فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}.
يحكمان تعني أن هناك خصومة بين طرفين، والحرْث: إثارة الأرض وتقليب التربة؛ لتكون صالحة للزراعة، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضًا في قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205].
والحرْث ذته لا يهلك، إنما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار، فسمَّى الزرع حَرْثًا؛ لأنه ناشيء عنه، كما في قوله تعالى أيضًا: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117].
لَكِن، لماذا سَمَّي الحرْث زَرْعًا، مع أن الحَرْث مجرد إعداد الأرض للزراعة؟ قالوا: لُيبيِّن أنه لا يمكن الزرع إلا بحرْث؛ لأن الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض، وهذه العملية تساعد على إدخال الهواء للتربة وتجفيفها من الماء الزائد؛ لأن الأرض بعد عملية الريِّ المتكررة يتكوَّن عليها طبقة زَبَدية تسدُّ مسَام التُّربة، وتمنع تبخُّر المياه الجوفية التي تُسبِّب عطبًا في جذور النبات.
لذلك، ليس من جَوْدة التربة أن تكون طينية خالصة، أو رملية خالصة، فالأرض الطينية تُمسك الماء، والرملية يتسرَّب منها الماء، وكلاهما غير مناسب للنبات، أما التربة الجيدة، فهي التي تجمع بين هذه وهذه، فتمسح للنبات بالتهوية اللازمة، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته.
لذلك سَمَّي الزرْع حَرْثًا؛ لأنه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته، وليُلفت أنظارنا أنه لا زَرْع بدون حَرْث، كما جاء في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63- 64].
ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله في الكون، هي أنك لابد أن تعمل لتنال، فربُّك وخالقك قدَّم لك العطاء حتى قبل أنْ تُوجد، وقبل أن يُكلِّفك بشيء، ومكثت إلى سنِّ البلوغ، تأخذ من عطاء الله دون أنْ تُحاسبَ على شيء من تصرفاتَك.
وكذلك الأمر في الآخرة سيعطيك عطاءً لا ينتهي، دون أن تتعب في طلبه، هذا كُلُّه نظير أنْ تطيعه في الأمور الاختيارية في سِنِّ التكليف.
إذن: لقد نِلْتَ قبل أن تعمل، وستنال في الآخرة كذلك بدون أنْ تعمل، فلابد لك من العمل بين بدايتك ونهايتك لتنال الثمرة.
لذلك، في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: «أَعْطُوا الأجير أجره قبل أنْ يجفَّ عَرَقُه» ما دام قد عمل فقد استحق الأجر، والأمر كذلك في مسألة الحرث.
ثم يقول تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} [الأنبياء: 78] هذه خصومة بين طرفين، احتكما فيها لداود عليه السلام: رجل عنده زرع، وآخر عنده غنم، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزرع، فاشتكى صاحبُ الزرع صاحبَ الغنم لداود، فحكم في هذه القضية بأن يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم، وربما وجد سيدنا داود أن الزرع الذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها.
فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان- عليه السلام- وكان في الحادية عشرة من عمره، وعرف منهما حكومة أبيه في هذه القضية، فقال: غير هذا أرفق بالفريقين فسمَّي حُكْم أبيه رِفْقًا، ولم يتهمه بالجَوْر مثلًا، لَكِن عنده ما هو أرفق.
فلما بلغت مقالته لأبيه سأله: ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان: نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتى تعود كما كانت، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زَرْعه.
ومعنى {نَفَشَتْ} [الأنبياء: 78] نقول: نفش الشيء أي: أخذ حَجْمًا فوق حَجْمه، كما لو أخذتَ مثلًا قطعة من الخبز أو البقسماط ووضعتَها في لبن أو ماء، تلاحظ أنها تنتفش ويزداد حجمها نقول: انتفشت، كما نقول لمن يأخذ حجمًا أكثر من حجمه: أنت نافش ريشك.
وقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أي مراقبين.
يقول الحق سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا}.
فداود وسليمان- عليهما السلام- نبيان، لكل منهما مكانته، وقد أعطاهما الله حُكْمًا وعلمًا، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضية، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود، ولا يطعن في حُكْمه.
وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى، ومحكمة درجة ثانية، ومحكمة النقْض، ومحكمة الاستئناف، وإياك أن تظن أن محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء درجة أولى أنها تطعن فيها.
فهذا مثل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه؛ لذلك فالقاضي الابتدائي قد يحكم في قضية، ويتم تأجيلها إلى أنْ يترقى إلى قاضي استئناف، فيقرأ نفس القضية لَكِن بنظرة أخرى، فيأتي حُكْمه غير الأول.
ثم يقول تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} [الأنبياء: 79] حينما جمع السياق القرآني بين داود وسليمان أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفًا مِمَا وهبهما الله، فقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مظهر من مظاهر امتيازه، وهنا يُبيِّن مَيْزةً لداود عليه السلام: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} [الأنبياء: 79].
والتسخير: قَهْر المسَخّرل على فعل لا يستطيع أنْ ينفكَّ عنه، وليس مختارًا فيه، ونلحظ هنا الارتقاء من الأَدْنى إلى الأعلى: أولًا: سخّر الجبال وهي جماد، ثم الطير وهي أرْقَى من الجماد، لَكِن إنْ تصوَّرْنا التسبيح من الطير؛ لأنه حَيٌّ، وله روح، وله حركة وصوت مُعبّر، فكيف يكون التسبيح من الجبال الصماء؟
بعض العلماء حينما يستقبلون هذه الآية يأخذونها بظواهر التفسير، لا بُعمْق ونظر في لُبِّ الأشياء، فالجبال يروْنها جامدة، ليس لها صوت مُعبّر كما للطير؛ لذلك يعجبون من القول بأن الجبال تُسبِّح، فكيف لها ذلك وهي جمادات؟
لَكِن؛ ما العجب في ذلك، وأنت لو قُمْتَ بمَسْح شامل لأجناس الناس الأرض، واختلاف لغاتهم وألسنتهم وأشكالهم وألوانهم بحسْب البيئات التي يعيشون فيها، فالناس مختلفون في مثل هذه الأمور متفقون فقط في الغرائز، فالجوع والعطش والخوف والضحك والعواطف كلها غرائز مشتركة بين جميع الأجناس، وهذه الغرائز المشتركة ليس فيها اختيار.
ألم تَرَ إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] فما دام أنه سبحانه الذي يُضحِك، والذي يُبكِي، فلن نختلف في هذه الأمور.
فالكلام- إذن- من الأشياء التي يختلف فيها الناس، وهذا الاختلاف ليس في صوت الحروف، فالحروف هي هي، فمثلًا حين ننطق شرشل ينطقها أهل اللغات الأخرى كذلك: شين وراء وشين ولام، فنحن- إذن- متحدون في الحروف، لَكِن نختلف في معاني الأشياء.
وقد يعزّ على بعض الحناجر أن تنطقَ ببعض الحروف بطبيعة تكوينها، فغيْر العربي لا ينطق الضاد مثلًا، فليس عندهم إلا الدال، أما في العربية فعندنا فَرْق بين الدال المرقّقة والضاد المفخّمة، وفرْق بين السين والثاء، وبين الزاي والذال، وبين الهمزة والعَيْن، لذلك نجد غير العربي يقول في على: ألي، فليس له قدرة على نُطْق العين، وهو إنسان ناطق بلغة ومُتكلِّم.
فإذا كنا- نحن البشر- لا يفهم بعضُنا لغاتِ بعض، فهذا عربي، وهذا إنجليزي، وهذا فرنسي.. إلخ. فإذا لم تتعلم هذه اللغة لا تفهمها.
ومعلوم أن اللغة بنت المحاكاة وبنت السماع، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان، والأبكم الذي لا يتكلم كان أصمَّ لا يسمع، والطفل ينطق بما سمع، فلو وُضِع الطفل الإنجليزي في بيئة عربية لنطق بالعربية.. وهكذا.
فلماذا نعجب حين لا نفهم لغة الطَّيْر أو لغة الجمادات، وهي أشياء مختلفة عنّا تمامًا، فلا يعني عدم فَهْمِنا للغاتهم أنهم ليست لهم لغة فيما بينهم يتعارفون عليها ويُعبِّرون بها.
إذن: لا تستبعد أنْ يكونَ للأجناس الأَدْنى منك لغات يتفاهمون بها وأنت لا تفهمها، بدليل أن الله تعالى أعطانا صورة من لغات الطير، وهذه يعلمها مَنْ علَّمه الله، كما امتنَّ الله على سليمان وعلَّمه لغة الطير، ففهم عنها وخاطبها.
وقد حكة الحق سبحانه وتعالى عنه: {يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] ولولا أن الله علَّمه لغة الطير ما عَلِمها.
وها هو الهدهد يقول لسليمان عليه السلام لما تفقَّد الطير، ولم يجد الهدهد فتوعَّده: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
ونلحظ هنا دِقَّة سليمان- عليه السلام- في استعراض مملكته، فلم يترك شيئًا حتى الهدهد، ونلحظ أدبه في قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} [النمل: 20] فقد اتهم نظره وشَكَّ أولًا، فربما الهدهد يكون موجودًا، ولم يَرَهُ سليمان.
وانظر إلى قَوْل الهدهد للملك: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] ثم معرفته الدقيقة بقضية التوحيد والعقائد: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24].
ويعترض الهدهد على هذا الشرك، ويردُّ عليه بشيء خاص به، وبظاهر تُهمه: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25].
فاختار الهدهد مسألة إخراج الخبْء؛ لأن منه طعامه، فلا يأكل من ظاهر الأرض، بل لابد أنْ ينبشَ الأرض، ويُخرِج خبأها ليأكله.
وكذلك النمل، وهو أقلُّ من الهدهد، فقد كان للنملة مع سليمان لغة، وكلام، وفَهْم عنها: {حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قولها} [النمل: 19].
إذن: كان الكلام للنمل، لَكِن فَهمه سليمان؛ لذلك قال: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19].
ذلك لأننا لا نفهم هذه اللغات إلا إذا فَهَّمنا الله إياها.
ومع هذا حينما وقف العلماء أمام هذه الآية {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] قالوا: يعني تسبيح دلالة، فهي بحالها تدلُّ على الخالق سبحانه، وليس المراد التسبيح على حقيقته، وأَوْلى بهم أنْ يعترفوا لها بالتسبيح؛ لَكِنه تسبيح لا نفهمه نحن، كما قال تعالى: {ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات، وإلا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث.
والمزيّة التي أعطاها الله تعالى لنبيه داود- عليه السلام- ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأن الجبال تُسبِّح معه ومع غيره، إنما الميزة في أنها تُردِّد معه، وتوافقه التسبيح، وتجاوبه، فحين يقول داود: سبحان الله تردد وراءه الجبال: سبحان الله، وكأنهم جميعًا كورس يردد نشيدًا واحدًا.
وليس معنى الجماد أنه جامد لا حياةَ فيه، فهو جماد من حيث صورة تكوينه، ولو تأمَلتَ المحاجر في طبقات الأرض لوجدت بين الأحجار حياة وتفاعلًا وحركةً منذ ملايين السنين، ونتيجة هذه الحركة يتغير لَوْنُ الحجر وتتغير طبيعته، وهذا دليل الحياة فيها، انظر مثلًا لو دهنتَ الحجرة لَوْنًا معينًا تراه يتغير مع مرور الزمن، إذن: في هذه الجمادات حياة، لَكِن لا ندركها.
وسبق أن أشرنا إلى أن الذين يقولون في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبَّح الحصى في يده. أن هذه المقولة غير دقيقة تحتاج إلى تنقيح عقلي، فالحجر مُسبِّح في يد رسول الله، وفي يد أبي جهل، إذن: قل: إن المعجزة هي أن رسول الله سمع تسبيح الحصى في يده.
فما من شيء في كون الله إلا وله حياة تناسبه، وله لغة يُسبِّح الله بها، أدركناها أم لم ندركها؛ لأن الكلام فرع وجود حياة، وكل شيء في الوجود له حياة، فعلبة الكبريت هذه التي نستعملها يقول العلماء: إن بين ذراتها تفاعلات تكفي لإدارة قطار حول العالم. هذه التفاعلات دليل حركة وحياة.
ألم يقُلْ الحق سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
فكلُّ ما يقال له شيء- إلا وَجْه الله- هالك، والهلاك يعني أن فيه حياةً؛ لأن الهلاك ضد الحياة، كما جاء في قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
فكُلُّ شيء في الوجود له حياة بقانونه، وليس من الضروري أن تسمع الكلام حتى تعترف بوجوده، فهناك مثلًا لغة الإشارة، وهي لغة مفهومة ومُعبِّرة، أَلاَ ترى مثلًا إلى الخادم ينظر إليه سيده مجرد نظرة يفهم منها ما يريد أنْ يُقدِّمه للضيف مثلًا.
البحارة لهم إشارات يتعارفون عليها ويتفاهمون بها. جهاز التلغراف لَوْن من ألوان الأداء ووسيلة من وسائل التفاهم، إذن: الأداء والبيان ليس من الضروري أنْ يتمّ بالكلام المسموع، إنما تتفاهم الأجناس ويُكلِّم بعضها بعضًا كلّ بلغته، فإذا أراد الله أن يفيض عليك من إشراقاته أعطاك من البصيرة والعلم ما تفهم به فقدت غيرك من الأجناس.
لذلك يقول تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] والتنوين هنا دالٌّ على التعميم، فلكل شيء صلاته التي تناسبه، وتسبيحه الذي يناسب طبيعته.
والحق- سبحانه وتعالى- حين يعرض قضية التسبيح والخضوع والقَهْر من المخلوقات جميعًا لله يأتي الكلام عامًا في كل الأجناس بلا استثناء، إلا في الكلام عن الإنسان، فإن التسبيح والخضوع خاصٌّ ببعض الناس.
اقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} [الحج: 18] هكذا بلا استثناء، أمّا في الإنسان، فقال: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
ثم يقول تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] نعم، الحق سبحانه خالق كل شيء، وفاعل كل شيء، لَكِن مع ذلك يؤكد هذه الحقيقة حتى لا نتعجب من تسبيح الطير والجماد، فالله هو الفاعل، وهو المانح والمحرك.
ثم يقول الحق سبحانه عن داود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ}.
{وَعَلَّمْنَاهُ} [الأنبياء: 80] العِلْم نقل قضية مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها، والإنسان دائمًا في حجة إلى معرفة وتعلُّم، لأنه خليفة الله في الأرض، ولن يؤدي هذه المهمة إلا بحركة واسعة بين الناس، هذه الحركة تحتاج إلى فَهْم ومعرفة وتفاعل وتبادل معارف وثقافات، فمثلًا تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتى يصير لَيِّنًا قابلًا للتشكيل، الماء لابد أنْ نغليَه لكذا وكذا.. إلخ.
وقضايا العلم التي تحتاجها حركة الإنسان في الأرض نوعان: نوع لم يأمن الله فيه الخَلْق على أنفسهم، فجاء من الله بالوحي، حتى لا يكون للعقل مجال فيه، ولا تختلف حوله الأهواء والرغبات، وهذا هو المنهج الذي نزل يقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا.
لَكِن الأمور التي لا تختلف فيها الأهواء، بل تحاول أن تلتقي عليها وتتسابق إليها، وربما يسرق بعضهم من بعض، هذه الأمور تركها الحق- سبحانه- لعمل العقول وطموحاتها، وقد يلهم فيها بالخاطر أو بالتعلم، ولو من الأدنى كما تعلَّم ابن آدم قابيل من الغراب، كيف يواري سوأة أخيه، فقال سبحانه: {فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
والقضية العلمية قد يكون لها مقدمات في الكون حين نُعمِل فيها العقل، ونُرتِّب بعض الظواهر على بعض، نتوصل منها إلى حقائق علمية، وقد تأتي القضية العلمية بالتجربة، أو بالخاطر يقذفه الله في قَلْب الإنسان.
فقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] يصح أن نقول: كان هذا التعليم بالوحي، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرَّوْع، وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السلام.
واللَّبوس: أبلغ وأحكم من اللباس، فاللباس من نفس مادة لبس هي الملابس التي تستر عورة الإنسان، وتقيه الحر والبرد، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81].
أما في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس، في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري، وتتمثل هذه في الرأس والصدر، ففي الرأس المخ، وفي الصدر القلب، فإن سِلَمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداوته وجَبْره.
إذن: اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس؛ لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس، وكانت قبل داود مَلْساء يتزحلق السيف عليها، فلما صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتى ينكسر عليها السيف؛ لذلك قال تعالى بعدها: {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] أي: تحميكم في حَرْبكم مع عدوكم، وتمنعكم وتحوطكم.
إذن: ألهمنا داود عليه السلام، فأخذ يُفكِّر ويبتكر، وكل تفكير في ارتقاء صَنْعه إنما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة، فيحاول اللاحق تلافي أخطاء السابق، وهكذا حتى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه، أو على الأقل يتجنب عيوب سابقة؛ لذلك يُسمُّونه آخر موديل.
ثم يقول تعالى: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصعبة، واختار سبحانه موقف البأس أمام العدو؛ ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن لمواجهة الكافر، والأخذ بأسباب النجاة إذا تمَّتْ المواجهة.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
فليست مهمة الحديد في الحياة أنه ينفع الناس فحسْب، إنما له مهمة قتالية أيضًا؛ لذلك قال: {وَأَنزَلْنَا الحديد} [الحديد: 25] كما قال: {نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن} [الإنسان: 23] فإنْ كان القرآن للهداية فالحديد يُؤيِّد هذه الهداية، حيث نضرب به على أيدي الكافرين العاصين، ونحمي به صدور المؤمنين المصدِّقين؛ لذلك قال: {وَأَنزَلْنَا} [الحديد: 25] أي: من أعلى مع أنه خارج من الأرض.
إذن: مسألأة الحديد في الأرض نعمة كبيرة من نِعَم الله علينا، بها نحفظ أنفسنا من العدو، فالحق- سبحانه وتعالى- خلق الخَلْق ولم يتركه هكذا يُدبِّر أمره، إنما خلقه ووضع له قانون حمايته وصيانته، وهذا يستحقّ مِنّا الشكر الدائم الذي لا ينقطع. اهـ.