فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب عن الشبهة الثانية: وهي التمسك بقوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أن نقول من ظن عجز الله تعالى فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لابد فيه من التأويل وفيه وجوه: أحدها: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} لن نضيق عليه وهو كقوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [العنكبوت: 12] أي يضيق: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق: {وَأَمَا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه، واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا، وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية لَكِن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك.
وثانيها: أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى.
وثالثها: أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفراء والزجاج، قال الزجاج: نقدر بمعنى نقدر.
يقال: قدر الله الشيء قدرًا وقدره تقديرًا، فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: {فظن أن لن نقدر عليه} بضم النون والتشديد من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب: يقدر عليه بالتخفيف على المجهول، وروي أنه دخل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه، فقال معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فعرفت فيها فلم أجد لنفسي خلاصًا إلا بك فقال: وما هي؟ قال: يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من القدر لا من القدرة.
ورابعها: فظن أن لن نقدر: أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازًا عن الآخر.
وخامسها: أنه استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد.
وسادسها: أن على قول من يقول هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلًا قبل الرسالة، ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان.
ثم إنه يرده بالحجة والبرهان.
والجواب عن الثالث: وهو التمسك بقوله: {إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فهو أن نقول إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام، ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة التأويل لأنا لو أجريناها على ظاهرها، لوجب القول بكون النبي مستحقًّا للعن، وهذا لا يقوله مسلم، وإذا وجب التأويل فنقول لا شك أنه كان تاركًا للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلمًا.
والجواب عن الرابع: أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، بل المراد به المحنة، لَكِن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل لأجل ذنب أنها عقوبة.
والجواب عن الخامس: أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل.
المسألة الرابعة:
قال صاحب الكشاف في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} [البقرة: 17] وقوله: {يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] ومنهم من اعتبر أنواعًا مختلفة من الظلمات فإن كان النداء في الليل فهناك ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت، وإن كان في النهار أضيف إليه ظلمة أمعاء الحوت، أو أن حوتًا ابتلع الحوت الذي هو في بطنه، أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة، أما قول من قال: إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام، وإن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات فما قدمناه يغني عن ذلك.
أما قوله: {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ} فالمعنى بأنه لا إله إلا أنت، أو بمعنى أي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» وعن الحسن: ما نجاه الله تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم.
أما قوله سبحانك فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أنه ظن العجز، وإنما قال: {سبحانك} لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورًا أو شهوة للانتقام، أو عجزًا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
أما قوله: {إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فالمعنى ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك، كأنه قال: كنت من الظالمين، وأنا الآن من التائبين النادمين، فاكشف عني المحنة، يدل عليه قوله: {فاستجبنا لَهُ} وفيه وجه آخر وهو أنه عليه السلام وصفه بقوله: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ} بكمال الربوبية ووصف نفسه بقوله: {إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين} بضعف البشرية والقصور في أداء حق الربوبية، وهذا القدر يكفي في السؤال على ما قال المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ** سكوتي كلام عندها وخطاب

وروى عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أراد الله حبس يونس عليه السلام، أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحمًا، ولا تكسر له عظمًا. فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر، فسمع يونس عليه السلام حسًا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر، قال فسبح، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا مثله».
أما قوله: {ونجيناه مِنَ الغم} أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته، وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذ دعانا: كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا.
روى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، ما دعا بها عبد مسلم قط وهو مكروب إلا استجاب الله دعاءه».
قال صاحب الكشاف: قرئ ننجي وننجي ونجى والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال: نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين بالنجاء، فتعسف بارد التعسف. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ}.
وهو يونس بن متى، سمي بذلك لأنه صاحب الحوت، كما قال تعالى: {فَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] والحوت النون، نسب إليه لأنه ابتلعه، ومنه قول الشاعر:
يا جيد القصر نِعم القصر والوادي ** وجيدًا أهله من حاضر بادي

توفي قراقره والوحش راتعه ** والضب والنون والملاح والحادي

يعني أنه يجتمع فيه صيد البر والبحر، وأهل المال والظهر، وأهل البدو والحضر.
{إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: يعني مراغمًا للملك وكان اسمه حزقيا ولم يكن به بأس، حكاه النقاش.
الثاني: مغاضبًا لقومه، قاله الحسن.
الثالث: مغاضبًا لربه، قاله الشعبي، ومغاضبته ليست مراغمة، لأن مراغمة الله كفر لا تجوز على الأنبياء، وإنما هي خروجه بغير إذن، فكانت هي معصيته.
وفي سبب ذهابه لقومه وجهان:
أحدهما: أنه كان في خُلُقِه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة ضاق ذرعه بها ولم يصبر لها، وكذلك قال الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل} [الأحقاف: 35] قاله وهب.
الثاني: أنه كان من عادة قومه أن من كذب قتلوه، ولم يجربواْ عليه كذبًا، فلما أخبرهم أن العذاب يحل بهم ورفعه الله عنهم، قال لا أرجع إليهم كذّابًا، وخاف أن يقتلوه فخرج هاربًا.
{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: فظن أن لن نضيق طرقه، ومنه قوله: {وَمَن قَدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه، قاله ابن عباس.
الثاني: فظن أن لن نعاقبه بما صنع، قاله قتادة، ومجاهد.
الثالث: فظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا، حكاه ابن شجرة، قال الفراء: معناه لن نُقِدرَ عليه من العقوبة ما قَدَّرْنَا، مأخوذ من القدر، وهو الحكم دون القدرة، وقرأ ابن عباس: نقدّر بالتشديد، وهو معنى ما ذكره الفراء، ولا يجوز أن يكون محمولًا على العجز عن القدرة عليه لأنه كفر.
الرابع: أنه على معنى استفهام، تقديره: أفظن أن لن نقدر عليه، فحذف ألف الاستفهام إيجازًا، قاله سليمان بن المعتمر.
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} فيه قولان:
أحدهما: أنها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة جوف الحوت، قاله ابن عباس، وقتادة. الثاني: وقتادة.
الثاني: أنها ظلمة الحوت في بطن الحوت، قاله سالم بن أبي الجعد.
ويحتمل ثالثًا: أنها ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة.
{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك عقوبة من الله، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديبًا، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان.
قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} وفي استجابة الدعاء قولان:
أحدهما: أنه ثواب من الله للداعي ولا يجوز أن يكون غير ثواب.
والثاني: أنه استصلاح فربما كان ثوابًا وربما كان غير ثواب.
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} يحتمل وجهين:
أحدهما: من الغم بخطيئته.
الثاني: من بطن الحوت لأن الغم التغطية. وقيل: إن الله أوحى إلى الحوت ألاّ تكسر له عظمًا، ولا تخدش له جلدًا.
وحينما صار في بطنه: قال يا رب اتخذتَ لي مسجدًّا في مواضع ما اتخذها أحد.
وفي مدة لبثه في بطن الحوت ثلاثة أقاويل:
أحدها: أربعون يوما.
الثاني: ثلاثة أيام.
الثالث: من ارتفاع النهار إلى آخره. قال الشعبي: أربع ساعات، ثم فتح الحوت فاه فرأى يونس ضوء الشمس، فقال: سبحانك إني كنت من الظالمين، فلفظه الحوت. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى}.
التقدير واذكر ذا النون والنون الحوت وصاحبه يونس بن متَّى عليه السلام، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»، وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»، وهذا الحديث وقوله: «لا تفضلوني على موسى» يتوهم أنها يعارضان قوله عليه السلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» والانفصال عن هذا بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم» متأخرًا في التاريخ وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر، والوجه الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليه السلام، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولَكِنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان، وسبب الحديث يقتضي هذا، وذلك أن يهوديًا قال لا والذي فضل موسى على العالمين، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليه السلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما وقع له، فنهيه عليه السلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا بين الأنبياء» وهذا كله مع قوله: «أنا سيد ولد آدم» وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد، بين صحيح وتأمل هذا، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة سيد ولفظة خير شيئان، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض، وقوله: {مغاضبًا} قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارًا بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر، وروي أنه كان شابًا فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ الربع تحت الحمل ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم {ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48] أي اصبر ودم على الشقاء بقومك، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب {مغاضبًا} ربه واستفزه إبليس، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا، فأخبرهم يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرجل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أَنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذبًا وقال والله لا انصرفت إليهم أَبدًا.
وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي، واختلف الناس في قوله تعالى: {فظن أَن لن نقدر عليه} فقالت فرقة استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبة ع وهذا قول مردود، وقالت فرقة ظن أَن لن يضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الإسراء: 30]، وقالت فرقة هو من القدر، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة، وقالت فرقة الكلام بمعنى الاستفهام، أَي أفظن أن لن يقدر الله عليه، وحكة منذر بن سعيد أَن بعضهم قرأ {أفظن} بالألف، وقرأ الزهري {تُقَدّر} بضم النون وفتح القاف وشد الدال، وقرأ الحسن {يقدر} وعنه أَيضًا {نقدر}، وبعد هذا الكلام حذف كثير أقتضب لبيانه في غير هذه الآية، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه، واختلف الناس في جمع {الظلمات} ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس ع ويصح أن يعبر بـ: {الظلمات} عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجدًّا في موضع لم يتخذه أحد من قبلي» و{أن} مفسرة نحو قوله تعالى: {أن امشوا} [ص: 6] وفي هذا نظر وقوله تعالى: {من الظالمين} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره فاستجاب الله تعالى له وأخرجه إلى البر، ووصف هذا يأتي في موضعه، و{الغم} ما كان ناله حين التقمه الحوت، وقرأ الجمهور القراء {ننْجي} بنونين الثانية ساكنة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {نُجي} بنون واحدة مضمومة وشد الجيم، ورويت عن أبي عمرو، وقرأت فرقة {نُنَجّي} بنونين الأولى مضمونة والثانية مفتوحة والجيم مشددة، فأما القراءة الأولى والثالثة فبينتان الأولى فعلها معدى بالهمزة والأخرى بالتضعيف، وأَما القراءة الوسطى التي هي بنون واحدة مضمونة وجيم مشددة وياء ساكنة فقال أَبو على لا وجه لها وإنما هي وهم من السامع، وذلك أن عاصمًا قرأ {ننجي} والنون الثانية لا يجوز إظهارها لأنها تخفى مع هذه الحروف يعني الجيم وما جرى مجراها فجاء الإخفاء يشبهها بالإدغام، ويمتنع أن يكون الأصل {ننجي} ثم يدعو اجتماع النونين إلى إدغام إحداهما في الجيم لأَن اجتماع المثلين إنما يدعو إلى ذلك إذا كانت الحركة فيهما متفقة، ويمتنع أَن يكون الأصل {نجي} وتسكن الياء ويكون المفعول الذي لم يسم فاعله المصدر كأنه قال: {نجي} النجاء المؤمنين لأن هذه لا تجيء إلا في ضرورة فليست في كتاب الله والشاهد فيها قول الشاعر: الوافر:
ولو ولدت قفيزة جرو كلب ** لسب بذلك الجرو الكلابا

وأيضًا فإن الفعل الذي يبنى للمفعول إذا كان ماضيًا لم يسكن آخره ع والمصاحف فيها نون واحدة كتبت كذلك من حيث النون الثانية مخفية. اهـ.