فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَزَكَرِيَّا} أي: واذكر خبره: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} أي: حين طلب أن يهبه ربه ولدًا يكون من بعده نبيًّا، ولا يتركه فردًا وحيدًا بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عِمْرَان أيضًا. وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في شرح الأسماء الحسنى: الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: دعاءَهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} تعليل لما فصّل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي: كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثارُ في على إلى للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن إلى تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي: ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: مخبتين متضرعين. وقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي: اذكر نبأ التي أحصنته إحصانًا كليًا، عن الحلال والحرام جميعًا. كما قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عِمْرَان: 47] و[مريم: 20]. والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي: نفخنا الروح في عيسى فيها. أي: أحييناه في جوفها. فنزّل نفخ الروح في عيسى، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل المعنى: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي: أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها: {وَجَعَلْنَاهَا وَابنها} أي: نبأهما: {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: {ءَايَتَيْنِ} كما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12]؟ قلت: لأن حالهما بمجموعها آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً وَابنها آيَةً. فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين}.
كان أمر زكرياء الذي أشار إليه قوله: {إذ نادى ربه} آية من آيات الله في عنايته بأوليائه المنقطعين لعبادته فخصّ بالذكر لذلك.
والقول في عطف {وزكرياء} كالقول في نظائره السابقة.
وجملة {رب لا تذرني فردا} مبيّنة لجملة {نادى ربه}.
وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيهًا له بالمُنفرد الذي لا قرين له.
قال تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا} [مريم: 95]، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له، قال الحارث بن هشام:
وعَلمتُ أني إن أُقاتل واحدًا ** أقتل ولا يَضررُ عدوي مشهدي

فشُبه من لا ولد بالفرد لأن الولد يصيّر أباه كالشفع لأنه كجزء منه.
ولا يقال لذي الولد زوجٌ ولا شفع.
وجملة {وأنت خير الوارثين} ثناء لتمهيد الإجابة، أي أنت الوارث الحق فاقض على من صفتك العلية شيئًا.
وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوب {وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، ودلّ ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية [سورة مريم: 6] {يرثني ويرث من آل يعقوب} حُذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها.
والتقدير: يرثني الإرثَ الذي لا يداني إرثَك عبادك، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرُّف قدرتك، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرًا أبديًا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.
وإصلاح زوجه: جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرًا.
وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خاشعين}.
جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداءً من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [الأنبياء: 48]. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين.
وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها. وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبَهم وهجِّيراهم.
والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والجِدّ للخيرات، أي لفعلها، تشبيهًا للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.
والخيرات: جمع خَيْر بفتح الخاء وسكون الياء وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضدّ الشرّ، فهو ما فيه نفع.
وأما قوله تعالى: {فيهن خيرات حِسان} [الرحمن: 70] فيحتمل أنه مثل هذا، ويحتمل أنه جمع خَيْرة بفتح فسكون الذي هو مخفف خَيِّره المشدّد الياء، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية.
وقد تقدم الكلام على {الخَيْرات} في قوله تعالى: {وأولئك لهم الخيرات} في [سورة براءة: 88].
وعطف على ذلك أنهم يدْعُون الله رغبةً في ثوابه ورهبة من غضبه، كقوله تعالى: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9].
والرغَب والرهَب بفتح ثانيهما مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر {يدعوننا} لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه، أو يقدر مضاف، أي ذوي رغب ورهب، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.
وذكر فعل الكون في قوله تعالى: {وكانوا لنا خاشعين} مثل ذكره في قوله تعالى: {كانوا يسارعون}.
والخشوع: خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة. {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة، كما قال الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] الآية.
هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالبًا، وأيضًا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكًا وزُورًا، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} الذي هو في حكم الصلة أيضًا، فكأنه قيل: والتي نفخنا فيها من روحنا، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء.
وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر، ليرى الناس مثالًا من التكوين الأول كما أشار إليه قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
والنفخ، حقيقته: إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين.
وأطلق هنا تمثيلًا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهًا لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل: إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم.
والظرفية المفادة بـ في كونُ مريم ظرفًا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه، ولذلك قيل {فيها} ولم يقل فيه للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد، كأنه قيل: فنفخنا في بطنها.
وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح: هو القوة التي بها الحياة، قال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]، أي جعلت في آدم روحًا فصار حَيًا.
وحَرف مِن تبعيضي، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [سورة المؤمنين: 50] {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو: {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]، {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها} [الشمس: 12]. وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس.
وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة.
ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا}.
لقد بلغ زكريا- عليه السلام- من الكبر عتيًا، ولم يرزقه الله الولد، فتوجه إلى الله: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 4- 5].
فلما بشَّره الله بالولد تعجَّب؛ لأنه نظر إلى مُعْطيات الأسباب، كيف يرزقه الله الولد، وقد بلغ من الكِبَر عتيًا وامرأته عاقر، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ على هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 8- 9].
يُطمئنُ الله تعالى نبيَّه زكريا: اطرح الأسباب الكونية للخَلْق؛ لأن الذي يُبشِّرك هو الخالق.
وقد تعلَّم زكريا من كفالته لمريم أن الله يُعطي بالأسباب، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب، وقد تباري أهل مريم في كفالتها، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريا، ففاز بكفالة مريم: {ذلك مِنْ أَنَبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وما كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
وإجراء القرعة لأهمية هذه المسألة، وعِظَم شأنها، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر، حتى لا تتدخّل فيها الأهواء.
فلما كفَل زكريا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه، ويرعى شئونها، وفي أحد الأيام دخل عليها، فوجد عندها طعامًا لم يأْتِ به: {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
وهنا مَلْخظ وإشارة إلى ضرورة متابعة ربِّ الأسرة لأسرته، فإذا ما رأى في البيت شيئًا لم يأْتِ به فليسأل عن مصدره، فربما امتدت يد الأولاد إلى ما ليس لهم، إنه أصل لقانون من أين لك هذا؟ الذي نحتاج إلى تطبيقه حين نشكّ.
التقط زكريا إجابة مريم التي جاءتْ سريعة واثقة، تدل على الحق الواضح الذي لا يتلجلج: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
نعم، هذه مسألة يعرفها زكريا، لَكِنها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره، فقد ذكَّرْته بها مريم: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} [آل عمران: 38].
أي: ما دام الأمر كذلك، فَهَبْ لي ولدًا يرثُ النوبة من بعدي. ثم يذكر حيثيات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه، وكوْنَ امرأته عاقرًا، وهي حيثيات المنع لا حيثيات الإنجاب؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب.
وهكذا، استفاد زكريا من هذه الكلمة، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد، وحينما جاءها الحَمْل في المسيح بدون الأسباب الكونية.
وهنا يدعو زكريا ربه، فيقول: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89] أي: لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرض والسماء، ولك كل شيء. {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا}.
فلم تكُنْ استجابة الله لزكريا أنْ يهبه الولد حال كِبَره وكوْن امرأته عاقرًا، إنما أيضًا سماه. ولله تعالى سِرٌّ في هذه التسمية؛ لأن الناس أحرار في وَضْع الأسماء للمُسمّيات كما قلنا فلا مانع أن نسمي فتاة زنجية قمر؛ لأن الاسم يخرج عن معناه الأصلي، ليصير عَلَمًا على هذا المسمى. إذن: هناك فَرْق بين الاسم وبين المسمَّى.