فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب عن السؤال الثاني، وهو الفرق بين قوله في سورة الأنبياء {وَتَقَطَّعُوا}، وفي سورة المؤمنون {فَتَقَطَّعُوا} بفاء التعقيب: أنه ورد في آي الأنبياء قبل هذه الآية تأنيسًا لنبيا صلى الله عليه وسلم قوله: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، ثم قال: {وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وما كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] إلى قوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء: 9]، فنبهوا على السؤال، ثم ذكر من قصص الأنبياء أوضحه وأجلاه لمن اعتبر، وأورد ذلك إيراد التلطف بذكر تخليص أولئك العيلة، عليهم السلام، وقال تعالى: {وما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [الأنبياء: 25- 26]، ونظير هذا قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]. فهذه الآي في قوة أن لو قيل: نحن نبين لهم وهم يكفرون، فهو سبحانه يذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم أحوال الأمم مع الرسل مع مشاهدة الآيات تأنيسًا له صلى الله عليه وسلم وتذكيرًا بالصبر على قومه، فعلى هذا المنهج جرى الوارد من قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} [الأنبياء: 93] أي نبهناهم على السؤال، وأوضحنا لهم أمر من تقدمهم وعاقبة الاستجابة لمن تمسك بهدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يشبه شدة الوعيد ليبقى رجاؤه، عليه السلام، في استجابتهم، فلم يخل معنى الكلام مع الإخبار بتفرقهم عن بعض إبقاء تأنيس مناسبًا لما تقدمه، ولهذا لم يقع بعد الآية تسجيل بتصميم على الكفر ولا إمعان في طرف التخويف الوارد في آية المؤمنون من قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] إلى قوله: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [
المؤمنون: 56] كما في آية الأنبياء آنفًا.
أما قوله في المؤمنون: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 53] فمنزل على ما قبله منزلة قوله في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] إلى قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]، وهذا وعيد شديد لمن حقت عليه كلمة العذاب ولم يجد عليه التذكار، فكان مجموع هذه الآي في قوة أن لو قيل لهم: قد بين لكم، وأطلعتم على مآل من كذب، وخوطبتم بما قيل للرسل: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وملة الكل ملة واحدة، ولم تؤمروا بما لا تطيقونه، فتقطعتم. إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كما جرى في سورة الأنبياء فقيل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} أي فتفرقوا وما أجدي عليهم القرآن شيئًا، فهذه الآية أشد في التخويف والترهيب من الأخرى، وكل يناسب ما قبله. ولو وردت إحداهما موضع الأخرى لما ناسب، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثالث: أن قوله في آية المؤمنون {زُبرا} تأكيد لافتراقهم، وانتصابه على الحال الواردة بيانًا وتأكيدًا لقبح تفرقهم وشنيع مرتكبيهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية هنا من التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء لبنائها على غير ما قصد هنا، لما تقدمها من تأنيس نبينا صلى الله عليه وسلم، وتعريفه بما منح سبحانه متقدمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم، وهو، عليه السلام، قد قيل له: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فقدم له، عليه السلام، في سورة الأنبياء من قصصهم ما ثبت فؤاده، وصار جليل هذا التأنيس مما بنيت عليه السورة، وعلى ذلك جرت سورة مريم وسورة طه على ما مهدته وبسطته في ترتيب هذه السور الكريمة، فمن حيث الإشارة إلى ما ذكر لم يكن ليناسب ذلك تأكيد افتراقهم وتشتتهم، ولما رجع الكلام للآية الثانية، بعد تثبيته، عليه السلام، وتأنيسه، إلى التعريف بمرتكبات الأمم، وذكر ما استحقوا به ما عوقبوا به، وإن كلًا من المكذبين أخذ بذنبه، كان ذلك مظنة تأكيد المرتكب، فقيل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} [المؤمنون: 53]، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الرابع: أن تعقيب آية الأنبياء بقوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] وإن كان وعيدًا وتهديدًا فليس في شدة التهديد ومخوف الوعيد كالواقع في سورة المؤمنون، يوضح ذلك ويبينه ما اتصل بكل من الآيتين من قوله في آية الأنبياء: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، فذكر عند وجوعهم إليه سبحانه جزاء من أجاب وأحسن، وطوى الكلام عن الإفصاح بحكم الطرف الآخر من ذكر من أساء، فلم يجر لهم ذكر مفصح به كما في الطرف الآخر، مع أن إجمال قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 93] وما أعقب به من قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء: 94] كقوله في آية المؤمنون: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55- 56] فقد وضح مناسبة المتبع به في كل من الآيتين لما تقدمه، ولم يكن ليناسب عكس الوارد، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} أي كلكم خِلْقَتُه، وكلكم اتفقتم في الفقر، وفي الضعف، وفي الحاجة. {وَأَنَا رَبُّكُمْ}: وخالقكم على وصفِ التَّفَرُّد.
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}.
اختلفوا وتنازعوا، واضطربت أمورهم، وتفرَّقَتْ أحوالُهم، فاستأصلتهم البلايا. قوله: {كل إلينا راجعون}: وكيف لا..وهم ما يتقلبون إلاَّ في قبضة التقدير؟
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}.
مَنْ تَعنَّى لله لم يخسر على الله، ومَنْ تَحَمَّلَ لله مشقةً وَجَبَ حقُّه على الله: قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بعد قوله: {يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} دليل على أن من لا يكون مؤمنًا لا يكون علمه صالحًا ففائدة قوله ها هنا: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في المآل والعاقبة، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يُخْتَمُ له بالسعادة، فيكون في الحال مؤمنًا وعملُه يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذٍ لا يضيع سَعْيُه. اهـ.

.تفسير الآيات (95- 97):

قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا غير صريح في أن هذا الرجوع بعد الموت، بينه بقوله: {وحرام} أي وممنوع ومحجور {على قرية} أي أهلها {أهلَكِناها} أي بالموت بعظمتنا {أنهم لا يرجعون} أي إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلًا من غير إحساس، بل إلينا بموتهم رجعوا فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيمًا وعذابًا دون النعيم والعذاب الأكبر، ولقد دل على قدرته قوله: {حتى إذا فتحت} بفتح السد الذي تقدم وصفنا له، وأن فتحه لابد منه وقراءة ابن عامر بالتشديد تدل على كثرة التفتيح أو على كثرة الخارجين من الفتح وإن كان فرحة واحدة كما أشار إطلاق قراءة الجماعة بالتخفيف {يأجوج وماجوج} فخرجوا على الناس؛ وعبر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه بقوله: {وهم} أي والحال أنهم {من كل حدب} أي نشز عال من الأرض {ينسلون} أي يسرعون، من النسلان وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أن الأرض كرية {واقترب الوعد الحق} وهو حشر الأموات الذي يطابقه الواقع، إذا وجد قربًا عظيمًا، كأن الوعد طالب له ومجتهد فيه.
ولما دلت صيغة افتعل على شدة القرب كما في الحديث أن الساعة إذ ذاك مثل الحامل المتمّ، علم أن التقدير جوابًا لإذا: كان ذلك الوعد فقام الناس من قبورهم: {فإذا هي شاخصة} أي واقفة جامدة لا تطرف لما دهمهم من الشدة، ويجوز وهو أقرب أن تكون إذا هذه الفجائية هي جواب إذا الشرطية، وهي تقع في المجازات سادة مسد الفاء، فإذا جاءت الفاء معها متفاوتة على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، فالمعنى: إذا كان الفتح ووقع ما تعقبه فاجأت الشخوص {أبصار الذين كفروا} أي منهم، لما بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه من الأهوال، قائلين: {يا ويلنا} أي حضرنا الويل فهو نديمنا فلا مدعو لنا غيره {قد كنا} أي في الدنيا {في غفلة من هذا} أي مبتدئة من اعتقاد هذا البعث فكنا نكذب به فعمتنا الغفلة.
ولما كان من الوضوح في الدلائل والرسوخ في الخواطر بحيث لا يجهله أحد، أضربوا عن الغفلة فقالوا: {بل كنا ظالمين} أي بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمل دلائله، والنظر في مخايله، وتقبل كلام الرسل فيه، فأنكرنا ما هو أضوأ من الشمس. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلَكِناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
فاعلم أن قوله: {وَحَرَامٌ} خبر فلابد له من مبتدأ وهو إما قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أو شيء آخر أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعًا كان رجوعهم واجبًا فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا.
أما الأول: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر.
وأما الثاني: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لَكِن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين: الأول: أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء:
وإن حرامًا لا أرى الدهر باكيًا.. على شجوه إلا بكيت على عمرو يعني وإن واجبًا، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلَكِناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين: أحدهما: أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن.
وثانيها: لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل.
الوجه الثاني: أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله: {لاَ يَرْجِعُونَ} صلة زائدة كما أنه صلة في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُد} [الأعراف: 12] والمعنى حرام على قرية أهلَكِناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين، وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبرًا لقوله: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أما إذا جعلناه خبرًا لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلَكِناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضًا على هذا أي أنهم لا يرجعون.
أما قوله تعالى: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ واقترب الوعد الحق فَإِذَا هي شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن حتى متعلقة بحرام فأما على تأويل أبي مسلم فالمعنى أن رجوعهم إلى الآخرة واجب حتى أن وجوبه يبلغ إلى حيث أنه إذا فتحت يأجوج وماجوج، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا، والمعنى أنهم يكونون أول الناس حضورًا في محفل القيامة، فحتى متعلقة بحرام وهي غاية له ولَكِنه غاية من جنس الشيء كقولك دخل الحاج حتى المشاة.
وحتى هاهنا هي التي يحكى بعدها الكلام.
والكلام المحكى هو هذه الجملة من الشرط والجزاء أعني قوله: {وَإِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ واقترب الوعد الحق} فهناك يتحقق شخوص أبصار الذين كفروا، وذلك غير جائز لأن الشرط إنما يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، والشرط والجزاء لابد وأن يكونا متقاربين، قلنا التفاوت القليل يجري مجرى المعدوم، وأما على التأويلات الباقية فالمعنى أن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم الساعة.
المسألة الثانية:
قوله: {حتى إِذَا فُتِحَتْ} المعنى فتح سد يأجوج وماجوج فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث في فتحت لما حذف المضاف لأن يأجوج وماجوج مؤنثان بمنزلة القبيلتين، وقيل حتى إذا فتحت جهة يأجوج.
المسألة الثالثة:
هما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج وماجوج يخرجون حين يفتح السد.
المسألة الرابعة:
قيل: السد يفتحه الله تعالى ابتداء، وقيل: بل إذا جعل الله تعالى الأرض دكًا زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد.
أما قوله تعالى: {وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فحشو في أثناء الكلام، والمعنى إذا فتحت يأجوج واقترب الوعد الحق شخصت أبصار الذين كفروا، والحدب النشز من الأرض، ومنه حدبة الأرض، ومنه حدبة الظهر، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {مِن كُلّ جدث يَنسِلُونَ}، اعتبارًا بقوله: {فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] وقرئ بضم السين ونسل وعسل أسرع ثم فيه قولان، قال أكثر المفسرين إنه كناية عن يأجوج وماجوج، وقال مجاهد: هو كناية عن جميع المكلفين أي يخرجون من قبورهم من كل موضع فيحشرون إلى موقف الحساب، والأول هو الأوجه وإلا لتفكك النظم، وأن يأجوج وماجوج إذا كثروا على ما روى في الخبر، فلابد من أن ينشروا فيظهر إقبالهم على الناس من كل موضع مرتفع.
أما قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} فلا شبهة أن الوعد المذكور هو يوم القيامة.
أما قوله: {فَإِذَا هِيَ} فاعلم أن إذا هاهنا للمفاجأة فسمى الموعد وعدًا تجوزًا، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ولو قيل: {إِذَا هِيَ شاخصة} أو فهي شاخصة كان سديدًا، أما لفظة {هِيَ} فقد ذكر النحويون فيها ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون كناية عن الأبصار، والمعنى فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة أبصارهم كني عن الإبصار ثم أظهر.
والثاني: أن تكون عمادًا ويصلح في موضعها هو فيكون كقوله: {إِنَّهُ أَنَا الله} [النمل: 9] ومثله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] وجاز التأنيث لأن الأبصار مؤنثة وجاز التذكير للعماد وهو قول الفراء، وقال سيبويه الضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة، يعني أن القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، ومعنى الكلام أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم، ومن توقع ما يخافونه، ويقولون: {ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا: إنه غير كائن بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وعبادة الأوثان، واعلم أنه لابد قبل قوله: {يا ويلنا} من حذف والتقدير: يقولون يا ويلنا. اهـ.