فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، وصبره على ما أصابه، ثم إنابته ونجاته، ليثتبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة الصافات وفي سورة ن. وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى- من أرض الموصل، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم، فأبق من بيت المقدس إلى يافا. ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحًا شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصًا سيهلكون بسببه، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتًا ليونس فابتلعه، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى، ودعوتها إلى الله تعالى، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنه العذاب، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
تنبيهات:
الأول: يونس عليه السلام يسمى في التوراة يونان وهو عبراني. ويقال إنه من جَت حافَر وهي قرية في سبط زبولون، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نُبِّئَ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.
الثاني: أكثر المفسرين كما حكاه الرازي على أن يونس ذهب مغاضبًا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولًا، أن يترك ولا يقاصّ. قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولًا الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في مغاضبًا للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر. فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد مفاعلة وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وقول الباقلاني من الأشعرية على ما حكاه ابن حزم في الملل: وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لسانًا، قال رحمه الله: بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور: وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.
ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد. ويقع منهم أيضًا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلًا، بل ينبههم على ذلك ولابد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عزّ وجلّ، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرًا واحدًا.
ثم قال في الكلام على يونس عليه السلام: وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبًا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلًا على الله الكذب، وزائدًا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبيٌّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينًا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عزّ وجلّ، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ وجلّ. وأما قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميًّا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى؟» فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيق عليه كما قال تعالى: {وَأَمَا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، أي: ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك: وإنما نهى الله عزّ وجلّ، محمدًا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عزّ وجلّ عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى: أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقبًا في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيرًا وقربة إلى الله عزّ وجلّ، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم و1ضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعًا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجامًا. وبلاغة وانتظامًا. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفًا، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبًا، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزًا، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربيّ البليغ طبعًا، الذائق جبلة، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاهـ. غضبًا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن يُنسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقًا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.
الثالث: عدَّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس مُحالًا. فكتب بعض المحققين مجيبًا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السموات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم بالزفا وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكًا رشده متمكنًا من التسبيح والدعاء. انتهى.
الرابع: الجمع في قوله: {فِي الظُّلُمَاتِ} إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17].
الخامس: قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: دعاؤه: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام: {فَكَشَفْنَا} (84)، لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته. ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. وردّ بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضًا تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.
فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريقة الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنبًا. كما أشار إليه بقوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} فما أوما إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيرًا له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.
السادس: قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لاسيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي: دعوة ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى} أي واذكر ذان النون. والنون: الحوت. {وذا} بمعنى صاحب. فقوله: {ذَا النون} معناه صاحب الحوت. كما صرح الله بذلك في القلم في قوله: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] الآية. وإنما أضافه إلى الحوت لأنه التقمه كما قال تعالى: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142].
وقوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر:
الأول أن المعنى {لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي لن نضيق عليه في بطن الحوت. ومن إطلاق قدر بمعنى ضيق في القرآن قوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] أي ويضيق الرزق على من يشاء، وقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَا آتَاهُ الله} [الطلاق: 7] الآية. فقوله: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضيق عليه رزقه.
الوجه الثاني أن معنى {أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} لن نقضي عليه ذلك. وعليه فهو من القدر والقضاء. وقدر بالتخفيف تأتي بمعنى قدر المضعفة: ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] أي قدره الله. ومه قول الشاعر وأنشده ثعلب شاهدًا لذلك:
فليست عشيات الحمى برواجع ** لنا أبدًا ما أورق السلم النضر

ولا عائذ ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

والعرب تقول: قدر الله لك الخير يقدره قدرًا، وكضرب يضرب، ونصر ينصر، بمعنى قدره لك تقديرًا. ومنه على أصح القولين ليلة القدر لأن الله يقدر فيها الأشياء. كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] والقدر بالفتح، والقدر بالسكون: ما يقدره الله من القضاء. ومنه قول هدبةبن الخشرم:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر ** وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري

أما قول من قال: إن {أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} من القدرة فهو قول باطل بلا شك. لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء، كما لا يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مُغَاضِبًا} أي في حال كونه مغاضبًا لقومه. ومعنى المفاعلة فيه: أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه، فأوعدهم بالعذاب. ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج. قاله أبو حيان في البحر. وقال أيضًا: وقيل معنى {مُغَاضِبًا} غضبان، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكًا. نحو عاقبت اللص، وسافرت. اهـ.
واعلم أن قول من قال: {مُغَاضِبًا} أي مغاضبًا لربه كما روي عن ابن مسعود، وبه قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير، واختاره الطبري والقتبي، واستحسنه المهدوي يجب حمله على معنى القول الأول.
أي مغاضبًا من أجل ربه. قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا: وقال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى: مغاضبًا من أجل ربه كما تقول: غضبت لك أي من أجلك، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى انتهى منه. والمعنى على ما ذكر: مغاضبًا قومه من أجل ربه، أي، من أجل كفرهم به، وعصيانهم له. وغير هذا لا يصح في الآية.
وقوله تعالى: {فنادى فِي الظلمات}.
أي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. وأن في قوله: {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ} مفسرة، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى {أن لا إله}، ومعنى {سبحانك}، ومعنى الظلم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: {فاستجبنا لَهُ} أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت، وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات هذا النداء العظيم، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم أوضحه في غير هذا الموضع.
وبين في بعض المواضع: أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه. وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم.
وبين في بعضها: أنه خرج بغير إذن كخروج البعد الآبق، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه.
وبين في بعضها: أن الله تداركه برحمته. ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما، ولَكِنه تداركه بها فنبذ غير مذموم، قال تعالى في الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بالعراء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [الصافات: 139- 148]. فقوله في آيات الصافات المذكورة {إِذْ أَبَقَ} أي حين أبق، وهو من قول العرب: عبد آبق، لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق. واستحقاق الملامة في قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} لأن المليم اسم فاعل ألام إذا فعل ما يستوجب الملام. وقوله: {فَسَاهَمَ} أي قارع بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة. لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر. ومن ذلك قول الشاعر:
قتلنا المدحضين بكل فج ** فقد قرت بقتلهم العيون

وقوله: {فَنَبَذْنَاهُ} أي طرحناهـ. بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل. والعراء: الصحراء. وقول من قال: العراء الفضاء أو المتسع من الأرض، أو المكان الخالي أو وجه الأرض راجع إلى ذلك، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة:
ورفعت رجلًا لا أخاف عثارها ** ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وشجرة اليقطين: هي الدباء. وقوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي مريض لما أصابه من التقام الحوت إياهـ. وقال تعالى في القلم: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعراء وَهُوَ مَذْمُومٌ فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} [القلم: 48- 50] فقوله في آية القلم هذه: {إِذْ نادى} أي نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي مملوء غمًا، كما قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} وهو قول ابن عباس ومجاهد. وعن عطاء وأبي مالك {مَكْظُومٌ}: مملوء كربًا. قال الماوردي: والفرق بين الغم والكرب: أن الغم في القلب. والكرب في الأنفاس. وقيل {مَكْظُومٌ} محبوس. والكظم الحبس. ومنه قولهم: كظم غيظه، أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. وقيل: المكظوم المأخوذ بكظمه، وهو مجرى النفس، قاله المبرد انتهى من القرطبي.