فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)}.
قوله: {وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال: {رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا} أي منفردًا وحيدًا لا ولد لي.
وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} أي خير من يبقى بعد كل من يموت، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولدًا فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ: {فاستجبنا لَهُ} دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى}.
وقد تقدّم مستوفى في سورة مريم {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}.
قال أكثر المفسرين: إنها كانت عاقرًا فجعلها الله ولودًا. فهذا هو المراد بإصلاح زوجه.
وقيل: كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعًا، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها، فتكون ولودًا بعد أن كانت عاقرًا، ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فالضمير المذكور راجع إليهم، وقيل: هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى.
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه {رَغَبًا وَرَهَبًا} أي يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة، وقيل الرغب: رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب: رفع ظهورها، وانتصاب رغبًا ورهبًا على المصدرية أي: يرغبون رغبًا ويرهبون رهبًا، أو على العلة أي للرّغب والرّهب، أو على الحال، أي راغبين وراهبين.
وقرأ طلحة بن مصرِّف {ويدعونا} بنون واحدة، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده، وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي: متواضعين متضرّعين.
{والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر خبرها، وهي مريم، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر، وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أضاف سبحانه الروح إليه، وهو للملك تشريفًا وتعظيمًا، وهو يريد روح عيسى {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} قال الزجاج: الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل.
وقيل: إن التقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] والمعنى: أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما.
وقيل: أراد بالآية الجنس الشامل، لما لكل واحد منهما من آيات، ومعنى: {أحصنت} عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها.
وقيل: المراد بالفرج: جيب القميص، أي أنها طاهرة الأثواب، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم.
ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} والأمة: الدّين كما قال ابن قتيبة، ومنه: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة} [الزخرف: 22] أي على دين، كأنه قال: إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله، وقيل: المعنى إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة، وقيل: المعنى إن هذه ملتكم ملة واحدة، وهي ملة الإسلام.
وانتصاب {أمة واحدة} على الحال، أي متفقة غير مختلفة، وقرئ: {إن هذه أمتكم} بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر أمة واحدة.
وقرئ برفع {أمتكم} ورفع {أمة} على أنهما خبران؛ وقيل: على إضمار مبتدأ أي: هي أمة واحدة.
وقرأ الجمهور برفع أمتكم على أنه الخبر ونصب أمة على الحال كما قدّمنا.
وقال الفراء والزجاج: على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} خاصة، لا تعبدوا غيري كائنًا ما كان.
{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرّقوا فرقًا في الدين حتى صار كالقطع المتفرّقة.
وقال الأخفش: اختلفوا فيه، وهو كالقول الأول.
قال الأزهري: أي تفرّقوا في أمرهم، فنصب أمرهم بحذف في، والمقصود بالآية المشركون، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله.
وقيل: المراد: جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعًا وتقسموه بينهم، فهذا موحّد، وهذا يهوديّ، وهذا نصرانيّ، وهذا مجوسيّ، وهذا عابد وثن.
ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون} أي: كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث، لا إلى غيرنا.
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة، لا كلها، إذ لا يطيق ذلك أحد {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله واليوم الآخر {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا جحود لعمله، ولا تضييع لجزائه، والكفر ضدّ الإيمان، والكفر أيضًا جحود النعمة وهو ضدّ الشكر، يقال: كفر كفورًا وكفرانًا، وفي قراءة ابن مسعود: {فلا كفر لسعيه}.
{وَإِنَّا لَهُ كاتبون} أي لسعيه حافظون، ومثله قوله سبحانه: {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195].
{وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلَكِناها}.
قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة {وحرام} وقرأ أهل الكوفة: {وحرم} وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، ورويت القراءة الثانية عن على وابن مسعود وابن عباس: وهما لغتان مثل حلّ وحلال.
وقرأ سعيد بن جبير {وحرم} بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم.
وقرأ عكرمة وأبو العالية {حرم} بضم الراء وفتح الحاء والميم، ومعنى {أهلَكِناها}: قدّرنا إهلاكها، وجملة: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره {حرام} أو على أنه فاعل له سادّ مسدّ خبره.
والمعنى: وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء، وقيل: إن {لا} في {لا يرجعون} زائدة أي حرام على قرية أهلَكِناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، واختار هذا أبو عبيدة؛ وقيل: إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب، أي واجب على قرية، ومنه قول الخنساء:
وإن حرامًا لا أرى الدهر باكيًا ** على شجوه إلا بكيت على صخر

وقيل: حرام: أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة، على أن لا زائدة.
قال النحاس: والآية مشكلة، ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل، وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون.
قال الزجاج وأبو على الفارسي: إن في الكلام إضمارًا، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوب أهلها، أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون.
{حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ}: {حتى} هذه هي التي يحكى بعدها الكلام، ويأجوج وماجوج قبيلتان من الإنس، والمراد بفتح يأجوج وماجوج فتح السدّ الذي عليهم، على حذف المضاف، وقيل: إن حتى هذه هي التي للغاية.
والمعنى: أن هؤلاء المذكورين سابقًا مستمرّون على ما هم عليه إلى يوم القيامة، وهي يوم فتح سدّ يأجوج وماجوج {وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} الضمير ليأجوج وماجوج، والحدب، كلّ أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب، مأخوذ من حدبة الأرض، ومعنى {يَنسِلُونَ} يسرعون.
وقيل: يخرجون.
قال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع.
يقال: نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلًا ونسولًا ونسلانًا، أي أن يأجوج وماجوج من كلّ مرتفع من الأرض يسرعون المشي ويتفرقون في الأرض؛ وقيل: الضمير في قوله: {وهم} لجميع الخلق، والمعنى: أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كلّ مرتفع من الأرض.
وقرئ بضم السين. حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود.
وحكى هذه القراءة أيضًا الثعلبي، عن مجاهد، وأبي الصهباء.
{واقترب الوعد} عطف على {فتحت}، والمراد: ما بعد الفتح من الحساب.
وقال الفراء والكسائي وغيرهما: المراد بالوعد الحق: القيامة والواو زائدة؛ والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج وماجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة، فاقترب جواب إذا، وأنشد الفراء:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى، ومنه قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه} [الصافات: 103، 104].
وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا {فَإِذَا هِيَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} وقال البصريون: الجواب محذوف، والتقدير: قالوا: يا ويلنا.
وبه قال الزجاج، والضمير في {فَإِذَا هِىَ} للقصة، أو مبهم يفسره ما بعده، وإذا للمفاجأة.
وقيل: إن الكلام تمّ عند قوله: {هي}، والتقدير: فإذا هي، يعني: القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: {شاخصة أبصار الذين كفروا} على تقديم الخبر على المبتدأ، أي أبصار الذين كفروا شاخصة، و{يا ويلنا} على تقدير القول: {قَدْ كُنَّا في غَفْلَةٍ مّنْ هذا} أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب {بَلْ كُنَّا ظالمين} أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل.
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: وهبنا له ولدها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كانت عاقرًا فجعلها الله ولودًا ووهب له منها يحيى، وفي قوله: {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} قال: أذلاء.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} قال: رغبًا في رحمة الله ورهبًا من عذاب الله.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} قال: «رغبًا هكذا ورهبًا هكذا وبسط كفيه»، يعني: جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خاشعين}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: إن هذا دينكم دينًا واحدًا.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال: تقطعوا: اختلفوا في الدين.
وأخرج الفريابي وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلَكِناها} قال: وجب إهلاكها {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} قال: لا يتوبون.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَحَرَّمَ على قَرْيَةٍ} قال: وجب على قرية {أهلَكِناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} كما قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكِنا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [ياس: 31].
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مّن كُلّ حَدَبٍ} قال: شرف {يَنسِلُونَ} قال: يقبلون، وقد ورد في صفة يأجوج وماجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة. اهـ.