فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}.
قوله تعالى: {وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار} ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ:
أحدهما: أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ: خَلَفَهُ يَخْلَفُهُ إذا ذهبَ الأوَّل، وجاء الثَّاني، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء؛ يقالُ: فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده، فَذَاهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ، فهو خِلْفَةُ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62]؛ ومنه قول زهير: الطويل:
بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ** أَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ

المديد:
وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا ** أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا

خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ** سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا

الثاني: اختلاف الليل والنهار، في الطول والقِصَر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان.
قال الكسائي: يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا: هُمَا خلَفَان.
قال ابن الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ، وهو أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول: إِنَّ الأرض كُرَةٌ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها، فتلْكَ الساعةُ في موضِع مِنَ الأرض صُبحٌ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ، وهلُمَّ جرًّا، هذا إذا اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول، أما البلادُ المختلفَةُ في العَرْضِ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ.
وأيضًا: فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية، هذا أيضًا من الآياتِ العَظِيمة.
وأيضًا: انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ، ولاَ الكَدرُ الصافي، وهو المرادُ بقوله: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَنًا} [الأنعام: 96].
قال علماءُ الهَيْئَة: إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه سِتَّةَ أشهرٍ نهارًا وستَّةُ أشْهُرٍ ليلًا، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة.

.فصل في أصل الليل:

اختلفُوا؛ قيل: الليلُ: اسم جنس، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث؛ فيقال: لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ، والصحيحُ: أنَّهُ مفْرَدٌ، ولا يحفظ له جَمعٌ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ الليالي جَمْعُ لَيْلٍ، بل الليالي جمعُ لَيْلَة وهو جمعٌ غريبٌ، ولذلك قالُوا: هو جمعُ لَيْلاَةٍ تقديرًا، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر: السريع أو الرجز:
في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ ** حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَا رَآهْ

يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ

ويدلُّ على ذلك تصيغرُهُمْ لها على ليُبْلَةٍ ونظيرُ لَيْلَةٍ وولَيَالٍ: كَيْكَةٌ وكَيَاك؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّاها كَيْكَاتٌ في الأصْل، والكَيْكَةُ: البَيْضَةُ.
وأمَّا النَّهار: فقال الرَّاغب: هو في الشَّرْع: اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس.
قال ابن فَارِس: والنَّهارُ: ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي: وهُوَ الصحيحُ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في صحيح مسلم: عن عَدِيِّ بن حاتم، قال: لَمَّا نَزلَتْ: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] قال له عَدِيٌّ: يا رسول اللَّهِ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن؛ عِقَالًا أَبْيَضَ، وعِقَالًا أَسْوَدَ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: «إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ» يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان، وبه ترتبطُ الأحْكام.
وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار.
وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ: هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس زاد النَّضْرُ: ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار.
وقال الزَّجَّاج: أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس.
ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة؛ نحو: قَذالٍ، وقُذُلٍ، وأَقْذِلَة.
وقيل: لا يُجْمَعُ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر، والصحيحُ: جمعُهُ على ما تقدَّم.
قال: الراجز.
لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ ** ثَرِيدُ لَيْلٍ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ

وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ، ومنه النَّهَارُ لاتِّسَاع ضَوْئه عِنْد قوله: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] قاله ابن عبَّاس رضي الله عنهما: قال ابن فارس: ويقال: إنَّ النَّهارِ فَرْخٌ الحَبَارَى وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ؛
وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وهذا أصحُّ القولَين.
وقيل: النُّورُ سابِقُ الظلمةِ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ، وهي أنَّ الليلة، هَلْ هي تابعةُ لليوم قبْلَهَا، أو لِلْيَومِ بَعْدها.
فعلى الصَّحيح: يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها، فيكونُ اليَوْم تابعًا لها، وعلى الثاني: تكونُ للْيَوْم قبْلَها، فتكون اللَّيلة تابعةً لها.
فيَوْمُ عَرَفَةَ؛ على الأوَّل: مستثنى من الأصْلِ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده، وعلى الثاني: جاء على الأصْلِ.
قال القرطبي: وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام:
قِسْمًا جعَلَه لَيْلًا مَحْضًا؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر، وقِسْمًا جعَلَهُ نهارًا مَحضًا، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها، وقِسْمًا جعَلَهُ مُشْترِكًا بين النَّهارِ واللَّيْلِ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل، ومَبَادِئ ضَوء النَّهار.
قوله تعالى: {وَالفُلْك} عَطْفٌ على خَلْقِ المجرورة ب {فِي} لا على {السَّمَواتِ} المجرورة بالإضافة، و{الفُلْك} يكونُ واحدًا؛ كقوله: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41]، وجَمْعًا كقوله: في الفُلْكِ {الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ، ففيه أقوالٌ:
أصحُّها- وهو قولُ سيبويه: أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ، وإنْ قيل: جمْعُ التكسيرِ لابد فيه من تَغَيُّرٍ ما، فالجَوَابُ: أنَّ تغييره مقدَّرُ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعًا، كالضمة في حُمُرٍ ونُدُبٍ وفي حال كون مفردًا، كالضَّمَّة في قُفْلٍ، وإنَّما حمل سيبيوه على هذا، ولم يجعلهُ مشتركًا بين الواحد والجمع؛ نحو: جُنُبٍ وشُلُلٍ فلَمَّا ثَنَّوْهُ، وقالوا: فُلْكَانٍ، علمْنا أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في جُنُبٍ وشُلُل ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ، ودرْعٌ دِلاَصٌ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في كِتَاب وفي الجمع كالكسرة في رِجَال؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة: هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ.
الثاني: مذهب الأخفش: أنَّه اسم جمع، كصحبٍ، وركبٍ.
الثالث: أنَّه جمع فَلَكٍ بفتحتين، كأسدٍ وأُسدٍ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين الواحد والجمع، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية، ولم يذكر لاختياره وجهًا، وإذا أفرد فلك فهو مذكَّر؛ قال تعالى: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41].
وقال جماعةٌ، منهم أبو البقاء: يجوزُ تَأْنيثُهُ؛ مستدلِّين بقوله: {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} فوصفه بصفة التأنيث، ولا دليل في ذلك؛ لاحتمال أن يراد به الجمع؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد.
قال الواحديُّ: وأصله من الدَّوَرَان، فكل مستدير فلك، ومنه فَلَكُ السَّمَاءٍ؛ لدوران النُّجوم فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَلِ وفَلكَتِ الجَارِيَةُ: استدارَ نَهْدُها، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ.
وجاء بصلة {الَّتِي} فعلًا مضارعًا؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث، وإسناد الجري إليها مجازٌ، وقوله: {فِي البَحْرِ} توكيدٌ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره؛ كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].

.فصل في سبب تسمية البحر بالبحر:

قال اللَّيثُ: سمي البحر بحرًا؛ لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال: استبحر فلانٌ في العلم، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ، وتبحَّر فلانٌ في المال.
وقال غيره: سُمِّيَ البحر بحرًا؛ لأنَّه شقّ في الأرض، والبحر الشَّقُّ، ومنه البُحَيْرَة.
قوله تعالى: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}.
في ما قولان:
أحدها: أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا: الباء للحال، أي: تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس.
الثَّاني: أنها حرفيَّةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب، أي: تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها.
قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاءٍ} [البقرة: 164] من الأولى معناها ابتداءُ الغاية، أي: أنزل من جهة السماء، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره.
والثاني: أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ.
والثالث: أن تكون هي وما بعدها بدلًا من قوله: {من السماء} بدل اشتمالٍ بتكرير العامل، وكلاهما أعني مِن الأولى، ومِن الثانية متعلِّقان ب {أَنْزَلَ}.
فالجوابُ: أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف، ولا بدلٍ، لا تقول: أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الآية الكريمة: فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ {مِنَ} الثانية للبيان، أو للتبعيض، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، وإن جعلناها لابتداء الغاية، فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوز ذلك فيه، كما تقدَّم، ويجوز أن تتعلَّق {مِن} الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه، وهو {مَا}، أو من ضميره المنصوب ب {أنْزَلَ}، أي: وما أَنْزَلَ اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ كائنًا من السَّماء.
قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ} عطف {أحْيَا} على {أَنْزَلَ} الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب، دلالة على سُرعة النبات، و{بِهِ} متعلِّق بأَحْيَا والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب، وأن تكون باء الإله، وكلُّ هذا مجازٌ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في {به} يعود على الموصول.
قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا} يجوز في {بَثَّ} وجهان:
أظهرهما: أنَّهما عطفٌ على {أَنْزَلَ} داخلٌ تحت حُكم الصِّلة؛ لأنَّ قوله: {فَأَحْيَا} عطفٌ على {أَنْزَلَ} فاتصل به، وصارا جميعًا كالشَّيء الواحد، وكأنه قيل: وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ، ويَعِيشُون بالحَيَا: قاله الزمخشريُّ.
والثاني: أنه عطفٌ على أَحْيَا.
واستشكل أبو حيَّان عطفه عليها؛ لأنَّها صلةٌ للموصول، فلابد من ضمير يرجع من هذه الجملة إليه، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ؛ لأن {فيها} يعود على الأَرْض، فبقي أن يكون محذوفًا، تقديره: وبَثَّ به فيها، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرورة بحرف إلا بشروطٍ:
أن يكون الموصول مجرورًا بمثل ذلك الحرف.
وأن يتَّحِد متعلَّقهما.
وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ.
وأن يتعيَّن للرَّبط.
وألا يكون الجارُ قائمًا مقام مرفوعٍ.
والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ؛ قال: وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه؛ وأنشد شَاهِدًا عليه: الخفيف:
مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ** وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ

أي: والَّذي أَطَاعَ؛ وقوله: الوافر:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ** وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ

أي: ومن يَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ.
وقوله: الطويل:
فَوَاللَّهِ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ** بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ

أي: مَا الَّذِي نِلْتُمْ، وقوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]؛ ليطابق قوله: {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136]، ثم قال: وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل- يعني: جواز الحذف- وإن لم يوجد شرطه.
قال: وقد جاء ذلك في أشعارِهِم؛ وأنشد: الطويل:
وَإشنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ** وَهُوَّ عَلَى مَْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ

أي: عَلْقَمٌ عَلَيْهِ، وقوله: الطويل:
لَعَلَّ الَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي ** إلى الأَرْضِ إشنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ

أي: أصْعَدتنِي بِهِ.
قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} يجوز في {كُلِّ} ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون في موضع المفعول به، وتكون {مِنْ} تبعيضيَّةً.
الثاني: أن تكون {مِنْ} زائدةً على مذهب الأخفش، و{كُلِّ دَابَّةٍ} مفعولٌ به ل {بَثَّ} أيضًا.
والثالث: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول {بَثَّ} المحذوف، إذَا قلنا: إنَّ ثَمَّ موصولًا محذوفًا، تقديره: وما بَثَّ حال كونه كائنًا من كُلِّ دابَّةٍ؛ وفي {مِنْ} حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أن تكون للبيان.
والثاني: أن تكون للتبعيض.
وقال أبو البَقَاءِ رحمه الله: ومفعول {بَثَّ} محذوفٌ، تقديره: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} وظاهرُ هذا أنَّ {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: صفةٌ لذلك المحذوف، وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته.
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريقٌ.
قال: الطويل:
...... ** وَفِي الأرْضِ مَبْثُوثًا شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ

ومضارِعُه: يَبُثُّ، بضم العين، وهو قياسُ المُضَاعف المُتَعَدِّي، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ؛ قالوا: نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ بالوجهين.
والدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوانٍ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه، ورُدَّ عليه بقول عَلْقَمَةَ: الطويل:
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ** صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ

وبقول الأعْشَى: الطويل:
....... ** دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ

وبقوله سبحانه: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] ثمَّ فَصَّل: بمن يمشي على رجلين، وهو الإنسان والطَّير.
قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ}: {تَصْرِيفِ}: مصدرُ صَرَّفَ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب، ويجوزُ أنْ يكون مضافًا للفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: وتصريف الرِّياح السَّحَابَح فإنَّها تسوق السَّحاب، وأن يكون مضافًا للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أي: وتصريفُ الله الرِّياح، والرِّياح: جمعُ رِيح، جمع تكسير، وياء الرِّيح، والرِّياح عن واو، والأصلُ روحٌ؛ لأنَّه من: رَاحَ يَرُوحُ، وإنَّما قُلِبَتْ في ريح؛ لِسُكُونها، وانكسار ما قَبْلها، وفي رِيِاح؛ لأنَّها عينٌ في جمع بعد كسرةٍ، وبعدها ألفٌ، وهي ساكنةٌ في المفرد، وهي إبدالٌ مطَّردٌ؛ ولذلك لمَّا زال موجب قلبها، رجعت إلى أصلها؛ فقالوا: أرواحٌ؛ قال: الطويل:
أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ ** فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ

ومثله: الوافر:
لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ** أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ