فصل: فصل الفراسة في السنة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل الفراسة في السنة:

ومن أنواع الفراسة ما أرشدت إليه السنة النبوية من التخلص من المكروه بأمر سهل جدا ومن تعريض بقول أو فعل.
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رجل «يا رسول الله إن لي جارا يؤذيني قال انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس إليه فقالوا ما شأنك فقال إن لي جارا يؤذيني فجعلوا يقولون اللهم العنه اللهم أخرجه فبلغه ذلك فأتاه فقال ارجع إلى منزلك فوالله لا أوذيك أبدا».
الحيلة المباحة:
فهذه وأمثالها هي الحيل التي أباحتها الشريعة وهي تحيل الإنسان بفعل مباح على تخلصه من ظلم غيره وأذاه لا الاحتيال على إسقاط فرائض الله واستباحة محارمه.
وفي المسند والسنن عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في صلاته فلينصرف فإن كان في صلاة جماعة فليأخذ بأنفه ولينصرف».
في المعاريض مندوحة:
وفي السنن كثير من ذكر المعاريض التي لا تبطل حقا ولا تحق باطلا كقوله صلى الله عليه وسلم للسائل «ممن أنتم؟ قالوا نحن من ماء». وقوله للذي ذهب بغريمه ليقتله «إن قتله فهو مثله».
وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. وكان الصديق رضي الله عنه يقول في سفر الهجرة لمن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا بين يديك! فيقول هاد يدلني على الطريق.
وكذلك الصحابة من بعده؛ فروى زيد بن أسلم عن أبيه قال قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلل من اليمن فقسمها بين الناس فرأى فيها حلة رديئة فقال كيف أصنع بهذه إن أعطيتها أحدا لم يقبلها.

.فصل تعريض عبد الرحمن بن أبي ليلى:

ومن ذلك قول عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وقد أقيم على دكان بعد صلاة الجمعة فقام على الدكان وقال إن الأمير أمرني أن ألعن على بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله تعريض الحجاج بن علاط ومن ذلك تعريض الحجاج بن علاط بل تصريحه لامرأته بهزيمة الصحابة وقتلهم حتى أخذ ماله منها.

.فصل فراسة خزيمة بن ثابت:

ومن الفراسة الصادقة فراسة خزيمة بن ثابت حين قدم وشهد على عقد التبايع بين الإعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حاضرا تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يخبر به.

.فراسة حذيفة بن اليمان:

ومنها فراسة حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا إلى المشركين فجلس بينهم فقال أبو سفيان لينظر كل منكم جليسه فبادر وقال لجليسه من أنت قال فلان بن فلان.

.فراسة المغيرة بن شعبة:

ومنها فراسة المغيرة بن شعبة وقد استعمله عمر على البحرين فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم فخافوا أن يرده عليهم فقال دهقانهم إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا قالوا مرنا بأمرك قال تجمعون مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر وأقول إن المغيرة اختان هذا ودفعه إلى فجمعوا ذلك فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين إن المغيرة اختان هذا فدفعه إلى. فدعا عمر المغيرة فقال ما يقول هذا قال كذب أصلحك الله إنما كانت مائتي ألف. فقال ما حملك على ذلك قال العيال والحاجة. فقال عمر للدهقان ما تقول فقال لا والله لأصدقنك والله ما دفع إلى قليلا ولا كثيرا ولَكِن كرهناه وخشينا أن ترده علينا. فقال عمر للمغيرة ما حملك على هذا قال إن الخبيث كذب على فأردت أن أخزيه.
وخطب المغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة وكان الفتى جميلا فأرسلت إليهما المرأة لابد أن أراكما وأسمع كلامكما فاحضرا إن شئتما. فأجلستهما بحيث تراهما. فعلم المغيرة أنها تؤثر عليه الفتى فأقبل عليه فقال لقد أوتيت حسنا وجمالا وبيانا فهل عندك سوى ذلك قال نعم فعدد عليه محاسنه ثم سكت. فقال المغيرة فكيف حسابك فقال لا يسقط على منه شيء وإني لأستدرك منه أقل من الخردلة. فقال له المغيرة لَكِني أضع البدرة في زاوية البيت فينفقها أهل بيتي على ما يريدون فما أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها.
فقالت المرأة والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلى من الذي يحصي على أدنى من الخردلة.

.فراسة عمرو بن العاص:

ومنها فراسة عمرو بن العاص لما حاصر غزة فبعث إليه صاحبها أن أرسل إلى رجلا من أصحابك أكلمه ففكر عمرو بن العاص وقال ما لهذا الرجل غيري فخرج حتى دخل عليه فكلمه كلاما لم يسمع مثله قط فقال له حدثني هل أحد من أصحابك مثلك فقال لا تسل من هواني عندهم بعثوني إليك وعرضوني لما عرضوني ولا يدرون ما يصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فمر برجل من نصارى غسان فعرفه فقال يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. فرجع فقال له الملك ما ردك إلينا قال نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع من معي من بني عمي فأردت الخروج فآتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة رجال خيرا من أن يكون عند واحد. قال صدقت عجل بهم. وبعث إلى البواب خل سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال لا عدت لمثلها. فلما كان بعد رآه الملك فقال أنت هو قال نعم على ما كان من غدرك.

.فراسة الحسن بن علي:

ومن ذلك فراسة الحسن بن على رضي الله عنهما لما جيء إليه بابن ملجم قال له أريد أن أسارك بكلمة فأبى الحسن وقال تريد أن تعض أذني فقال ابن ملجم والله لو أمكنتني منها لأخذتها من صماخها.
قال أبو الوفاء بن عقيل فانظر إلى حسن رأي هذا السيد الذي قد نزل به من المصيبة العاجلة ما يذهل الخلق وفطنته إلى هذا الحد وإلى ذلك اللعين كيف لم يشغله حاله عن استزادة الجناية.

.من فراسة الحسين:

ومن فراسة أخيه الحسين رضي الله عنهما أن رجلا ادعى عليه مالا فقال الحسين ليحلف على ما ادعاه ويأخذه فتهيأ الرجل لليمين وقال والله الذي لا إله إلا هو فقال الحسين قل والله والله والله إن هذا الذي تدعيه عندي وفي قبلي ففعل الرجل ذلك. وقام فاختلفت رجلاه وسقط ميتا فقيل للحسين لم فعلت ذلك أي عدلت عن قوله والله الذي لا إله إلا هو إلى قوله والله والله والله فقال كرهت أن يثني على الله فيحلم عنه.

.فراسة العباس:

ومن ذلك فراسة العباس رضي الله عنه فيما ذكره مجاهد قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ وجد ريحا فقال ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ فاستحيى الرجل ثم قال ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ فإن الله لا يستحي من الحق فقال العباس ألا نقوم كلنا فنتوضأ؟» هكذا رواه الفريابي عن الأوزاعي مرسلا ووصله عن محمد بن مصعب فقال عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد جرت مثل هذه القضية في مجلس عمر رضي الله عنه.
قال الشعبي كان عمر في بيت ومعه جرير بن عبد الله البجلي فوجد عمر ريحا فقال عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ فقال جرير يا أمير المؤمنين أو يتوضأ القوم جميعا فقال عمر يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية ونعم السيد أنت في الإسلام.

.فراسة عبد الملك بن مروان:

ومن أحسن الفراسة فراسة عبد الملك بن مروان لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه فبعث معه ورقة لطيفة إلى عبد الملك فلما قرأها قال أتدري ما فيها قال لا قال فيها عجب كيف ملكت العرب غير هذا؟ أفتدري ما أراد؟ قال لا قال حسدني عليك فأراد أني أقتلك فقال الشعبي لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني فبلغ ذلك ملك الروم فقال والله ما أخطأ ما كان في نفسي ومن دقيق الفطنة أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ فتحمله رتبته على نصرة الخطأ وذلك خطأ ثان ولَكِن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره.
ومن دقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا فدفعه إلى امرأته ثم طلبه منها فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقبا ولا أمارة فقال المنصور منذ كم تزوجتها قال منذ سنة قال بكرا أو ثيبا قال ثيبا قال فلها ولد من غيرك قال لا قال فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتخذ له حاد الرائحة وغريب النوع فدفعها إليه وقال له تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت منه إلى رجل كانت تحبه وقد كانت دفعت إليه المال فتطيب منه ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه فأتى به المنصور فسأله من أين لك هذا الطيب فلجلج في كلامه فدفعه إلى والي الشرطة فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه وإلا اضربه ألف سوط فلما جرد للضرب أحضر المال على هيأته فدعا المنصور صاحب المال فقال أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك قال نعم قال هذا مالك وقد طلقت المرأة منك.

.فصل ذكاء المهدي:

ومنها أن شريكا دخل على المهدي فقال للخادم هات عودا للقاضي يعني البخور فجاء الخادم بعود يضرب به فوضعه في حجر شريك فقال ما هذا فبادر المهدي وقال هذا عود أخذه صاحب العسس البارحة فأحببت أن يكون كسره على يديك فدعا له وكسره ذكاء المعتضد ومن ذلك ما يذكر عن المعتضد أنه كان جالسا يشاهد الصناع فرأى فيهم أسود منكر الخلقة شديد المرح يعمل ضعف ما يعمل الصناع ويصعد مرقاتين مرقاتين فأنكر أمره فأحضره وسأله عن أمره فلجلج فقال لبعض جلسائه أي شيء يقع لكم في أمره قالوا ومن هذا حتى تصرف فكرك إليه لعله لا عيال له وهو خالي القلب فقال قد خمنت في أمره تخمينا ما أحسبه باطلا إما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة أو يكون لصا يتستر بالعمل فدعا به واستدعى الضراب فضربه وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه فقال لي الأمان قال نعم إلا فيما يجب عليك بالشرع فظن أنه قد أمنه. فقال قد كنت أعمل في الآجر فاجتاز رجل في وسطه هميان فجاء إلى مكان فجلس وهو لا يعلم مكاني فحل الهميان وأخرج منه دنانير فتأملته وإذا كله دنانير فساورته وكتفته وسددت فاه وأخذت الهميان وحملته على كتفي وطرحته في الأتون وطينته فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه فطرحتها في دجلة. فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير من منزله وإذا على الهميان مكتوب فلان ابن فلان فنادى في البلد باسمه فجاءت امرأة فقالت هذا زوجي ولى منه هذا الطفل خرج وقد كذا وكذا ومعه ألف دينار فغاب إلى الآن فسلم الدنانير إليها وأمرها أن تعتد وأمر بضرب عنق الأسود وحمل جثته إلى ذلك الأتون.
وكان للمعتضد من ذلك عجائب منها أنه قام ليلة فإذا غلام قد وثب على ظهر غلام فاندس بين الغلمان فلم يعرفه فجاء فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد فيجده ساكنا حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام فإذا به يخفق خفقا شديدا فركضه برجله واستقره فأقر فقتله.
ومنها أنه رفع إليه أن صيادا ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كف مخضوبة بحناء وأحضر بين يديه فهاله ذلك.
وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هنالك ففعل فأخرج جرابا آخر فيه رجل فاغتم المعتضد وقال معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه ثم أحضر ثقة له وأعطاه الجراب وقال طف به على كل من يعمل الجرب ببغداد فإن عرفه أحد منهم فاسأله عمن باعه منه فإذا دلك عليه فاسأل المشترى عن ذلك ونقر عن خبره.
فغاب الرجل ثلاثة أيام ثم عاد فقال مازلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراه مع عشرة جرب وشكا البائع شره وفساده ومن جملة ما قال أنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها فلا يعرف لها خبر وادعى أنها هربت والجيران يقولون إنه قتلها.
فبعث المعتضد من كبس منزل الهاشمي وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما فلما رآها امتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاها وحبس الهاشمي حتى مات في الحبس.

.فصل من الأجوبة الحصيفة:

ومن محاسن الفراسة أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران فقال لوزيره الفضل بن الربيع ما هذه قال عروق الرماح يا أمير المؤمنين ولم يقل الخيزران لموافقته اسم أمه.
ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مسواك ما جمع هذا قال محاسنك يا أمير المؤمنين. وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة فقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعس المدينة بالليل فرأى نارا موقدة في خباء فوقف وقال يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار وسأل رجلا عن شيء هل كان؟ قال لا أطال الله بقاءك فقال قد علمتم فلم تتعلموا هلا قلت لا وأطال الله بقاءك؟
وسئل العباس أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
وسئل عن ذلك قباث بن أشيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه.
وكان لبعض القضاة جليس أعمى وكان إذا أراد أن ينهض يقول يا غلام اذهب مع أبي محمد ولا يقول خذ بيده قال والله ما أخل بها مرة.
ومن ألطف ما يحكى في ذلك أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال سعد يا أمير المؤمنين فقال أي السعود أنت قال سعد السعود لك يا أمير المؤمنين وسعد الذابح لأعدائك وسعد بلع على سماطك وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك.
ويشبه هذا أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور كبرت سنك يا معن قال في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال إنك لجلد قال على أعدائك. قال وإن فيك لبقية قال هي لك.
قول التي هي أحسن:
وأصل هذا الباب قوله تعالى {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن فرب حرب وقودها جثث وهام أهاجها القبيح من الكلام.
وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولَكِن ليقل لقست نفسي».
وخبثت ولقست وغثت متقاربة المعنى. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث لبشاعته وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق وإرشادا إلى استعمال الحسن وهجر القبيح في الأقوال كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال.