فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مقاتل، وابن شريح: حين يذبح الموت على هيئة كبش أملح على الأعراف، والفريقان ينظرون فينادى: يا أهل الجنة، خلود لا موت؛ ويا أهل النار، خلود لا موت.
وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق؛ ويقال: إنه الموت، لأن أول هول يراه الإنسان من أمر الآخرة هو الموت؛ ويقال: الفزع الأكبر عند قوله: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] ويقال: هذا حين دعوا إلى الحساب؛ ويقال: عند الصراط.
ثم قال تعالى: {وتتلقاهم الملئكة}، يعني: يوم القيامة لأهل الجنة.
قال مقاتل: يعني الملائكة الذين كتبوا أعمال بني آدم، حين خرجوا من قبورهم فيقولون للمؤمنين: {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الجنة؛ وقال الكلبي: تتلقاهم الملائكة عند باب الجنة ويبشرونهم بذلك، ويقولون: {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا.
قوله عز وجل: {يَوْمَ نَطْوِى السماء}، يعني: واذكر يوم نطوي السماء، {كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ}.
قال السدي: السجل ملك موكل بالصحف؛ فإذا مات الإنسان، دفع كتابه إلى السجل فطواه؛ ويقال: السجل الصحيفة، ويقال: السجل الكاتب.
وروى أبو الجوزاء، عن ابن عباس قال: السجل كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله تعالى أنه يطوي السماء يوم القيامة، كما يطوي السجل الكتاب.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {لِلْكُتُبِ} بلفظ الجماعة؛ وقرأ الباقون: {للكتاب} بلفظ الواحد، وقرأ أبو حفص المدني {فِى السماء} بالتاء والضم على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقراءة العامة {نَطْوِى السماء} بالنون؛ وقرأ بعضهم: السجل بجزم الجيم والتخفيف، وقراءة العامة بالتشديد وبكسر الجيم.
ثم استأنف الكلام فقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}، يعني: خلقهم في الدنيا يعيدهم في الآخرة؛ ويقال: كما بدأناهم شقيًا وسعيدًا في الدنيا.
فكذلك يكونون في الآخرة؛ ويقال: كما بدأنا أول خلق من نطفة في الدنيا، نعيده وأن تمطر السماء أربعين يوما كمني الرجال فينبتون فيه.
{وَعْدًا عَلَيْنَا}، يعني: وعدنا البعث صدقًا وحقًّا لا خلاف فيه، كقوله: {تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] {وَعْدًا} صار نصبًا للمصدر.
{إِنَّا كُنَّا فاعلين} بهم، أي باعثين بعد الموت.
وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّكُمْ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، ثمَّ قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}».
ثم قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور}، يعني: في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وكل كتاب زبور.
{مِن بَعْدِ الذكر}، يعني: من بعد اللوح المحفوظ؛ ويقال: الذكر التوراة، يعني: كتبنا في الإنجيل والزبور والفرقان من بعد التوراة، أي بيَّنا في هذه الكتب {إِنَّ الأرض}، يعني: أرض الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون}، يعني: ينزلها عبادي المؤمنون، وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل رضي الله عنه ويقال: إن الأرض المقدسة يرثها، أي ينزلها، بنو إسرائيل؛ ويقال: يعني أرض الشام يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال جميع الأرض تكون في آخر الزمان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».
قوله عز وجل: {إِنَّ في هذا}، أي في هذا القرآن.
{لبلاغا} إلى الجنة {لّقَوْمٍ عابدين}، أي موحدين؛ ويقال: في هذا القرآن لبلاغًا بلغهم من الله عز وجل لقوم مطيعين، وعن كعب أنه قال: إنهم أهل الصلوات الخمس.
قوله عز وجل: {وما أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين}، يعني: ما بعثناك يا محمد إلاَّ رحمة للعالمين، يعني: نعمة للجن والإنس؛ ويقال: {للعالمين} أي لجميع الخلق، لأن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن وكافر ومنافق.
وكان رحمة للمؤمنين، حيث هداهم طريق الجنة؛ ورحمة للمنافقين، حيث أمنوا القتل؛ ورحمة للكافرين بتأخير العذاب.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من آمن بالله ورسوله فله الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي أن يصيبه ما كان يصيب الأمم السالفة قبل ذلك؛ فهو رحمة للمؤمنين والكافرين.
وذكر في الخبر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: يقول الله عز وجل: {وما أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين}، فهل أصابك من هذه الرحمة؟ قال: نعم أصابني من هذه الرحمة أني كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لثناء أثنى الله تعالى على بقوله عز وجل: {ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مطاع ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20-21]».
قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد}، أي ربكم رب واحد.
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}؟ أي مخلصون بالتوحيد، ويقال: مخلصون بالعبادة.
اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر يعني: أسلموا.
ثم قال: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}؛ قال: فإن أعرضوا عن الإيمان، {فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ} يعني: أعلمتكم {على سَواء}، أي على بيان علانية غير سر؛ ويقال: أعلمتكم بالوحي الذي يوحى إلى، لنستوي في الإيمان به؛ ويقال: معناه أعلمتكم، فقد صرت أنا وأنتم على سواء.
وهذا من الاختصار.
ثم قال عز وجل: {وَإِنْ أَدْرِى}، يعني: وما أدري، {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} من نزول العذاب بكم في الدنيا فقل لهم: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول}، يعني: العلانية.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}، يعني: ما تسرون من التكذيب بالعذاب.
ثم قال عز وجل: {وَإِنْ أَدْرِى}، يعني: وما أدري {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ}، لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا فتنة لكم، لأنهم كانوا يقولون: لو كان حقًّا لنزل بنا العذاب.
{ومتاع إلى حِينٍ}، أي بلاغ إلى منتهى آجالكم، يعني: تعيشون إلى الموت.
قوله عز وجل: {قَالَ رَبّ احكم بالحق}، يعني: اقض بيني وبين أهل مكة بالعدل، ويقال: بالعذاب {وَرَبُّنَا الرحمن}، أي العاطف على خلقه بالرزق.
{المستعان على مَا تَصِفُونَ}، يعني: أستعين به على ما تقولون وتكذبون؛ ويقال: المطلوب منه العون والنصرة.
وروي عن الضحاك أنه قرأ {قُل رَّبّ احكم بالحق} على معنى الخبر على ميزان افعل، يعني: هو أحكم الحاكمين.
قال: لأنه لا يجوز أن يسأل أن يحكم بالحق، وهو لا يحكم إلاَّ بالحق.
وقرأه العامة {قُل رَّبّ أَحْكَمُ} على معنى السؤال؛ معناه احكم بحكمك.
ثم يخبر عن ذلك الحكم أنه حق، قرأ عاصم في رواية حفص {قَالَ رَبّ احكم} على معنى الحكاية؛ وقرأ الباقون {قُل رَّبّ أَحْكَمُ}.
وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين {على مَا يَصِفُونَ} بالياء بلفظ المغايبة، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ حمزة {الزبور} بضم الزاي؛ وقرأ الباقون بالنصب؛ والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} الآية.
قال وهب بن منبّه: كان أيّوب رجلًا من الروم، وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أُمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبّأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثينة من أرض الشام كلّها سهلها وجبلها بما فيها، وكان له من أصناف المال كلّه من الابل والبقر والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العُدّة والكثرة، وكان له بها خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له كلّ فدان أتان، لكلّ أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله سبحانه أعطاه أهلًا وولدًا من رجال ونساء، وكان برًّا تقيًّا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكرًا لأنعم الله سبحانه، مؤديًا لحقّ الله تعالى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضله: رجل من أهل اليمن يقال له اليفن، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر، وكانوا كهولًا.
قال وهب: إنّ لجبرئيل عليه السلام بين يدي الله سبحانه مقامًا ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإنّ جبرئيل هو الذي يتلقّى الكلام، فإذا ذكر الله عبدًا بخير تلقّاه جبرئيل ثم لقّاه ميكائيل وحوله الملائكة المقرّبون حافّين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقرّبين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات، فإذا صلّت عليه ملائكة السموات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهنّ حيث ما أراد، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنّة، فلم يزل على ذلك يصعد في السموات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلمّا بعث الله تعالى محمدًا عليه السلام حجب من الثلاث الباقية، فهو وجنوده محجوبون من جميع السموات إلى يوم القيامة {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 18].
قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعًا حتى وقف من السماء موقفًا كان يقفه فقال: يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوّب فوجدته أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثمّ لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء وأنا لك زعيم، لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينّك، فقال الله سبحانه وتعالى له: انطلق فقد سلّطتك على ماله، فانقض عدوّ الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإنّي قد سُلّطتُ على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال.
قال عفريت من الشياطين: أُعطيتُ من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارًا من النار وأحرقت كلّ شيء آتي عليه، قال له إبليس: فاتِ الإبل ورِعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السّموم، لا يدنو منها أحد إلاّ احترق، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ منها تمثّل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيوّب حتّى وجده قائمًا يصلّي فقال: يا أيّوب، قال: لبيّك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها؟ قال أيوب: انّها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديمًا وطّنت مالي ونفسي على الفناء.
قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها نارًا من السماء فاحترقت ورعاؤها كلّها، فتركت الناس مبهوتين وقفًا عليها يتعجّبون منها، منهم من يقول: ما كان أيّوب يعبد شيئًا وما كان إلاّ في غرور، ومنهم من قال: لو كان إله أيّوب يقدر على أن يصنع شيئًا لمنع وليّه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوّه ويفجع به صديقه.
قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي، عريانًا خرجت من بطن أُمّي، وعريانًا أعود في التراب، وعريانًا أُحشر إلى الله سبحانه، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيّها العبد خيرًا لتقبّل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيدًا، ولَكِنه علم منك شرًّا فاخّرك، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوّان من القمح الخالص.
فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئًا ذليلًا فقال: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلّم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتًا لا يسمعه ذو روح إلاّ خرجت مهجة نفسه، قال له ابليس: فأتِ الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتًا جثمت أمواتًا من عند آخرها، ومات رعاؤها، ثم خرج إبليس متمثّلًا بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلّي، فقال له القول الأول وردّ عليه أيّوب الردّ الأول.
ثمّ إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي لم أُكلّم قلب أيوّب، فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحًا عاصفًا تنسف كلّ شيء تأتي عليه حتى لا أُبقي شيئًا، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث، وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبّت ريح عاصف فنسفت كلّ شيء من ذلك حتّى كأنّه لم يكن، ثم خرج إبليس متمّثلًا بقهرمان الحرث حتى جاء أيّوب وهو قائم يصلّي فقال له مثل قوله الأول وردّ عليه أيوّب مثل ردّه الأول، فجعل إبليس يصيب ماله مالًا مالًا حتى مرَّ على آخره، كلّما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطّن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.
فلمّا رأى إبليس أنّه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعًا حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إنّ أيّوب يرى أنّك ما متّعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده فإنّها الفتنة المضلّة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.
قال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على ولده، فانقضّ عدوّ الله حتى جاء بني أيّوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثّل بهم كلّ مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكّسين، وانطلق إلى أيّوب متمثّلًا بالمعلّم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذّبوا وكيف قلبوا فكانوا منكّسين على رؤوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أُنوفهم وأشفارهم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعًا بالذي كان من جزع أيّوب مسرورًا به، ثمّ لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم، فوقف إبليس خازيًا ذليلًا فقال: يا إلهي إنّما هوّن على أيّوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فأنى لك زَعم لئن ابتليته في جسدِهِ ليُنَسِينّك وليكفِرنّ بك ولجحدنّك نعمتك.
فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتُك على جسده، ولَكِن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلاّ رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب.
وانقض عدو الله إبليس سريعًا فوجد أيوب ساجدًّا فعجّل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قِبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وأنتن.