فصل: مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإبراهيم مَكانَ الْبَيْتِ} أي واذكر يا سيد لرسل لقومك زمن إظهار البيت لجدك إبراهيم وجعلنا إياه له متوأ ومسكنا يسكن يه وماوى يرجع إليه، وذلك حين أمره اللّه ببنائه بعد الطّوفان، وكان لم يدر مكانه الذي كان فيه قبل الطّوفان لا ندثاره، قالوا بعث اللّه ريحا خجوجا هي الشديدة الحر أو المتلوية في هبوبها.
ومعنى الحج الدفع والشّق والالتواء والجماع، وله معان أخر غير هذه، فكنست ما حوله حتى ظهر وبرز أساسه، فعمره على النّحو الذي ذكر في سورة البقرة في الآية 136 المارة، وقلنا له {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} من الأشياء سماويا أو أرضيا {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} من أقذار الأوثان وأوساخ الكفر ليكون نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس كما كان من قبل حين بنته الملائكة وآدم من بعدهم، وأبحه {للطائفين والقائمين} فيه {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (26) لجلالي وعظمتي {وَأَذِّنْ} أعلم وناد {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قالوا فقال يا رب وما يبلغ صوتي في وسيع ملكك، فقال تعالى عليك الأذان وعلينا الإسماع والإبلاغ، فقام عليه السّلام على المقام المعروف اليوم وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، وقال بأعلى صوته أيها النّاس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم، فأجابه كلّ من يحج إلى يوم القيامة من الموجودين على ظهر الأرض إذ ذاك، ومن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ممن كتب اللّه له الحج، قائلا لبيك اللّهم لبيك.
ولا يقال في هذا لأن المستمع هو الذي خاطب خلقه في عالم الذرّ بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} كما تقدم في الآيتين 172 و173 من سورة الأعراف المارة.
وإياك أن تستعبد هذا الإسماع أيها الإنسان أو تشك فيه فإذا كان الرّاد المحدث الآن يسمع أهل المشرق والمغرب بآن واحد بثانية واحد، وإن اهتف يخاطب به كذلك وهو من صنع خلقه، فكيف بخالق هذا الخلق أيعجزه ذلك، كلا ثم كلا، وهو القادر على كلّ شيء.
وإذا ناديتهم يا خليلي ستراهم {يَأْتُوكَ رِجالًا} مشاة {وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} ركبانا والضّامر البعير المهزول من نصب السّير وتعب الثقل وقلة الأكل والشّرب.
ومما يدل على بعد الشّقة قوله: {يَأْتِينَ} تلك الإبل الضّوار بركابها {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) طريق بعيد والفج الطّريق في الجل وغلب على غيره وعمقه بنسبة علو الجبل المنشق منه عن يمينه وشماله، وهؤلاء المدعون يأتون لهذا البيت {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} دينية ودنيوية مختصة في هذا البيت لا يشهدونها في غيره ولا توجد إلّا به، راجع الآيتين 158 و96 من سورة البقرة والآية 97 من آل عمران المارات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} على ما سينحرونه من الهدى {فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ} ويكبرون عليها إذا أريد ذبحها يوم النّحر وأيّام التشريق بدليل قوله تعالى: {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} أضحية وهديا، وإذا فعلتم هذا أيها النّاس امتثالا لأمري {فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِيرَ} (28) الذي لا شيء عنده.
كانت العرب في الجاهلية لا تأكل لحوم ضحاياها وهداياهم، فأمر اللّه تعالى بمخالفتهم وأباح لعباده الأكل منها، أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه في قصة حجة الوداع قال وقدم على كرم اللّه وجهه ببدن من اليمن وساق رسول اللّه مئه بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم، ونحر على ما نحر أي ما بقي، وأشركه في بدنه، وفي عدد ما نحره صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مدة حياته إذ توفي في الثالثة والسّتين من عمره، وفي هذا يعلم أن حضرة الرّسول قد أعطى من القوة ما لم يعطها غيره قط، لأن أحدا لا يقدر على نحر عشر من الإبل دفعة واحدة، فهو أكمل الخلق مادة ومعنى وخلقا وخلقا وقلبا وقالبا وروحا وجسما.
ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة أي قطعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل منها وشرب من مرقها، مما يدل على جواز الأكل من لحوم الأضحية دون قيد أو شرط.
وقد اختلفت الأئمة في ذلك فمنهم من جوز الأكل من الهدايا الواجبة كدم التمتع والقران وما جبر بإفساد شيء من واجبات الحج وجزاء العيد، واتفقوا على جواز الأكل من جميع هدايا التطوع والأضحية إذا لم تكن منذورة، وإذا أريد بالأيام عشر ذي الحجة يراد بالذكر مطلقه وما يتلى غالبا في أيّام الحج.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي لينتهوا من إزالة أدرانهم وأوساخهم ويقصوا شعورهم وأظفارهم ويستحدوا يحلقوا عانتهم وينتفوا آباطهم ويغيروا ما أحرموا به بالثياب النّقية، لأن الحاج مادام محرما أشعث أغبر {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم.
وهذه الآية عامة في الحاج وغيره وإن ورودها في معرض الحج لا يقيدها بالحاج، وهذا الأمر للوجوب وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 7 من سورة الإنسان والآية 170 من البقرة المارتين {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) يكثروا الطّواف فيه بدليل تضعيف الفعل وسمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس كما مر في الآية 97 من آل عمران المارة والمراد بهذا الطّواف طواف الإفاضة وأول وقته يوم النّحر بعد الرّمي والحلق، ويسمى طواف الزيارة وهو أحد فرائض الحج الثلاثة وأولها الإحرام وثانيها الوقوف بعرفة، أما طواف القدوم وهو أول وصوله إلى مكة فهو سنة، وطواف الوداع وهو عند قرب خروجه منها واجب {ذلِكَ} شهود المنافع وذكر الإله والأكل من لحوم الهدي وإطعام الفقراء منهما وقضاء التفث وإيفاء النّذور والطّواف بالبيت كلها من تعظيم حرمات اللّه {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ} بالاجتناب لكل ما لا يحل هتكه وإثبات جميع ما كلف اللّه به الحاج من مناسك وغيرها {فَهُوَ} أي ذلك التعظيم {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} عظيم نفعه لا يقدر قدر خيره إلّا هو.
ومما يدل على عظمة تفكيره {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ} الإبل والبقر والغنم وغيرها- أكلا وذبحا واقتناء- فمن الأنعام ما يركب ويؤكل وهي الإبل، ومنها يؤكل ولا يركب كالأغنام وشبهها.
واعلم أن الخيل والبغال لا تدخل في معنى الأنعام ولا يشملها لفظها.
ثم لستثنى جل جلاله من عموم ذلك فقال: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} تحريمه مما يأتي ذكره وتفصيله في الآية 4 فما بعدها من سورة المائدة بصورة أوضح مما تقدم في الآية 149 فما بعدها من الأنعام إن شاء اللّه، فهذا المستثنى حرام نجس {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} كما تجتنبون ما حرّم عليكم أكلهم لاشتراكها في الرّجسية، بل عبادة الأوثان أعظم وزرا وتلويثا للانسان من تلويث النّجاسة، لأن فيها الإشراك باللّه وهو كفر محض وليس في أكل المحرم إلّا الحرمة التي يفسق فاعلها إذا لم يستحله، وأعظم أنواع الكفر الشّرك.
جاء في الإصحاح 15 من إنجيل متى ليس ما يدخل في الفم ينجّس الإنسان بل ما يخرج من الفم.
وقال في الإصحاح 13 من فضلة القلب يتكلم الفم {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (30) الافتراء والكذب والبهتان وشهادة الزور وماخوذة من الزور وهو الانحراف وكفى به إثما إنها عدلت الإشراك باللّه راجع الآية 72 من سورة الفرقان ج 1
فاتركوا هذا أيها المؤمنون وكونوا مخلصين {حُنَفاءَ لِلَّهِ} عادلين عن غيره مائلين له {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أحدا ولا شيئا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} غيره من صنم أو وثن {فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السماء} فسقط على الأرض {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بسرعة وتذهب به {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} فتميل به وتطرحه في {مَكانٍ سَحِيقٍ} (31) بعيد فيصير مسحوقا مكسرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن، والمعنى أن المشرك باللّه يهلك نفسه إهلاكا ما بعده إهلاك ويدمّر نفسه تدميرا فظيعا شنيعا {ذلِكَ} الذي يجتنب الرّجس ويخلص للّه فقد عظم شعائر اللّه {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها} خصلة التعظيم ما تكون في الإنسان إلا {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) التي هي مراكز التقوى وملاك القوى.
والشّعائر جمع شعيرة وهي العلامة من الأشعار الذي هو الأعلام وكلّ ما هو من معالم الحج يسمى شعيرة، ومنها الهدايا والضّحايا وتعظيمها استحسانها واستسمانها {لَكُمْ فِيها} أي الهدايا المشعرة وذلك أنهم كانوا يطعنونها في سنامها من أيمنه أو أيسره حتى يسيل منها الدّم فيعلم من يراها أنها هدي فلا يتعرض لها {مَنافِعُ} في نسلها ودرعا وصوفها ووبرها وركوبها وبيع أولادها ما زالت عندكم تنتفعون بها {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو وقت نحرها إذا سماها هديا أو أوجبها ضحية وبعد التسمية لا حق له بشيء منها ولا بمنافعها، إلا أنه يجوز ركوبها فقط لما روي عن أبي هريرة «أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها، فقال يا رسول اللّه إنها بدنة، فقال اركبها ويلك»- أخرجاه في الصّحيحين- فيظهر من هذا أن جعلها هديا لا يمنع من ركوبها {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (33) وأن منفعتها العظمى بعد تلك المنافع تكون عند منحرها بالحرم المنتهية إليه إذ تذبح هناك وينال صاحبها منفعتها الكبرى الدائمة عند اللّه تعالى في يوم يكون صاحبها أحوج منه إلى غيره.
أما منفعتها الدنيوية ففانية، والمراد بالبيت هنا ما يشمل الحرم كله على حد قوله تعالى: {هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ} الآية 98 من سورة المائدة الآتية وهي كلها منحر.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم {جَعَلْنا مَنْسَكًا} بفتح السّين لإراقة الدّم وذبح القرابين خصصنا موضعا {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عليها عند ذبحها شكرا لجلاله {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} التي يتقرب بها إليه دون غيرها ولذلك أضاف لها الأنعام لأن البهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البر والبحر مما يؤكل ومالا {فَإِلهُكُمْ} أيها الحاضرون وإله الّذين من قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعدها {إِلهٌ واحِدٌ} عالم قدير خالق رازق محيي مميت منعم معذب {فَلَهُ أَسْلِمُوا} وانقادوا أيها النّاس لعظمته وأخلصوا لكبريائه والهجوا بذكره وحده على الذبح وغيره، ولا تذكروا شيئا سواه أبدا {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (34) له الخاشعين لهيبته الخاضعين لعبادته {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ} أمامهم وبمسمعهم {وَجِلَتْ} خافت أشد الخوف {قُلُوبُهُمْ} ورجفت لعظمته فيها وهيبته عليها فبشر هؤلاء يا سيد الرسل {وَالصَّابِرِينَ} بشرهم {عَلى ما أَصابَهُمْ} من البلاء والمحن الواقعة عليهم من اللّه ومن خلقه، لانهم يعلمون أنها بقضائه وقدره {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} بأوقاتها الموفين بأركانها وواجباتها وسنتها بشرهم أيضا {وَ} بشر الّذين {مِمَا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (35) على المستحقين وخاصة الّذين يؤثرون الفقراء على أنفسهم بشرهم برضوان اللّه ورحمته.
قال تعالى: {وَالْبُدْنَ} جمع بدنة تطلق على الإبل والبقر فقط لبدانتهما {جَعَلْناها لَكُمْ} أيها النّاس ملكا، وجعلنا ذبحها في الحرم للحاج وغيرهم أضحية تذبحونها فيه ليتناولها أهله المحتاجون {مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} واعلام دينه {لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} في الدّنيا بالذكر الحسن وفي الآخرة بالثواب العظيم إذا هديتموها وذبحتموها وتصدقتم بها على أهل اللّه وعياله، وإذا أردتم ذبحها {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ} بالفتح دون تنوين، وقرئت منوّنة على لغة من يصرف مالا ينصرف، قال الرّاجز:
والصّرف والجمع أتى كثيرا ** حتى ادعى قوم به التخييرا

{وَالْمُعْتَرَّ} الملحف بالسؤال {كَذلِكَ} مثل ما سخّرناها لكم بأن تذبح وهي قائمة {سَخَّرْناها لَكُمْ} للركوب والحمل وذللناها لكم حتى صارت تنقاد للطفل لكمل استفادتكم منها، ولولا هذا التسخير لما استفدتم منها شيئا من ركوب وحمل وحليب رجزّ وبر وغيرها لأنها أقوى منكم، وقد فعلنا هذا لكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (36) نعمة ربكم على واعلموا أيها النّاس أن هداياكم وضحاياك المدن والقرى حتى اليوم، وذلك أنهم عند ما يذبحون نذرا أو خيرا أو عند أرادتهم البناء تبركا أو عند إكماله شكرا بزعمهم يلطخون باب الدّار والجدران بدم ما يذبحونه تقليدا على فعل الجاهلية بالكعبة المعظمة، فرد اللّه عليهم بأن هذا العمل ليس من القربة المراد بها وجه اللّه والتي يثاب العبد على فعلها، لأن اللّحوم والدّماء لن ترفع إلى اللّه تعالى بل يرفع ثوابها إذا كانت على وجه شرعي {وَلَكِن يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} أي يرفع إليه العمل الصّالح والإخلاص فيه المعبر عنه بالتقوى التي يجب ان تنحلوا بها فهي التي يراد بها وجه اللّه ويثاب عليها.
قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية 40 من سورة فاطر ج 1 {كَذلِكَ} مثل هذا التسخير البديع {سَخَّرَها} أي البدن {لَكُمْ} أيها النّاس للاستعمال والذبح {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} عند ذبحها على ما هداكم لمعالم دينه وأرشدكم إليها {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (37) بالثواب العظيم عند اللّه تعالى إذا فعلوا ما أمروا به واجتنبوا ما نهوا عنه في هذه المناسك التي سماها اللّه تعالى منافع.
هذا وليعلم أن الحج من العوامل القوية على تآلف المسلمين واتحادهم على توثيق عرى المحبّة والعون على إجراء الحق بينهم وتوحيد كلمتهم.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية العاشرة من سورة الحجرات الآتية ويدعو إلى تعاضدهم وتآزرهم بما يتعلق بجميع شؤنهم وإصلاح كيانهم وإعلاء شأنهم حتى تكون العزّة لهم.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية 138 من سورة النساء المارة وهو العامل الأقوى على لمّ شعثهم وتقويم اعوجاجهم حتى يكونوا الأمة الكريمة التي عناها اللّه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية 130 من آل عمران المارة.
وإنما فرضه اللّه تعالى على المستطيع من عباده ليرى حكمته البالغة، ويقدر فوائده العظمى التي تعود على المسلمين بالخير الوافر والنّعم الجزيلة، إذا قدره حق قدره، وعرف المغزى من فرضه، واستغل ما وضع له وحاول جني ثماره، لأن هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام يرمي إلى الاتحاد والتوثيق حتى يشعر بأن النّاس كلهم روح واحدة على ما هم عليه من بعد الشّقة، ونفس واحدة على ما هم عليه من الاختلاف باللغة واللّون والسّعادة والسّكن.
قال تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} الآية 28 من سورة لقمان وإن الفطن ليلمس هذا القصد في دعوة النّاس إلى الاجتماع في صعيد واحد متجهين لقبلة واحدة بزيّ واحد وغرض واحد، فإذا فقه المسلمون وتيقظوا لهذا وانتهزوا الفرصة بزيارة هذا البيت، وعرفوا ضالتهم المنشودة ومطلبهم السّامي منه، فتعاونوا بعضهم مع بعض وتعرّف بعضهم إلى حوائج البعض، وعرفوا كيفية الوصول إلى سبيل التعاون إذا ألم بهم حادث أو طرات عليهم مصيبة كيف ينقذون أنفسهم منها، فيذرقون حلاوة هذا الاجتماع ولا يكونون كمن ذمهم اللّه في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} الآية 19 من سورة الحشر الآتية أجارنا اللّه من ذلك.
ثم أنهم إذا رأوا الأسود والأبيض والأحمر والأسمر متساوين في الخشوع لرب ذلك البيت، لا فضل لعجمي على عربي، ولا لغني على؟؟ لا لشريف على حقير، وشاهدوا الملك والمملوك والجهلة والعلماء، والرّعية والأمراء سواسية، وقفوا هناك على كلمة قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} الآية 13 من سورة الحجرات الآتية لأنهم كلهم متساوون في تركهم بلادهم، وفراق أهلهم وأولادهم، وإجابة دعوة ربهم إلى بيته المطهر، قال تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ للطائفين وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الآية 136 من البقرة المارة ونظيرتها الآية 27 المارة إذ لم يفرق اللّه تعالى بدعوته بين واحد دون آخر، ولم يكلف الفقير رحمة بحاله ليس إلا، فإذا تجشم ذلك فله ما للغني من الثواب، وقد يزيده ربه إذا حسنت نيته، وإذا كان كذلك علم كلّ منهم أن هذا المؤتمر الإسلامي الجامع إنما عقد للخضوع إلى اللّه تعالى وللتّعاون في مصالح الدّين والدّنيا، وتيقن إن هذا الدّين لا يدعو إلّا إلى خير واحسان.
قال تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الآية 30 من سورة الروم.
فمن أجاب دعوة اللّه كان هو المتمسك بعروته الوثقى ومن حزب اللّه {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآية 22 من سورة المجادلة الآتية، ولا شك أنهم هم الفائزون بقوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ} الآية 159 من المائدة الآتية.
أما المتقاعسون عنه مع القدرة، فهم الّذين {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ} الآية 19 من المجادلة الآتية.
هذا من جملة منافع الحج المعنوية أما منافعه المادية المحسوسة فمنها مشاهدة تلك البقاع المباركة التي ظهر فيها حضرة الرسول الكريم ومواقف الأنبياء قبله، ذلك المرسل إلى النّاس كافة {شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَداعِيًّا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا} الآيتين 44 و45 من سورة الأحزاب المارة بدليل قوله جل قوله: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الآية 158 من الأعراف ج 1، وفيها ما يرشدك إلى ما يتعلق فيها التي لبث فيها ثلاثة عشر عاما يدعو النّاس إلى توحيد اللّه وتنزيهه عن الشّرك، وكان يعاملهم بالرفق واللّين والرّحمة مع ما هم عليه من الجفاء والغلظة والشّدة تبعا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية 125 من سورة النّحل ج 2، ويشاهد مواقع مكة المكرمة فيعتبر بما وقع فيها لسيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام والأنبياء من قبلهما وبعدهما وما تركوه من آثار للاتعاظ والاعتبار، فيعمل ويخشع.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية 16 من سورة الحديد المارة، فرؤية هذه المواقع المقدسة تعين القلب وتذكر الرّوح بما كان فيها من إعطاء العهد لربها في الآيتين 171 و172 من الأعراف فتجهد نفسها للوفاء به وتستمد من غيرها المعاونة على العمل الصّالح للدنيا والآخرة وتعتبر بمصير من نكث عهده مع اللّه ونقض ميثاقه كيف حل بهم عذابه في الدّنيا وما أوعدهم به من العذاب الآخروي ومن منافع الحج المغفرة الواسعة الشّاملة لأشياء لا يمحوها إلا الحج، قال صلى الله عليه وسلم الحج مبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة وجاء أن من الذنوب ما يكفرها إلّا الحج، وقال عليه الصّلاة والسّلام من حجّ ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
وقد ضمن له الرّسول عن ربه عز وجل أن يرجعه سالما أو يدخله الجنّة.
قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية 100 من سورة النساء المارة وذلك لأنه لم يخرج إلّا للّه، والأعمال بالنيات.
ومن منافعه أنه وسيلة للتوبة لأن من لم يتب في مثل ذلك المكان ولم يخلص فيه الملك الدّيان يخسر الدّنيا والآخرة.
ووسيلة إلى الانتهاء عن المعاصي جميعها، قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} الآية 297 من البقرة المارة، لأنه إذا كان ينهى عن ملامسة الزوجات الحلال فلأن ينهى عن غيرهن من باب أولى، وذلك أو الحاج زمن الإحرام منهي حتى عن ملاذ اللّباس وزخارف الحياة، وما ذاك لتجنب الفتنة بجميع أنواعها، وهناك لا يشغل الغني جاهه ووجاهته، ولا تفتن الفقير حاجته وفاقته، فلا هو يحسد الأغنياء، ولا هم يمتهنون الفقراء، والكل أمام ان سواء حاسبين حساب المال، تائبين بطبيعة الحال، لا يعتبرون أنفسهم إلّا عبيد آبقين، قد آبوا إلى مولاهم مخلصين، راجين القبول والعفو عما مضى وإنه تعالى لا يخيب عبيده، ومن كمال رأفته بهم لا يسعه ردهم، وقد يتجلى عليهم بصفت الرحمانية وفضله الوافر، وهو المنان عليهم، فيبدل شرهم خيرا، وعسرهم يسرا قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} الآية 70 من سورة الفرقان ج1.
اللهم مهد لعبيدك أسباب الوصول إلى رحمتك وافتح لهم أبواب القبول، ويسر لهم القيام بخدمتك {رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ} الآية 38 من سورة إبراهيم عليه السّلام.