فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
قوله تعالى: {وَدَاوُدَ} منصوب بـ: اذكر مقدرًا. وقيل: معطوف قوله: {وَنُوحًا إِذْ نادى مِن قَبْلُ} [الأنبياء: 76] أي واذكر نوحًا إذ نادى من قبل {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} الآية، وقوله: {إِذْ} بدل من {دَاوُدَ وَسُلَيْمَان} بدل اشتمال كما أوضحناه في سورة مريم وذكرنا بعض المناقشة فيه، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا: إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي: إلا أن ما أوحى سليمان كان ناسخًا لما أوحى إلى داود.
وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده، وإصابته، وأن داود لم يصب فاستحق لاثناء باجتهاده، ولم يستوجب لوما ولا ذمًا بعدم إصابته. كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، وأثنى عليهما في قوله: {وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فدل قوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ} على أنهما حكما فيها معًا، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، ولو كان وحيًا لما ساغ الخلاف. ثم قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهمًا إياها كما ترى. فقوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ} مع قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك.
والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا} الآية يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع. لا أنه أنزل عليه فيها وحيًا جديدًا ناسخًا. لأن قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا} أليق بالأول من الثاني، كما ترى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى:
اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد، وأن سليمان أصاب في اجتهاده جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة. فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة، وقد دلت القرينة القرآنية على وقوعه، قال البخاري في صحيحه باب إذا ادعت المرأة ابنًا حدثنا أبو اليَمَان، أخبرنا شُعَيْب، حدثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت امْرَأتان مَعَهما ابْنَاهما، جاء الذِئب فَذَهب بابن إحداهما، فقالت لِصَاحِبَتِها: إنما ذَهَب بابْنِك. فقالت الأُخْرَى: إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِك. فَتَحَاكَمَتَا إِلى دَاوُد عليه السَّلام، فَقَضَى بِهِ للْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا على سُلَيْمان بن دَاوُد عليهما السَّلام، فَأَخْبَرتَاهُ فَقَال: ائْتُوني بِالسِّكِين أَشُقُّه بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَل يَرْحَمُكَ الله هُو ابنها. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ أبو هُرَيرَة: والله إِنْ سَمِعْتُ بالسِّكِين قَطّ إِلا يَوْمَئِذ، وما كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَة». انتهى من صحيح البخاري. وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني زُهَيْر بن حَرْب، حدثني شَبَابَة حدثني وَرْقَاء عن أبِي الزِّناد، عنِ الأَعْرَج عن أبي هُرَيرَة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما جَاء الذِّئْب فذهب بِابْن احداهما. فَقَالَتْ هَذِهِ لصاحبتها: إِنما ذَهَبَ بِابْنِك أنتِ. وَقالت الأُخرَى: إنما ذَهب بابنك، فَتَحَاكَمَتا إِلى دَاود فَقَضَى بهِ لِلْكُبرى. فَخرجَتَا عَلى سُلَيْمانَ بن دَاود عليهما السلام. فَأخبرتاه فقال: ائتونِي بالسِّكين أشقُّه بيَنكما فقالت الصغرى: لاَ يَرْحَمُكَ الله» انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معًا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور، وأن سليمان أصاب في ذلك، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال. وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي، لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين، ليعرف أمه بالشفقة عليه، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة لعرف الحق بذلك. وهذا شبيه جدًّا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا، وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه. ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، وعن سعيد بن بشر، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس فذكر قصة مطولة، ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها. فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان، واجتمع معه ولدان مثله. فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزي أولئك، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان: فرقوا بينهم. فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال أسود، فعزله. واستدعى الآخر فسأله عن لونه؟ فقال أحمر. وقال الآخر أغبش. وقال الآخر أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة.
وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية، لدلالة القرينة القرآنية عليه. وممن فسّرها بذلك الحسن البصري رحمه الله كما ذكره البخاري وغيره عنه. قال البخراي رحمه الله في صحيحه باب متى يستوجب الرجل القضاء: وقال الحسن: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس، ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا إلى أن قال وقرأ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78- 79] فحمد سليمان ولم يلم داود. ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده انتهى محل الغرض منه. وبه تعلم أن الحسن رحمه الله يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا، ويزيد هذا إيضاحًا ما قدمناه في سورة بني إسرائيل من الحديث المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» كما قدمنا إيضاحه.
المسألة الثانية:
اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة؟ منها هذا الذي ذكرنا هنا. وقد قدمنا في سورة بني اسرائيل طرفًا من ذلك، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة، وسورة الحشر وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة. وقد علمت مما مر في سورة بني إسرائيل أنا ذكرنا طرفًا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الاصل، وهو تنقيح المناط. وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر، وبينا الإجماع أيضًا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط، وأنه لا ينكره إلا مكابر، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ومنها حديث معاذ حين بعثه النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك.
اعلم أن جميع روايات هذا الحديث في المسند والسنن، كلها من طريق شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقًا عن ابن قدامة روضة الناظر أن عبادة بن نسي رواه عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ، فهذا الإسناد وإن كان متصلًا ورجاله معروفون بالثقة، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن أبي بكر الخطيب بلفظ: وقد قيل، إن عبادة بن نسي رواه عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ اهـ منه.
ولفظة قيل صيغة تمريض كما هو معروف. وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه، فإنه لما ذكر فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال: وأخرجه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة به. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. ثم قال ابن كثير: وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين، عن عبادة بن نسي عن عبدالرحمن عن معاذ به نحوه.
واعلم أن النسخة الموجودع بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة 1351 فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا. ففيها محمد بن سعد بن سحان، والصواب محمد بن سعيد لا سعد. وفيها: عن عياذ بن بشر، والصواب عن عبادة بن نسي.
وما ذكره ابن كثير رحمه الله من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب، عن عبادة نسي، عن بعدالرحمن وهو ابن غنم عن معاذ لم أره في سنن ابن ماجه، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور، وهذا لفظه: حدثنا الحسن بن حماد سجادة، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، حدثنا معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: «لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلى فيه» اهـ منه. وما أدري أوهم الحافظ ابن كثير فيما ذكر؟ أو هو يعتقد أن معنى تبيينه في الحديث أي تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور وعلى كل حال فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم عن معاذ فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه. وقال أحمد بن صالح: وضع أربعة آلاف حديث. فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذًا قال للنبي صلى لاله لعيه وسلم إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله لعيه وسلم اجتهد فيها رأيه. وأقره النبي صلى الله لعيه وسلم على ذلك في الطريقتين المذكورتين علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه، وأنه يقول طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه.
والطرق الأخرى التي في المسند والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول، والرواة فيها أيضًا عن معاذ مجاهيل. فمن أين قلتم بصحتها؟ وقد قدمنا أن ابن كثير رحمه الله قال في مقدمة تفسيره: إن الطريقة المذكورة في المسند والسنن بإسناد جيد. وقلنا: لعله يرى أن الحرث المذكور ثقة، وقد وثقه ابن حبان، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ولا متهم.
قال مقيده عفا لاله عنه وغفر له: ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، قال فيه: وقد أقر النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصًا عن الله ورسوله، فقال شعبة: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: «كيف تصنع إن عرض لك قضاء»؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: «فإن لم يكن في كتاب الله»؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم»؟ قال: أجتهد رأي، لا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله» هذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك. لأنه يدل على شهرة الحديث. وأن الذي حدث له الحرث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف في أصحابه منهم ولا كذاب، ولا مجروح. بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟؟ وقال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به. قال أبو بكر الخطيب: وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه، واحتجوا به. فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله صلى الله لعيه وسلم: «لا وصية لوارث» وقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» وقوله: «إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع»، وقوله: «الدية على العاقلة». وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولَكِن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها. فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى منه. وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة:
اعلم أن الاجتهاد الذي دلت عليه نصوص الشرع أنواع متعددة:
منها الاجتهاد في تحقيق المناط، وقد قدمنا كثيرًا من أمثلته في الإسراء.
ومنها الاجتهاد في تنقيح المناط، ومن أنواعه: السبر، والتقسيم، والإلحاق بنفي الفارق.
واعلم أن الاجتهاد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به قسمان:
الأول الإلحاق بنفي الفارق، وهو قسم من تنقيح المناط كما ذكرناه آنفًا. ويسمى عند الشافعي القياس في معنى الأصل، وهو بعينه مفهوم الموافقة. ويسمى أيضًا القياس الجلي.
والثاني من نوعي الإلحاق هو القياس المعروف بهذا الاسم في اصطلاح أهل الأصول.
أما القسم الأول الذي هو الإلحاق بنفي الفارق فلا يحتاج فيه إلى وصف جامع بين الأصل والفرع وهو العلة. بل يقال فيه: لم يوجد بين هذا المنطوق به وهذا المسكوت عنه فرق فيه يؤثر في الحكم البتة فهو مثله في الحكم. وأقسامه أربعة: لأن المسكوت عنه إما أن يكون مساويًا للمنطق به في الحكم، أو أولى به منه، وفي كل منهما إما أن يكون نفي الفارق بينهما مقطوعًا به أو مظنونًا. فالمجموع أربعة:
الأول منها أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي الفارق كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فالضرب المسكوت عنه أولى بالحكم الذي هو التحريم من التأفيف المنطوق به مع القطع بنفي الفارق، وكقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] فشهادة أربعة عدول المسكوت عنها أولى بالحكم وهو القبول من المنطوق به وهو شهادة العدلين مع القطع بنفي الفارق.
والثاني منها أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به أيضًا، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيًا بل مظنونًا ظنًا قويًا مزاحمًا لليقين. ومثاله نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء. فالتضحية بالعمياء المسكوت عنها أولى بالحكم وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيًا بل مظنونًا ظنًا قويًا. لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتًا وثمنًا وقيمة، وهذا هو الظاهر. وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتًا وقيمة. وهناك احتمال آخر: هو الذي منع من القطع بنفي الفارق، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية بالعوراء: أن العور مظنة الهزال.