطير} عطف على {الجبال} أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال.
وقرئ {والطير} بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل: على العطف على الضمير في {يُسَبّحْنَ} ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى: {وَكُنَّا فاعلين} تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعًا عندكم.
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:
البس لكل حالة لبوسها ** أما نعيمها وإما بوسها

وقيل: هو اسم للسلاح كله درعًا كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحًا:
ومعي لبوس للبئيس كأنه ** روق بجبهة ذي نعاج محفل

قال قتادة: كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع.
وقرئ {لَبُوسٍ} بضم اللام {لَكُمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة.
وقوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} متعلق بـ علمنا أو بدل اشتمال من {لَكُمْ} بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لام {لَكُمْ} والضمير المستتر للبوس، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة.
وقرأ جماعة {ليحصنكم} بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم {لنحصنكم} بالنون، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف.
وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد {لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ} قيل أي من جرب عدوكم، والمراد مما يقع فيها، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف {فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} أي: الزرع: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي: رعته ليلًا: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي: لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، عالمين.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (79).
{فَفَهَّمْنَاهَا} أي: الفتوى أو الحكومة المفهوميْن من السياق: {سُلَيْمَانَ} أي: فكان القضاء فيها قضاءه، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنمًا أفسدت زرعًا بالليل، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فقال سليمان: بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه، ليلة نفشت فيه الغنم، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفًا لا مرفوعًا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلمًا كثيرًا، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم، من عدم كون حكم داوُد عليه السلام حكمًا شرعيًّا.
تنبيهات:
الأول: استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له، وعكس بعضهم، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب. قال: لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد. وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين. وهذا مذهب المعتزلة، كما بيّن في الأصول. وردّ بأن مفهوم قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام، يدل على أنه المصيب للحق عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلًا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داوُد عليه السلام، لجواز كون كلٍّ مصيبًا. ولَكِن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كلٌّ. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في العناية.
وجاء في فتح البيان ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبًا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما: «أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر». فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئًا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين. وإلا لَزم توقف حكمه عزَّ وجلَّ على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضًا يستلزم أن يكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحلّ والحرمة، حلالًا وحرامًا في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضًا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاد في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لَكِن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.
قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولَكِن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاد.
الثاني: دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مسند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه. ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدْي» ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضًا، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.
قال الرازي: إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى، ثم علم أو ظن قيام ذلك معنى في صورة أخرى، فلابد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب، فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معًا، وهو محال، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال، لاستحالة الخلّو عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح، وذلك هو العمل بالقياس- وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضًا في حق الأنبياء عليهم السلام. انتهى.
الثالث: قال السيوطي في الإكليل: استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء. وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولًا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه. وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار. لأن النفش لا يكون إلا بالليل، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة. ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقًا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية، ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.
الرابع: روى ابن جرير عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلًا لي. فقال شريحٌ: نهارًا أم ليلًا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلًا فقد ضمن، ثم قرأ هذه الآية.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة. أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها. وقد عُلّل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية، لما استقضى أتاه الحسن، فبكى. فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصريّ: إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} (78) الآية. فأثنى الله على سليمان، ولم يذمّ داود.
ثم قال يعني الحسن: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشتروا به ثمنًا قليلًا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدًا. ثم تلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [صّ: 26]، وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41].
ثم قال ابن كثير: وقد ثبت في صحيح البخاري عن عَمْرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهذا الحديث يردّ نصًّا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.
وفي السنن: «القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار».
ثم بيّن سبحانه ما خص كلًا من داود وسليمان من كراماته، إثر بيان كرامته العامة لهما، بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي: سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه، بصوت يتمثل له أو يُخْلَقُ فيها. قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه. وترد عليه الجبال تأويبًا، ولهذا لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعريّ وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيّب جدًّا، فوقف واستمع لقراءته وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود». قال: يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا.
قال أبو عثمان الهنديّ: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. انتهى.
وتقديم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أعجب وأدل القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد. والتذييل بقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية، وإن كان عند المخاطبين عجيبًا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [صّ: 17- 19].
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} أي: عمل الدروع الملبوسة. قيل كانت الدروع قبله صفائح، فحلقها وسردها. أي: جعلها حلقًا وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى: {وَأَلَنَا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10- 11]، أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار. ولا تغلظ المسمار فتقدّ الحلقة. ولهذا قال: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي: لتحفظكم من جراحات قتالكم: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أي: لنعم الله عليكم، لما ألهم عبده داود فعلّمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم. وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام، مبالغة في التقريع والتوبيخ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر. اهـ.