فصل: مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل:

وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات اللّه ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ} الآية 121 من سورة الأنعام وقال: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} الآية 141 منها أيضا ج 2 وقال تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} الآية 32 من الفرقان ج 1 ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول اللّه تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة اللّه لأنه هو أماتها، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره.
وعند سماعهم قوله جل قوله: {إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية 99 من الأنبياء المارة يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون اللّه، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها.
وعلى هذا يحرز أنه صلى الله عليه وسلم عند ما قرأ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة} الآية 19 من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلى الله عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السّلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها، فظنوها من قراءته صلى الله عليه وسلم فراقت لهم، ولذلك لما سجد صلى الله عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم وكانوا عارفين ما يتلى عليهم لأنهم يصغون لكلامه بكليتهم ليحفظوه عنه، وهم يعرفون كراهية الأصنام من حال الرّسول وذمّه لها وتحقيرها وأهلها، فلا تخطر ببالهم، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأصدقه وأحقه.
وما قيل إنه صلى الله عليه وسلم نطق بتلك الكلمات سهوا أو خطأ أو نسيانا أو أنه تمنى أن ينزل عليه مدح آلهتهم فممتنع قطعا وحاشاه من ذلك، وساحته براء مما هنالك، ولا يوجد دليل أو أمّارة يميل إليها الفطن أو برهان أو إشارة ينحاز إليهما الفكر، لأنه عليه الصّلاة والسّلام معصوم ومنزه عن أن يقول أو يخطر بباله أو يتصور بخياله شيئا من ذلك ولا يتقول بهذا القول ويزعم وقوعه منه إلّا منافق زنديق كافر، ولا ينقل هذه الترهات إلّا من لا نصيب له من الهداية، ولا يصغي إلى هذه الخزعبلات إلّا أهل الشكوك الّذين في قلوبهم مرض، إذ لم يرد نقل أو خبر أو سند صحيح أو ضعيف أو غريب بذلك ليطمئن أو يركن إليها أو رواية يمكن أن يستند لها أصلا، ويدلك على اختلافها اختلاف الرّوايات.
ومباينة الأقوال ومناقضة الأخبار وضعف ناقليها واضطراب رواتها وانقطاع إسنادها وتضارب عباراتها وتلفيق ألفاظها بصورة لا تقبل التأويل ولا التأليف أبدا، وهذا كاف لردّها وإنكارها.
هذا وما قاله بعض العلماء بأن هذه الآيات الأربع نزلت بين مكة والمدينة بعيد عن الثبوت إذ لا مناسبة بينهما وبين ما وقع في الطّريق أثناء الهجرة، وكذلك لا يصح القول بأنها نزلت يوم بدر لأنه لا يجوز أن يقول اللّه تعالى: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} الآية المارة، لأنه من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر كما أن ما جاء في تفسير بعض المفسرين بأن هذه السّورة مكية عدا الآيات الخمس 12 و13 و40 و41 و78 والآيات من 20 إلى 25 غير سديد لأن الحج لم يفرض بمكة والحوادث المشيرة إليها بعض الآيات منها لم تقع في مكة، ومن المعلوم أن كل ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا، كما أن كلّ ما نزل قبلها يسمى مكيا.
واعلم أن السّبب الدّاعي لعدّها مكية بدؤها بيا أيها النّاس، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس، وإشارة بعض الآيات إلى أحوال أهل مكة، وإلّا في الحقيقة هي مدنية عدا الآيات الأربع التي نحن بصددها، وأنهن على القول نزلن بعد سورة النّجم كما أشرنا إليه آنفا في هذه السّورة وفي سورة النّجم أيضا، كما هو الواقع واللّه أعلم.
قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا {لِلَّهِ} وحده، وهو قبل ذلك اليوم كله للّه أيضا، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه. إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه. إذ يكونون مملوكين فيه للّه هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين للّه الذي {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} في ذلك اليوم العظيم.
ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)} هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القران والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه، أما القران فلقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} الآيتين 44 و45 من سورة الحاقه وقوله تعالى: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إلى} الآية 5 من سورة يونس ج 2 أيضا وقوله تعالى: {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} الآيتين 4 و5 من سورة النّجم فلو قرأ صلى الله عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحينا إِلَيْكَ لِتَفْترى عَلَيْنا غَيْرَهُ} الآية 174 وقوله: {وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} الآية 75 من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا، وقوله تعالى: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} الآية 32 من سورة الفرقان وقوله: {سَنُقرئكَ فَلا تَنْسى} الآية السّابعة من سورة الأعلى ج 2، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي، وقد نفاه اللّه عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه.
وأما السّنّة فمنها ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النّقل وأن رواتها مطعون فيهم.
وقد روى البخاري في صحيحه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة والنّجم وسجد فيها وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق البتة.
وأما العقل فمن المعلوم ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم سعيه في تبكيت الأصنام والأوثان وأن نسبة ما ذكر إليه صلى الله عليه وسلم يوجب تعظيمها ومن جوز عليه تعظيمها فقد كفر، لأنه بعث لرفعها من على وجه الأرض وقتل من يعبدها إذ لو جوز ذلك عليه صلى الله عليه وسلم لارتفع الأمن عن شريعته، ويجوز أن يكون مثل ذلك في جميع الأحكام والشّرائع وهو باطل لا يجوز في شيء منها وحينئذ يبطل حكم قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية 70 من سورة المائدة الآتية إذ لا فرق عقلا بين نقصان الوحي والزيادة فيه، وإن الإجماع فقد أجمع على هذا الأولون والآخرون والقياس يأبى عدمه.
فبهذا وبما ذكرناه في الصّفحتين المارتين وما أثبتناه في سورة والنّجم يثبت وضع هذه القصة التي ذكرها بعض المفسرين بناء على خبر الواحد الذي لا يعارض هذه الدّلائل النّقلية والعقلية المتواترة هذا واللّه أسأل ونبيه أتوسل أن ينقي قلوب هذه الأمة المحمدية من كلّ ما يضرها في الدين والدّنيا والآخرة، ويثبت عقيدتها في دينها القويم انه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير.
لما قال بعض أصحاب رسول اللّه قد علمنا ما اعطى اللّه الشهداء ونحن نجاهد معك، فإذا لم نقتل ومتنا حتف أنفسنا فمالنا عند اللّه غير سعادة الدنيا أنزل اللّه قوله: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} في الآخرة {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)} لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية، ورزق اللّه عباده دائم لا من فيه.
ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو اللّه الذي سخر بعضهم لبعض.
ثم أقسم جل قسمه {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} ويسرون منه، إذ لم يروا مثله ولا ينالهم فيه مكروه ولا يحتاجون لاحد يتوسط لهم به، ولا كلفة بتناوله {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بنيات هؤلاء المجاهدين المهاجرين الذي سيعطيهم هذا الجزاء الجزيل {حَلِيمٌ} 59 بإمهال من قاتلهم عنادا على ما هم عليه من الحق {ذلِكَ} الأمر الذي قصصناه عليك يا سد الرّسل هو الحق الذي لا مرية فيه {وَمَنْ عاقَبَ} غيره {بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ} بأن أوقع على من ظلمه بمثل ما وقع منه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} بعد ذلك الاقتصاص الذي لا جناح عليه بفعله بمقتضى قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية 195 من البقرة المارة وقوله جل قوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} الآية 43 من سورة الشّورى ج 2 {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} لأنه مظلوم حق على اللّه نصرته {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} عما فعل بمن اعتدى عليه على طريق المقابلة، لأن ذلك حقه قد رخص اللّه له استيفاءه منه {غَفُورٌ} 60 لأمثاله المؤمنين لأخذه بالرخصة التي منحه اللّه إياها، وعدم أخذه بالعزيمة، وجنوحه للأخذ بالرخصة فعل لا مؤاخذة عليه ولا عتاب.
{ذلِكَ} نصر اللّه للبغي عليه {بِأَنَّ اللَّهَ} الذي {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا.
والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما، وهذا لا يقدر عليه إلّا اللّه {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} بكل ما يقع في كونه {بَصِيرٌ} (61) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله {ذلِكَ} الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من الأوثان {هُوَ الْباطِلُ} المفترى من اختلاق قليلي العقول {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (62) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية 30 من سورة لقمان ج 2.

.مطلب تعجيب اللّه رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أيها الإنسان العاقل {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته {خَبِيرٌ} 63 بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرض} ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} عنهم {الْحَمِيدُ} 64 بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم، ولا غنى لهم عنه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} أيها النّاس ما فِي الأرض من الدواب والمعادن وغيرهما {وَالْفُلْكَ} سخرها لكم {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر {وَيُمْسِكُ السماء} بقدرته البالغة من {أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إِلَّا} إذا أراد وقوعها فإنها تقع {بِإِذْنِهِ} عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده، راجع أول سورة الانفطار المارة {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (65) بالغ الرّحمة بعباده.
وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك اللّه إياها، راجع الآية 42 من سورة فاطر وهي نظير هذه الآية في المعنى، واللّه أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول.
وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ} في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم في الدّنيا {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} 66 لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا} مذهبا وطريقة وشريعة هم أهل هذا المنسك المخصّص لهم لابد {ناسِكُوهُ} مقتفون أثره وعاملون به ومقيدون بما فيه دون الأمم الأخرى، لأنه تعالى شرع لعباده شرائع على لسان رسله ليتعبّدوا بها لا ليجادلوا ويخاصموا من أجلها، فالأمم التي قبل موسى منكم صحف إبراهيم ومن قبله، ومن موسى إلى عيسى منسكهم التوراة، ومن عيسى إلى محمد التوراة والإنجيل المعدل لبعض أحكامها، ومن بعثة محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين وسلم إلى يوم القيامة منسكهم القران يعملون به دون غيره.
قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} الآية 52 من المائدة الآتية {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} يا سيد الرّسل أهل الكتابين الموجودين في زمنك بأن شريعتهم ما كان عليه آباؤهم لأن كلّ شريعة تنتهي بإنزال ما بعدها من الشّرائع السّماوية على لسان رسل اللّه، بنقض العمل بها عند ما تحل محلها شريعة إلهية أخرى، فشريعتهم لمن كان قبل بعثتك وقد نسخت بشريعتك التي نسخت كلّ الشّرائع المخالفة لها سواء بالذبائح المعبر عنها بالنسك أو غيرها، وقد جاءت جامعة لأصول وفروع جميع الشّرائع، حاوية لأحسنها.
قال تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها} الآية 107 من البقرة المارة {وَادْعُ} يا سيد الرّسل جميع النّاس إلى شريعتك هذه، لأنا أرسلناك إليهم كافة، راجع الآية 39 من سورة سبأ ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع وأمر النّاس كافة بالإخلاص {إِلى رَبِّكَ} بان يطيعوك ويعملوا بما أنزل عليك وعزتي وجلالي {إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (67) وهم على ضلال معوج في نزاعك {وَإِنْ جادَلُوكَ} بعد ما تبين لهم هداك وأصروا على منازعتك في أمر الدّين {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} (68) من مخالفتي مع علمكم أني على الحق، وإذا أصروا على جدالهم فأعرض عنهم، وقل {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وبيننا وبين الخلق أجمع {يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (69) وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل.
ولا نسخ في هذه الآية لأن اللّه تعالى لم يأمر نبيه بقسر أهل الكتابين على قبول دينه، بل بالاكتفاء بأخذ الجزية منهم وقد ضربها عليهم ولم تزل تؤخذ منهم إلى يوم القيامة، لأن الأتراك المسلمين لا يزالون يتقاضونها منهم، وهكذا بعض ملوك المسلمين، أما ما يقع في تنفسات الزمن من إعفاء بعضهم من ذلك وحمايتهم من قبل الغير فلما انقضاء عند ما يعود المسلمون إلى التمسك بدينهم وينبذون التقاليد الأجنبية ويوحدون كلمتهم.