فصل: القصة التاسعة: قصة زكريا عليه الصلاة والسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القصة التاسعة: قصة زكريا عليه الصلاة والسلام:

المذكورة في قوله تعالى: {وزكريا} أي: واذكر زكريا ويبدل منه {إذ نادى ربه} نداء الحبيب القريب فقال: {رب} بإسقاط أداة البعد {لا تذرني فردًا} أي: وحيدًا من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة {وأنت} أي: والحال أنك {خير الوارثين} أي: الباقي بعد فناء خلقك، وكثيرًا ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيدًا آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب، فتهبني ولدًا تمنّ على به {فاستجبنا له} بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة، فقال تعالى: {ووهبنا له يحيى} ولدًا وارثًا نبيًّا حكيمًا عظيمًا {وأصلحنا له} خاصة من بين أهل ذلك الزمان {زوجه} أي: جعلناها صالحة لكل خير خالصة له، فأصلحناها للولادة بعد عقمها، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق {إنهم} أي: الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل: زكريا وزوجه ويحيى {كانوا} أي: جبلة وطبعًا {يسارعون في الخيرات} أي: الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى: {ويدعوننا} مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا {رغبًا} أي: طمعًا في رحمتنا {ورهبًا} أي: خوفًا من عذابنا {وكانوا} أي: جبلة وطبعًا {لنا} خاصة {خاشعين} أي: خائفين خوفًا عظيمًا يحملهم على الخضوع والانكسار، قال مجاهد: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، وقيل: متواضعين، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال: أما إني سألت إبراهيم فقال: ألا تدري؟ قلت: أفدني، قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيرًا لعلك ترى أنه يأكل خشنًا ويلبس خشنًا ويطأطىء رأسه.

.القصة العاشرة: قصة مريم وابنها عليهما السلام:

المذكورة في قوله تعالى: {والتي} أي: واذكر مريم التي {أحصنت فرجها} أي: حفظته من الحلال والحرام حفظًا يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها: {ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا} [مريم].
لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية {فنفخنا فيها من روحنا} أي: أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفًا لعيسى عليه السلام كبيت الله وناقة الله.
ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى: {وجعلناها وابنها} أي: قصتهما أو حالهما، ولذلك وحد قوله تعالى: {آية للعالمين} من الجنّ والإنس والملائكة، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل: هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} [الإسراء].
أجيب: بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.
وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى: {إن هذه} أي: ملة الإسلام {أمّتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أن تكونوا عليها حال كونها {أمة} قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد اهـ فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحد اهـ ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى: {واحدة} فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن {فاعبدون} دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى: {وتقطعوا} أي: بعض المخاطبين {أمرهم بينهم} أي: تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى؛ قال الكلبي: فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضًا ويتبرأ بعضهم من بعض.
تنبيه:
الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلًا لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقًا وأحزابًا شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى: {كلٌ} أي: من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد {إلينا} يوم القيامة {راجعون} فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلًا من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقًا بين المحسن والمسيء تحقيقًا للعدل وتشويقًا إلى الفضل {فمن يعمل} أي: منهم الآن {من الصالحات وهو} أي: والحال أنه {مؤمن} أي: يأتي بعمله على الأساس الصحيح {فلا كفران} أي: لا جحود {لسعيه} بل يشكر ويثاب عليه.
تنبيه:
قوله تعالى: فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه {وإنّا له} أي: لسعيه {كاتبون} أي: مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئًا قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزنًا، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ: ولعله حذف هذين القسمين ترغيبًا في الإيمان، ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى: {وحرام} أي: ممنوع {على قرية} أي: أهلها {أهلَكِناها} أي: بالموت {أنهم لا يرجعون} أي: إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلًا من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيمًا أو عذابًا دون النعيم والعذاب الأكبر.
تنبيه:
ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى {أهلَكِناها} عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي: يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال: وحرام على قرية أهلَكِناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتًا ومعناه واجب على أهل قرية أهلَكِناهم أي: حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} أي: يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لايتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة؛ لَكِن الأول أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء قال البغوي: وهما لغتان مثل حل وحلال، وقوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج وماجوج} متعلق كما قال الزمخشري بحرام وحتى غاية له؛ لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام أي: فهي الابتدائية لا الجارّة ولا العاطفة والمحكي هو الجملة الشرطية، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف ويأجوج وماجوج اسمان أعجميان اسم لقبيلتين من جنس الإنس ويقدر قبله مضاف أي: سدّهما، وذلك قرب الساعة يقال الناس عشرة أجزاء؛ تسعة منها يأجوج وماجوج، وقرأهما عاصم بهمزة ساكنة والباقون بالألف، ثم عبّر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {من كل حدب} أي: نشز عال من الأرض {ينسلون} أي: يسرعون من النسلان، وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أنّ الأرض كرة، وقيل: الضمير راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: «اطلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج وماجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم».
{واقترب الوعد الحق} أي: يوم القيامة؛ قال حذيفة: لو أنّ رجلًا اقتنى فلوًّا بعد خروج يأجوج وماجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} قال الكلبيّ: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.
تنبيه:
فإذا هي إذا للمفاجأة وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء كقوله تعالى: {إذا هم يقنطون} [الروم]. فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد، ولو قيل: إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديدًا، قال سيبويه: والضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني القصة أنّ أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، وقال الزمخشري: هي ضمير مبهم توضحه الأبصار، وتفسره كما فسر {الذين ظلموا وأسروا النجوى} وقولهم: {يا ويلنا} أي: هلاكنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا، و{يقولون} في موضع الحال من {الذين كفروا} و{يا} للتنبيه {قد كنا} أي: في الدنيا {في غفلة من هذا} أي: اليوم حيث كذبنا وقلنا: إنه غير كائن، ثم أضربوا عن الغفلة فقالوا: {بل كنا ظالمين} أنفسنا بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمّل دلائله، والنظر في مخايله، وكذبنا الرسل وعبدنا الأوثان، وقوله تعالى: {إنكم} خطاب لأهل مكة، وأكده لإنكارهم مضمون الخبر {وما تعبدون من دون الله} أي: غيره من الأوثان {حصب جهنم} أي: وقودها، وهو ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصب والحصب في لغة أهل اليمن الحطب، وقال عكرمة: هو الحطب بالحبشية قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصب، وقوله تعالى: {أنتم لها واردون} أي: داخلون استئناف أو بدل من حصب جهنم، واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أنّ ورودهم لأجلها {لو كان هؤلاء} أي: الأوثان {آلهة} أي: كما زعمتم {ما وردوها} أي: ما دخل الأوثان وعابدوها النار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياءً خالصة في الوصل بعد تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما {وكل} أي: من العابدين والمعبودين {فيها} أي: في جهنم {خالدون} لا انفكاك لهم عنها بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر فإن قيل: لم قرنوا بآلهتهم؟
أجيب: بأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب؛ لأنهم قدروا أنهم يستشفعون في الآخرة وينتفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قيل: إذا عنيت بما تعبدون الأوثان فما معنى قوله تعالى: {لهم فيها زفير} أي: تنفس عظيم على غاية من الشدّة والمد تكاد تخرج معه النفس؟
أجيب: بأنهم إذا كانوا هم وأوثانهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم: زفير، وإن لم يكن الزافرون إلا هم دون الأوثان للتغليب ولعدم الإلباس {وهم فيها لا يسمعون} شيئًا لشدّة غليانها، وقال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئًا، ولا يرى أحد منهم أنّ أحدًا يعذب في النار غيره، وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم إنكم وما تعبدون من دون الله الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعري السلمي، فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم، فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرًا والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى}» أي: الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل، ومنهم من ذكر سواء أضل بأحد منهم الكفار فأطروه أم لا {أولئك} أي: العالو الرتبة {عنها} أي: جهنم {مبعدون} برحمة الله تعالى لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وفي رواية ابن عباس أن ابن الزبعرى لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت ولم يجب، فضحك القوم، فنزل قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلًا إذا قومك منه يصدّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خصمون}، ونزل في عيسى والملائكة أن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية، وقد أسلم ابن الزبعري بعد ذلك رضي الله تعالى عنه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى جماعة أنّ المراد من الآية الأصنام؛ لأنّ الله تعالى قال: {وما تعبدون من دون الله}، ولو أراد الملائكة والناس لقال: ومن تعبدون، يروى أن عليًّا رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسها} أي: حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف بما دونه؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناهـ. فذكر ذلك بدلًا من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها {وهم} أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى {في ما اشتهت أنفسهم} في الجنة كما قال تعالى: {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف].
والشهوة طلب النفس اللذة {خالدون} أي: دائمًا أبدًا في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.
فائدة: في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قال الحسن: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن عباس: هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض} [النمل]. وقال ابن جريج: هو حين يذبح الموت وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه {وتتلقاهم} أي: تستقبلهم {الملائكة} قال البغوي: على أبواب الجنة يهنونهم، وقال الجلال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم، ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى: {يوم} أي: تكون هذه الأشياء يوم {نطوي السماء} طيًا، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهًا للمصدر الذي دل عليه الفعل {كطيّ السجلّ}، واختلف في السجلّ فقال بعضهم: هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه {للكتاب} أي: القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي: هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون: السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السموات تطوى.