فصل: (سورة الحج: آية 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الحج: آية 11]:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَانَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالآخرةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)}.
وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَانَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} [11]
وهذه استعارة. والمراد بها- واللّه أعلم- صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها، ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة. فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه.

.[سورة الحج: الآيات 18- 19]:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدواب وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)}.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدواب} [18] الآية.
وهذه استعارة. والمراد- واللّه أعلم- بسجود الشمس والقمر والنجوم والشجر وما ليس بحيوان مميز ما يظهر فيه من آثار الخضوع للّه سبحانه، وعلامات التدبير، ودلائل التصريف والتسخير، فيحسن لذلك أن يسمّى ساجدا على أصل السجود في اللغة، لأنه الخضوع والاستكانة. أو يكون ذلك على معنى آخر، وهو أن الذي يظهر في الأشياء التي عدّدها، من دلائل الصنعة، وأعلام القدرة، يدعو العارفين الموقنين إلى السجود، ويبعثهم على الخضوع، اعترافا له سبحانه بالاقتدار، وإخباتا له بالإقرار. وذلك كما تقدّم من قولنا في تسبيح الطير والجبال.
وقوله سبحانه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ} [19] وهذه استعارة. والمراد بها أن النار- نعوذ باللّه منها- تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك- واللّه أعلم- أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه، فقال: {سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ} إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم.

.[سورة الحج: آية 46]:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}.
وقوله سبحانه: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [46] وهذه استعارة. لأن المراد بها ذهول القلوب عن التفكر في الأدلة التي تؤدى إلى العلم. وذلك في مقابلة قوله تعالى: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية والإبصار، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون، لأن بالقلوب يوصل إلى المعلومات، كما أن بالعيون يوصل إلى المرئيات. ولأن الرؤية ترد في كلامهم بمعنى العلم.
ألا تراهم يقولون: هذا الشيء منى بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه، ولا يريدون بذلك نظر العين، ولا سمع الأذن.
وفي قوله سبحانه: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ} معنى عجيب، وسر لطيف. وذلك أن سبحانه لم يرد نفى العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نومئ إليه، وندل عليه؟ وإنما المراد- واللّه أعلم- أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته. والقلوب بخلاف هذه الصفة بها، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة، ثم هى مع ذلك لاهية عن النظر، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها اللّه سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة.
فأما الفائدة في قوله سبحانه: {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، فإن هذا الاسم الذي هو القلب لما كان فيه اشتراك بين مسمّيات كقلب الإنسان، وقلب النخلة، والقلب الذي هو الصميم والصريح. من قولهم هو عربىّ قلبا، والقلب الذي هو مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا، حسن أن يزال اللّبس بقوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} احترازا من تجويز الاشتراك.

.[سورة الحج: آية 55]:

{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}.
وقوله سبحانه: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [55].
وهذا من أحسن الاستعارات. لأن العقيم المرأة التي لا تلد، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار، لأن الزمان قد مضى، والتكليف قد انقضى. فجعلت الأيام بمنزلة الولدان للّيالى، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيما، لأنه لا ينتج ليلا بعده، ولا يستخلف بدلا له. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد- واللّه أعلم- أن ذلك اليوم لا خير بعده لمستحقى العقاب الذين قال اللّه سبحانه في ذكرهم: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} الآية، فوصفه بالعقم لأنه لا ينتج لهم خيرا، ولا ينتج لهم فرحا.

.[سورة الحج: آية 72]:

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}.
وقوله سبحانه: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [72].
وهذه استعارة. والمراد بها- واللّه أعلم- أن الكفار عند مرور الآيات بأسماعهم يظهر في وجوههم من النكرة لسماعها والإعراض عن تأملها، ما لا يخفى على المخالط لهم، والناظر إليهم. وذلك كقول القائل: عرفت في وجه فلان الشرّ. أي استدللت منه على اعتقاد المكروه، وأرادة فعل القبيح.
ويحتمل قوله تعالى: {المنكر} هاهنا وجهين: أحدهما أن يكون المنكر ما ينكره الغير من أمرهم. والآخر أن يكون ما ينكرونهم هم من الهجوم عليهم، بتلاوة القران. وصوادع البيان. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الحج:
بدأت سورة الحج بنداء عاطفى مثير للذعر، لأنه يحمل في أطوائه بعض أهوال القيامة! {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى }. وقد جاء في السنة أن الزلازل تهيج قبيل قيام الساعة، ومعها براكين تلفظ ما في باطن الأرض من معادن! يلتقطها الناس وهم فيها زاهدون. كأن هذه الحركة صحوة الموت، أو انتفاضة الوداع الأخير...! وبعد هذا الوصف نداء عقلى يوقظ العقل الخامل، أو يقتل الريبة المخامرة: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم }. الريبة في البعث أساسها الغفلة الشديدة عن قصة الحياة والأحياء، وظن الجهال أن البعث عمل مستقبلى لا يشهد له ماض أو حاضر.! في كل يوم، بل في كل طرفة عين بعث!! يتولاه الله وحده، فلماذا نستبعد عليه البعث الأخير؟. هذه الأجنة التى تقذف بها الأرحام في كل لحظة بعث لا أثر فيه لقدرة بشر!. من خالق الحيوان المنوى؟ من الذي يحوله في أطواره المتتابعة حتى يكون جنينا مكتمل الحواس، ومن الذي يخرجه من بطن أمه بعدئذ. لتتعامل رئتاه مع هواء الدنيا، ولتتعامل عيناه مع الأشعة والأضواء؟؟. من الذي زوده بالخصائص الوراثية المذهلة؟. إن القصة لا تعنى حياة جنين واحد زار الدنيا في ساعة من ليل أو نهار، إنها ألوف من الأجنة تستبقى الحياة البشرية موصولة التيار في بحرها الموار.. وندع الحديث عن الأحياء البشرية وغير البشرية التى تغمر البر والبحر إلى حديث آخر {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}.
كيف ينشق الثرى عن الحبوب والفواكه؟ لماذا نصدق هذا البعث ونستبعد البعث الآخر؟ من هذا التراب الميت الذي تدوسه أقدامنا تخرج سنابل الآرز والقمح حاملة أغذيتنا التى نعيش بها، حاملة عناصر الحياة المختلفة من نشا وسكر ودهن وزلال وأملاح ومعادن وفيتامينات!. هذا واقع لايمكن إنكاره، فمن النتن الممجوج والحمأ المسنون تخرج حلوى وورود وأزهار حلوة الطعوم والروائح!!. من صانع هذا كله؟ ولماذا نستنكر على صاحب البعث الأول!، أن يعيد هذا البعث بعد حصاد الدنيا وانتهاء أجلها؟. ومن هنا يذكر القران النتائج التى لابد منها، بعد النداءين العاطفى والعقلى: {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}. وكثير من الناس يثق من هذه النتائج تمشيا مع منطق العقل ونداء الفطرة، ولَكِن آخرين يرفضون الإيمان ويرون حياتهم وليدة مصادفة عمياء، ومصيرهم إلى مجهول أو إلى هباء!. ومن الخطأ احترام نظرة هؤلاء، وقد راجت شائعة بأن كثيرا من المفكرين ملاحدة! وهذا كذب، وقد أثبت الأستاذ العقاد في كتابه عقائد المفكرين أن جمهرتهم من المؤمنين. إن الكفر بالله موجود بيد أنه لا يستند إلى أساس علمى أبدا، ويغلب أن يرجع إلى غباء مستحكم، أو خطأ في الحساب، أو شهوة غالبة، أو غرور أعمى. إن إبليس كان يعلم أن الله حق عندما رفع راية التمرد عليه، وانطلق في الأرض عدوا له!!. وقد بدأت الآيات تشرح أنواع الكفر من قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله } إن الكافر يغدر بميثاق الفطرة المركوزة في كيانه، وبآيات الوحى المسوقة إليه ليتذكر ويرعوى!! ولست أرى أحقر من هذا الموقف!. وهناك صنف آخر يربط إيمانه بما يصيبه من نفع، فإن كان ناعم البال فهو مؤمن، وإلا أعلن تمرده وعصيانه! {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}. والمفروض أن فترة الحياة الموهوبة للإنسان في هذه الدنيا هي فترة اختبار وتحميص، يتقلب فيها بين ما يحب وما يكره، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر!! أما أن يصف ما يصيبه بأنه قدر أحمق الخطا - كما يقول البعض- فهذا كفر محض.
إن الإسلام انقياد لله ورضا بحكمه فيما يسر أو يسوء من عرف الله أزال التهمة وقال: كل فعله بالحكمة {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}. ويقول الشاعر:
يود المرء أن يلقى مناة ** ويأبى الله إلا ما يشاء

فمن استسلم لأقدار الله نجا ** وإلا فلينتحر إذا لم يعجبه القضاء

{من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}. وعلى أية حال فالمصير إلى الله، وسينقلب إليه البشر كلهم، وليس من أوصافه الظلم {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}. بعد هذه المقدمة الطويلة في سورة الحج شرع القرآن الكريم يصف الصراع القائم في الدنيا بين الإيمان والكفر، بين الذين يحملون راية الحق والذين يحملون راية الباطل. وهذا الصراع جزء ضخم من الابتلاء الذي قامت عليه الحياة، وامتاز به المجرمون والصالحون. لن ينشأ ود بين مؤمن بالله ومنكر له، ولن يلتقيا في نهج أو سيرة! فهل يعنى ذلك أن تندلع الحرب بينهما حتما؟ لا، إن المؤمنين مكلفون بدعوة الجاحدين وبيان طريق الحق أمامهم، ولا يجوز أن يتجاوزوا الحكمة والموعظة الحسنة، فإن الله اختبر كلا الفريقين بالآخر، ولا يسوغ أن نسقط في هذا الاختبار!. علينا أن نشرح الحق ونبسط أدلته، ونجعل وجهة نظرنا ساطعة كالشمس، فإن أبوا الدخول فيها اليوم تركناهم لأيام مقبلة، وكنا في معاملتهم منصفين أبدا..!!. تلك كانت سيرة نبينا حتى نصره الله على عدوه. إن هذا العدو لا يملك حجة لباطله، ولَكِنه يستغل القوة المتاحة له في إيذاء خصمه، وقديما قيل للمرسلين: اسكتوا أو نخرسكم! {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلَكِن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم }. تلك هى طبيعة الخصومة القائمة بين أهل الإيمان، وأهل الكفر، والتى عبرت عنها السورة هنا بهذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} والمروى في السنة أنها نزلت في معركة بدر، في أول قتال بين فرسان الحق، وفرسان الضلال، وهو قتال! وقع بعد خمسة عشر عاما من الملاينة والمحاسنة وتحفل المسلمين للأذى والضر. وقد شرحت ذلك الآيات التى جاءت بعدُ مبينة أن الأنبياء على مر العصور مروا بتلك المحنة، وأن البيوت التى بنوها لعبادة الله ما ثبتت إلا بعد جهاد مرير تحمل أعباءه جند الحق {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}. إن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون حرب العدوان التى يشنها البطر، ولا يرتضون أن تسفح قطرة دم ظلما، إنهم يقمعون البغى وحسب. وإنما يكتب الله النصر لهم لأنه نصر للمبادئ التى يمثلونها، وليس دعما لأشخاصهم!. وما هذه المبادئ التى يحملونها؟ {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. إن أتباع المرسلين لا يبحثون عن مال أو جاه وإنما هدفهم الأساسى أن تعرف القافلة البشرية ربها، وتهتف باسمه، وتعنو لمجده. ونلحظ أنه بين الآيات التى تحدثت عن القتال جاءت القضية التى نزلت السورة باسمها: قضية الحج، فذكرت المناسك والشعائر ويظهر أن إيرادها لإفهام المشركين أنهم منحرفون عن دين إبراهيم الذي يزعمون الولاء له، فهم مشركون، وهو يدعو للتوحيد، فأنى لهم علاقة به؟. إنهم خونة لميراثه وإن ادعوا حراسته!! ثم هم يصدون الموحدين عن البيت العتيق، فيضمون إلى غمط الحق ظلم أتباعه {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. فمقاتلة أولئك المعتدين خصومة شريفة لا نلام عليها ولا نحمل تبعاتها. والمتأمل في أفعال الحج يلحظ فيها كلها أنها تظاهرة كبرى اختار القدر زمانها ومكانها لدعم التوحيد وغرسه في القلوب، وجمع الناس في المشارق والمغارب على معانيه. وقد بدأ بذلك إبراهيم من قرون سحيقة {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا } وقد سمعت بعض الناس يقول في المناسك: إن الله اختبرنا بما نعقل فآمنا! فشاء أن يختبرنا بما لا نعقل!!.
وهذا خطأ كبير، فليس في أفعال الحج مايناقض العقل!! هل في مطالبة العباد بتقدير البيت الأول على ظهر الأرض ماينافى العقل؟. قد تقول: فما معنى الطواف به؟ ونجيب بأن الطواف صلاة تجب له الطهارة، ويمتلىء بالتسبيح والتحميد والابتهال! إن هناك فارقا بين مايتواضع الناس على فعله إبرارا لمعنى معين، أو التزاما بمبدأ معين، وبين ماينافى العقل ويحكم برفضه!. فنحن نكتب من اليمين إلى اليسار، والأوربيون يكتبون من اليسار إلى اليمين، والصينيون يكتبون من فوق إلى تحت، فماصلة العقل بهذا الخلاف؟. ونحن وكثير من الناس نلتزم اليمين في السير، والإنجليز يلتزمون اليسار في السير، ولاصلة للعقل بهذا الخلاف. إن مانتواضع عليه ونجعله مقرونا بدلالة خاصة لايحكم العقل فيه بوفاق أو خلاف، وأفعال الحج من هذا القبيل، فنحن نزورأول بيت بنى حصنا للتوحيد. فلماذا تنكر قيمة الأولية هنا؟ ولماذا لاترتبط المساجد في القارات الخمس به؟ {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}. ومن الممكن بالوسائل الحديثة إطعام الملايين المحتاجين إلى اللحوم، من أهل مكة أو من سائر المدن والقرى {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر }. إن المناسك التى شرحتها هذه السورة توكيد إنسانى قوى لمعنى التوحيد، وحشد للجماهير تحت رايته {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}. وفي بناء الأمم صاحبة الرسالة لابد من اختلاط تاريخها بعبادتها، وذكرياتها بسيرتها، وعواطفها بفكرها {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. البلاء المقرون بالحياة البشرية منذ نشأتها بلاء معقد صعب: فإنه ما قام داع للحق والخير إلا انتصب أمامه دعاة للباطل والشر يريدون إبطال سعيه، وتعويق خطوه، وتظل الحرب بينهما أمدا يستفرغ الجهد وقد يأذن القدر في هذه الحرب بهزيمة الحق- لحكمة عليا- فترى مساجد تحولت إلى متاحف أو مخازن أو اصطبلات!!. وفي عصرنا هذا هدم الهنادك مسجد بابرى بالهند! قالوا: إنه موضع ولادة إله لهم اسمه مايا ويبدو أنه إله حديث الولادة!!. وقد قتل مسلمون كثيرون وهم يدافعون عن المسجد ليبقى نداء التوحيد يعلو قبابه ومحاريبه، لقد ذهبوا شهداء، ولا تزال المعركة محتدمة!. والمستقبل غيب ولَكِن على المسلمين أن يثابروا ويصابروا، فإن الكلمة الأخيرة لهم وليسمعوا مواساة الله لنبيه {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير}؟. ثم تمتد المواساة لتكشف أن للزمن حسابا آخر عند الله، فقد يشهد جيل الهزيمة، ثم بعد أعصار يشهد جيل آخر النصر {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}. إن العبء الملقى على الرسول أن يبلغ البلاغ الواضح الذي يقطع المعذرة، حتى لا تبقى لأحد الكافرين حجة {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم}. ثم يبين الله لنبيه ولنا أن المرسلين يبذلون جهدهم لنصرة الحق، حتى ليكاد عباد الأصنام أن تنشرح به صدورهم، ولَكِن سرعان ما تعترضهم الشياطين بوساوسها، فينكسون على رءوسهم ويقولون تعليقا على جهد الرسول معهم: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } لقد كادوا يسلمون!!. لولا أن شياطين الجن والإنس أدركوهم وثنوا زمامهم!! {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} وهذا الزخرف من القول الذي يضل به الغاوون سمى هنا إلقاء الشيطان {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم}. وإلقاء الشيطان قد يكون الشغب على الحقيقة ومحاولة طمسها من المدافعين عن الباطل، وقد رأينا من إعلام المرجفين وكلمات المبطلين ما يهد الجبال، ولَكِن الله يبطل كيدهم ويكشف زورهم، ويجعل الحق يخرج من المعركة سليما منزها.. وقد يكون إلقاء الشيطان في رسالات الله ما ينضم إليها من بدع وأهواء وانحرافات جاءت من الدهماء أو من السلاطين، فشوهت حقيقة الدين وجعلت البعض ينصرف عنه ويسيء الظن به!!. وأيا ما كان الأمر فإن هذا الإلقاء فقاعات توشك أن تتلاشى، ويبقى الحق وضئ الوجه، ويبقى أصحابه بيدهم الأمر والنهى!!. ولا نذكر هنا خرافة الغرانيق، فهى أكذوبة ينخدع بها الأغبياء، كما سنبين- إن شاء الله- عند بلوغ سورة النجم... مما يعين على حسن الدعوة وصدق الجهاد أن نعرف قدر من ندعو إليه ونجاهد في سبيله، فإن الساعى لإعلاء كلمة الله شخص آخر غير الساعى لمآرب الدنيا، ونزوات الحياة!. لذلك حث الله نبيه على المضى في طريق البلاغ {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد} ومضت الآيات تتحدث عن عظمة الله وبدائع قدرته، وعن استحقاقه وحده لأن يعبد في الكون الكبير!!من يعبد من دونه؟ بشر عاجز؟ أو حجر أصم؟ {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير}. ثم يقول الله لنبيه: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم}. عندما نزل الأمر بالحج قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- للناس: «خذوا عنى مناسككم» فشرح لهم شعائرهم وأعمالهم كاشفا أن الحج- كما قلنا- تظاهرة كبرى يهتف فيها لله وحده، ويتحول التوحيد من شعور يخامر الفؤاد إلى جؤار يملأ الأودية، ويدوى في الآفاق. ويذكر اسم الله على الذبائح التى يتقرب بها إليه، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولَكِن يناله التقوى منكم}. ورفض الرسول- صلوات الله عليه- أن يكون لقريش طريق تفيض منها وحدها، كما رفض أن يكون دخول البيوت بعد العودة من ظهورها لا من أبوابها.. إن الحج إعلان رائع عن دولة الإيمان، وإسقاط مخز لدولة الشرك، ولذلك يقول الله هنا:
{لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون}. ويبلغ أمر التوحيد أوجه الأعلى، وأمر الشرك دركه الأسفل في قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}. وتختم سورة الحج ببيان الرسالة التى تضطلع بها الأمة الإسلامية، أو بالكشف عن الوظيفة التى تقوم بها، ورايتها التى ترفعها. إن الرسول! تعلم من الله، وهي تعلمت منه- عليه الصلاة والسلام- وعلى هذه الأمة أن تبلغ العالمين ما استفادت من رسولها الذي بلغها. فهو شاهد عليها، وهي شهيدة على الناس، إن الدول في الحضارة الحديثة تعمل على رفع مستوى المعيشة، أو تقاتل عصبية لجنسها، أو تشغل نفسها بما يعلى شأنها على هذا التراب!!. أما الأمة الإسلامية فلها شآن آخر، إنها تعبد الله وتدعو إلى عبادته، وإذا كانت الطواغيت قد استذلت الناس قرونا فإن أمتنا مكلفة بمجاهدة الطواغيت حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده } ثم يقول: {وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } هل وعى المسلمون هذه الرسالة؟!. اهـ.