فصل: مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل اللّه وأول آية نزلت في الجهاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل اللّه وأول آية نزلت في الجهاد:

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} فلا يمكّن أعداءهم منهم إذا كانوا مؤمنين حقا، لأنه جل شأنه وعد بذلك فقال: {كانَ حقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية 48 من سورة الرّوم وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية 51 من سورة المؤمن وقال تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} الآية 172 من سورة الصّافات ج 2 راجع هذه الآيات تعلم كما أنت عالم من قبل أن وعده منجز إن اللّه لا يخلف الميعاد الآية 9 من آل عمران المارة وقال عز قوله: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} وقال جل قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حديثا} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} الآيات الآية 112 من سورة التوبة الآتية والآيتين 112 و152 من سورة النساء المارة، كلا لا أحد أوفى وأصدق البتة، وحاشاه من الخلف، وإنما يقع منا نحن المسلمين المؤمنين اسما لا فعلا، فلو كنا مؤمنين حقيقة إيمانا صحيحا كما أراده اللّه منا لكانت كلمتنا هي العليا دائما ولَكِنا أعزاء بعزة اللّه تعالى ورسوله المنوه بهما بالآيتين آنفا، ولَكِنا تركنا فتركنا ونسينا فأهملنا، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} الآية 68 من سورة التوبة الآتية وقال تعالى محذرا ومنذرا {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} الآية 19 من سورة الحشر المارة، فإنا للّه وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} راجع هذه الآية 54 من سورة الأنفال المارة ونظيرتها الآية 11 من سورة الرّعد المارة أيضا وإنا واللّه قد غيرنا وبدلنا وخنا أنفسنا وإخواننا لأنا لم نساعدهم عند ما يتجاوز عليهم إذا كنا بأمن مما يصيبهم، وهذه هي الخيانة العظمى، لذلك تبع اللّه هذه الجملة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (38) لحقوقه ومن حقوقه نصرة المؤمنين ومعونتهم بعضهم لبعض، لأن المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يتخلى عنه إذا وقع في شدة أو أحاطت به الأعداء، بل يجب عليه نصرته مالا وبدنا، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا لم يساعد بعضهم بعضا تفرقوا وانهاروا كما يتهار البناء غير المتقن أساسه، هذه فلسطين ينتابها العدو فيخذل أهلها، ويسلب مالهم وملكهم، ويقتل رجالهم، ونحن نسمع ونرى ونقعد عنهم ونعد أنفسنا مؤمنين، بل نحن القاعدون كالّذين أشار اللّه إليهم في الآية 82 من سورة التوبة الآتية المتخلفون عن مساعدة إخواننا ولا نتأذى لأذيتهم، والمؤمنون الصّادقون كالجسم الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر والحمى، فإذا تناصر المؤمنون فتعاونوا وتشاركوا بالضر والنّفع وأخلصوا لربهم دافع عنهم ونصرهم ورفع كلمتهم وأعلى شأنهم، كيف واللّه يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} الآية من آخر سورة المجادلة، وإنه تعالى يوفي لهم وعده المشار إليه في الآيات المارة، ومتى ما تخاذلوا وتقاطعوا ولم يبال بعضهم ببعض أهينو كلهم، واسترقوا وهلكوا أو ندموا من حيث لا ينفعهم النّدم، راجع الآية 102 من آل عمران فما بعدها، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} من قبل أعدائهم بأن يقاتلوهم بالمقابلة، وإنما أذن اللّه لهذا الصّنف بقتال أعدائهم {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} من قبلهم وتوالت عليهم تعدياتهم القولية والفعلية وكانوا يشكون أمرهم لحضرة الرّسول فيأمرهم بالصبر إذ لم يؤذن لهم بالقتال حتى خرج قوم من هذا الصنف مهاجرين بدينهم من مكة إلى المدينة قاصدين الالتحاق بحضرة الرّسول صلى الله عليه وسلم فاعترضهم قوم من مشركي مكة فاعتدوا عليهم فأنزل اللّه هذه الآية وهي أول آية نزلت بالقتال بعد أن نهى عنه رسوله في نيف وسبعين آية أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} الآية 197 هذه من سورة البقرة المارة، وإنما رجح في الآية بأنها أول آية نزلت في القتال لأن نزولها قبل هذه الآية التي نحن بصددها، ولأنها مقيدة بقتال من قاتل، والآية التي نحن بصددها أكثر إطلاقا منها، فمن هذه الحيثية يقال إنها أول آية نزلت في القتال على الإطلاق، راجع الآية 54 من سورة النساء المارة، لأن الّذين نزلت هذه الآية بحقهم هم من ذلك القبيل: أما ما جاء في الإكليل للحاكم من أن أول آية نزلت في القتال {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} فلا يصح، لأن هذه الآية 113 من سورة التوبة التي لم تنزل بعد لأنها متأخرة في في النّزول عن ذلك كله، وهي نزلت جملة واحدة تأمل {وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) تشير هذه الجملة إلى الوعد لهم بالنصر دون معونتكم لهم ولَكِن اللّه تعالى يريد أن تتناصروا على العدو ليزداد التآلف بينكم ولتكونوا يدا واحدة على الأعداء لتهابكم وتعظموا بأعينهم فلا يجرأوا على إيقاع شيء فيكم.
ثم وصفهم اللّه بقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وما كان سبب إخراجهم {إِلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ} لا غير، وهذا يوجب إبقاءهم فيها وإكرامهم وصيانتهم واحترامهم، لا إخراجهم وإهانتهم {وَلولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم، ومنعوهم عن عبادة اللّه المفهومة من قوله عز قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ} هي معابد الرهبان في الوادي، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا {وَبِيَعٌ} هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس {وَصَلَواتٌ} اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود، ويسمونها الآن بيعا، وهو عربي {وَمَساجِدُ} هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها، وإنما خص اللّه تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي لولا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته، ولَكِن اللّه تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر اللّه الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 40 منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب.
ثم وصف اللّه تعالى ناصريه بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها {أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأمور} (41) ومرجعها إليه، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم.
قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه، فما هو بمستبعد منهم {فَقَدْ كَذَّبَتْ} الرسل {قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى} أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ} السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلى ويفردوني بالعبادة، فآخذهم بأنواع العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} (44) عليهم، إذ أبدلت نعمهم نقما، وراحتهم محنة وحياتهم موتا، وعمارتهم خرابا، وجنايتهم خربا.
وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى: {فَكَأَيِّنْ} راجع الآية 60 من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها {مِنْ قَرْيَةٍ أهلَكِناها وَهِيَ ظالِمَةٌ} أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها {فَهِيَ خاوِيَةٌ} في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة {عَلى عُرُوشِها} أي سقوفها {وَ} كم من {بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي.
والقرى عطف على قر {وَ} كم من {قَصْرٍ مَشِيدٍ} (45) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية. تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم اللّه إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.

.مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صالح عليه السّلام فسميت تلك البلدة حضرموت وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت سلمية وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم بعل وصاحبه بك ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟
وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل اللّه إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر اللّه القائل {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض} هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} كيفية إهلاكهم وسببه {أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون، ولَكِن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ} عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى.
تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا سيد الرّسل {بِالْعَذابِ} الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة، لأنه مما وعد اللّه {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام اللّه طويلة ليست كأيامكم {وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} (47) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ} فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح، فاغترت وتمادت بالعصيان، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال، وإنها لم تؤخذ {ثُمَّ أَخَذْتُها} على غرّة {وإلي المصير} (48) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي، وعدم الاغترار بما يملي لهم. وهم ما هم على ما هم عليه، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق يكون مصيرهم مصير من قبلهم.
ألا فليقلع الظّالم عن ظلمه ويتيقن أنه مهما طال أجر وإمهاله فإنه لا يمهل ويؤخذ على غفلة فيخسر الدّنيا والآخرة، لأنّ عمله في الدّنيا لم يقصد به وجه اللّه، ولم يطلب به مرضاته، ولم يتصرف بما من اللّه عليه بما يرضيه.
فيا أكمل الرّسل {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (50) ما أرسلت به إليكم ومبلغ لا مسيطر ولا جبار ولا مكره {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} منكم في هذه الدّنيا {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوب السابقة {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (50) في الجنّة بالآخرة جزاء أعمالهم الطّيبة {وَالَّذِينَ سَعَوْا} أفسدوا {فِي آياتِنا} المنزلة على رسولنا {مُعاجِزِينَ} مثبطين النّاس عن الإيمان بها، ما نعيهم عن سماعها، مشاقين لها، معاندين لقدرتنا، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (51) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة، قال تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى} قرأوا عليه قوله:
تمنى كتاب اللّه أو ليلة ** تمنى داود الزبور على رسل

وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ} أي قراءة راجع الآية 78 من سورة البقرة المارة فلا ينظرون المعنى وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمني حصولها له، وإذ انتهى إلى آية عذاب عفوه منها.
والتمني نهاية التقدير، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا واللّه أعلم.
ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله: {أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته} أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} يمحو ويزيل ويعدم وينسى {ما يُلْقِي الشَّيْطانُ} من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات {يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ} يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية، فلا يلتحق بها ما ليس منها لسابق عهده تعالى بحفظ القران من غيره، راجع الآية 9 من سورة الحجر المارة وما ترشدك إليه من المواقع {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما أوحاه لرسوله يحميه من خلط الشّيطان {حَكِيمٌ} 52 في تمكين آياته وصوتها من غيرها وفي امتحان عباده بها.
واعلم أن ذلك الإلقاء والنّسخ والإلهام ما هو إلا {لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً} محنة وبلاء واختبارا وامتحانا {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك وريبة فتأخذهم أهواءهم غير مأخذ لخبثها {وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عطف على الّذين في قلوبهم مرض يريد بهم المشركين الجافية قلوبهم عن قبول الحق ليزدادوا شبهة ومرية فيه وشكا وريبا فيمن أنزل عليه وكفرا وجحودا بمن أنزله {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} من هؤلاء الكفرة {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} (53) عن الحق {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} باللّه ورسوله وما أنزل عليه {أَنَّهُ الْحَقُّ} الصريح والصّدق البالغ منزل عليك يا سيد الرّسل {مِنْ رَبِّكَ} الذي رباك وشرفك في هذه الرّسالة وهذا القرآن العظيم، ذلك الإله الذي أحكم آياته وصانها عن غيرها وهذه الجملة معطوفة على جملة ليجعل، ثم فرّغ عنها قوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ} تطمئن وتسكن وتخضع وتخشع {لَهُ قُلُوبُهُمْ} فيذعنوا له ويعلموا أنه الحق فيهتدوا به {وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (54) عدل سوي لا يميلون إلى غيره ولا ينحرفون عنه ولا يشكون فيه {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} وشك فيمن جاءهم به وريب من إنزاله ومنزله {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} التي يموتون بها {بَغْتَةً} لا تمهلهم طرفة عين ليتمكنوا من الرّجوع عن كفرهم وشكهم {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (55) لا ليلة بعده ولا له مثل وهو يوم القيامة.
ولا وجه لمن قال أن في جعل اليوم يوم القيامة تكرارا لأن المراد بالساعة هو يوم القيامة، ولأن السّاعة وقت يوم كلّ أحد، ولأن اليوم الذي ذكر فيه العذاب، ولأن السّاعة من مقدمات القيامة واليوم يومها، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} هذا واللّه أعلم.