فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور} في كتاب داود عليه السلام. {مِن بَعْدِ الذكر} أي التوراة، وقيل المراد بـ: {الزبور} جنس الكتب المنزل وبـ: {الذكر} اللوح المحفوظ. {إِنَّ الأرض} أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة. {يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ في هذا} أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد {لبلاغا} لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية. {لِّقَوْمٍ عابدين} همهم العبادة دون العادة.
{وما أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.
{قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد} أي ما يوحى إلى إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد، وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد فالأولى لقصر الحكم على الشيء والثانية على العكس. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} مخلصون العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي المصدق بالحجة، وقد عرفت أن التوحيد مما يصح إثباته بالسمع.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد. {فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ} أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم. {على سَواء} مستوين في الإِعلام به أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة أو إيدانًا على سواء. وقيل أعلمتكم أني على {سَواء} أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير. {وَإِنْ أَدْرِى} وما أدري. {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} من غلبة المسلمين أو الحشر لَكِنه كائن لا محالة.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول} ما تجاهرون به من الطعن في الإِسلام. {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الإِحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه.
{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لينظر كيف تعملون. {ومتاع إلى حِينٍ} ونتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.
{قُل رَّبِّ احكم بالحق} اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لاستعجال العذاب والتشديد عليهم، وقرأ حفص {قَالَ} على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ {رَبُّ} بالضم و{ربي} احكم على بناء التفضيل و{احكم} من الأحكام. {وَرَبُّنَا الرحمن} كثير الرحمة على خلقه. {المستعان} المطلوب منه المعونة. {على مَا تَصِفُونَ} من الحال بأن الشوكة تكون لهم وأن راية الإِسلام تخفق أيامًا ثم تسكن، وأن الموعد به لو كان حقًّا لنزل بهم فأجاب الله تعالى دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فخيب أمانيهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقرئ بالياء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ اقترب حاسبه الله حسابًا يسيرًا وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن» والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} كان أيوب عليه السلام نبيًّا من الروم، وقيل من بني إسرائيل، وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلط البلاء على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به، فحينئذ دعا الله تعالى، على أن قوله: {مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} ليس تصريحًا بالدعاء، ولَكِنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} لما استجاب الله له أنبع له عينًا من ماء فشرب منه واغتسل فبرئ من المرض والبلاء {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} روى أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل: في الآخرة، وقيل: ولدت امرأته مثل عدد الموتى، ومثلهم معهم، وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي رحمة لأيوب، وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معًا للعابدين.
{وَذَا الكفل} قيل: هو إلياس وقيل: زكريا، وقيل: نبيّ بعث إلى رجل واحد، وقيل: رجل صالح غير نبي، وسمى ذا الكفل، أي ذا الحظ من الله وقيل: لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده.
{وَذَا النون} هو يونس عليه السلام، والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} أي مغاضبًا لقومه، إذ كان يدعهم إلى الله فيكفرون، حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم، ولذلك قال الله: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48]، ولا يصح قول من قال مغاضبًا لربه {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظن أن لن نضيق عليه، فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه، وقيل: هو من القدر والقضاء: أي ظنّ أن لن نضيق عليه بعقوبة، ولا يصح قول من قال: إنه من القدرة {فنادى فِي الظلمات} قيل هذا الكلام محذوف؛ لبيانه في غير هذه الآية، وأنه لما خرج ركب السفينة فرمي في البحر فالتقمه الحوت؛ {فنادى فِي الظلمات}، وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت، ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت، لشدّة ظلمته كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن، والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البرّ {وكذلك نُنجِي المؤمنين} يحتمل أن يكون مطلقًا أو لمن دعا بدعاء يونس، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له».
{لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا} أي بلا ولد ولا وارث {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} إن لم ترزقني وارثًا فأنت خير الوارثين، فهو استسلام لله {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} يعني ولدت بعد أن كانت عاقرًا، واسم زوجته أشياع، قاله السهيلي {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} والضمير للأنبياء المذكورين {رَغَبًا وَرَهَبًا} الرغب الرجاء، والرهب الخوف، وقيل: الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي، والرهب أن ترفع ظهورها.
{والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} هي مريم بنت عمران، ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال، كقولها: {لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47، مريم: 20] {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها، ونسب الله النفخ إلى نفسه، لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد، وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أو للملك {آيَةً} أي دلالة، ولذلك لم يثن.
{إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} أي ملتكم ملة واحدة، وهو خطاب للناس كافة، أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين، لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد {وتقطعوا أَمْرَهُمْ} أي اختلفوا فيه، وهو استعارة من جعل الشيء قطعًا، والضمير للمخاطبين، قيل فالأصل تقطعتم.
{فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لإبطال ثواب عمله {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نكتب عمله في صحيفته.
{وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} قرئ حِرْم بكسر الحاء وهو بمعنى حرام، واختلف في معنى الآية، فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة، أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين، وقيل: حرام بمعنى حتم واقع لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما أي: حتمٌ عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو: حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا وقيل: المعنى ممتنع على قرية أهكلها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة، ولا على هذا نافية أيضًا، ففيه ردّ على من أنكر البعث.
{حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأجُوجُ} حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون، وجواب إذا: فإذا هي شاخصة، وقيل: الجواب يا ويلينا لأن تقديره يقولون يا ويلنا، وفتحت يأجوج وماجوج أي فتح سدها فحذف المضاف {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} الحدب المرتفع من الأرض، وينسلون: أي يسرعون، والضمير ليأجوج وماجوج: أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم، وقيل: لجميع الناس {الوعد الحق} يعني القيامة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} إذا هنا للمفاجأة، والضمير عند سيبويه ضمير القصة، وعند الفراء، للأبصار، وشاخصة من الشخوص وهو: إحداد النظر من الخوف {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} هذا خطاب للمشركين، والحصب: ما توقد به النار: كالحطب. وقرأ على بن أبي طالب رضي الله عنه {حطب جنهم} والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخًا لمن عبدها {وَارِدُونَ} الورود هنا الدخول.
{زَفِيرٌ} ذكر في هود {لاَ يَسْمَعُونَ}.
قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئًا، وقيل: يصمهم الله كما يعميهم.
{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} سبقت أي: قُضيت في الأزل، والحسنى السعادة، ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعرى على قوله: {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، فقال: إن عيسى وعزير والملائكة قد عُبدوا؛ فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد، واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة {حَسِيسَهَا} أي صوتها {الفزع الأكبر} أهوال القيامة على الجملة، وقيل ذبح الموت وقيل: النفخة الأولى في الصور لقوله: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [النمل: 87] {كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} السجل الصحيفة والكتاب مصدر: أي كما يطوي السجل ليكتب فيه، أو ليصان الكتاب الذي فيه، وقيل: السجل رجل كاتب وهذا ضعيف، وقيل: هو ملك في السماء الثانية: ترفع إليه الأعمال، وهذا أيضًا ضعيف {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة، فهو كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]، وقيل: المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا» ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}، والكاف متعلقة بقوله بقوله: {نُّعِيدُهُ} {فَاعِلِينَ} تأكيدًا لوقوع البعث.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} في الزبور هنا قولان: أحدهما أنه كتاب داود، والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى، وما في الزبور من ذكر الله تعالى، والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء، والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ: أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له، بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حتى قضى الأمور كلها، والأول أرجح، لأن إطلاق الزبور على كتاب داود أظهر وأكثر استعمالًا، ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع، ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} الأرض هنا على الاطلاق في مشارق الأرض ومغاربها، وقيل: الأرض المقدسة، وقيل: أرض الجنة، والأول أظهر، والعباد الصالحون: أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الآية ثناء عليهم، وإخبار بظهور غيب مصداقة في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها.
{وما أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تشريف عظيم، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول، والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة، ويحتمل أن يكون مصدرًا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره: أرسلناك راحمين للعالمين، أو يكون مفعولًا من أجله، والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة، فإن قيل: رحمة للعالمين عموم، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك.
{آذَنتُكُمْ على سَواء} أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر.
{وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} إن هنا وفي الموضع الآخر نافية، وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول، من طريق المعنى فيجب وصله معه، والهمزة في قوله: {أَقَرِيبٌ} للتسوية لا لمجرد الاستفهام، وقيل: يوقف على إن أدرى في الموضعين، ويبتدأ بما بعده، وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} أي الموت أو القيامة {المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب. اهـ.