فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن أمثلة ذلك قول زهير:
متى يَشْتَجِر قومٌ يقل سرواتهم ** هم بيننا هم رضى وهم عدل

أي عدول مرضيون.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى:
إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول، قبل أن تكون علقة، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
المسألة الثانية:
إذا سقطت النطفة في طورها الثاني، أعني في حال كونها علقة: أي قطعة جامدة من الدم، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ولا تغسل ولا تكفن ولا ترث.
ولَكِن اختلف في أحكام أخر متعددة من احكامها:
منها: ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها، هل تجب فيها غرة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله: إلى أن من ضرب بطن حامل، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين، فتلزمه غرة، أو عشر دية الأم.
وفي المدونة: الجنين ما علم أنه حمل، وإن كان مضغة أو علقة أو مصورًا.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي.
وممن قال به الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور، والمالكية قالوا: الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط.
ومنها: ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق، أو وفاة وكانت حاملًا، فألقت حملها علقة، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا؟
فمذهب مالك رحمه الله: أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة. واحتج المالكية: بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل، فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقال ابن العربي المالكي: لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقًا يعني مصورًا، وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم: إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة، قالوا: لأنها دم جامد ولا يتحقق كونه جنينًا.
ومنها: ما إذا ألقت العلقة المكذورة أمة هي سرية لسيدها، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة، لأن العلقة مبدأ جنين، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة، بعد أن كانت نطفة، فدخلت في قوله تعالى: {خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فيصدق عليها أنها وضعت جنينًا من سيدها، فتكون به أم ولد، وهذا رواية عن أحمد وبه قال إبراهيم النخعي.
وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة. وقد قدمنا توجيههم لذلك.
المسألة الثالثة:
إذا ِأسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث: أعني كونها مضغة: أي قطعة من لحم، فلذلك أربع حالات:
الأولى: أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان، كاليد والرجل، والرأس ونحو ذلك، فهذا تنقضي به العدة، وتلزم فيه الغرة، وتصير به أم ولد، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم.
الحالة الثانية: أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان، ولَكِن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط، وتصوير خفي، والأظهر في هذه الحالة: أن حكمها كحكم التي قبلها لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة، أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية.
الحالة الثالثة: هي أن تكون تلك المضغة المذكورة، ليس فيها تخطيط، ولا تصوير ظاهر، ولا خفي، ولَكِن شهدت ثقات من القوابل أنه مبدأ خلق آدمي.
وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف. فقال بعض أهل العلم: لا تنقضي عدتها بها، ولا تصير أم ولد، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله، وظاهر كلام الحسن والشعبي، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي، فأشبه النطفة والعلقة.
وقال بعض أهل العلم: تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة، وتصير به أم ولد، وتجب فيها الغرة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقال بعض أهل العلم: لا تنقضي بها العدة، وتصير به أم ولد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له، الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات، بأن تلك المضغة مبدأ جنين، وأنها لو بقيت لتخلقت إنسانًا، أنها تنقضي بها العدة، وتصير بها الأمة أم ولد، وتجب بها الغرة على الجاني. والله تعالى أعلم.
الحالة الرابعة: أن تكون تلك المضغة، ليس فيها تصوير ظاهر، ولا خفي، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان، فحكم هذه كحكم العلقة: وقد قدمناه قريبًا مستوفى.
المسألة الرابعة:
إذا أسقطت المرأة جنينها ميتًا بعد أن كملت فيه صورة الآدمي، فلا خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه، وكونها أم ولد، ووجوب الغرة فيه، ولَكِن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه، وغسله وتكفينه. فذهب مالك رحمه الله: إلى أنه لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يحنط، ولا يسمى، ولا يورث، ولا يرث حتى يستهل صارخًا، ولا عبرة بعطاسه، ورضاعه، وبوله فلو عطس، أو رضع، أو بال لم يكن ذلك موجبًا للصلاة عليه في قول مالك، وعليه جمهور أصحابه. قوال المازري: رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه، وغيرها من الأحكام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخًا، فإنه يصلى عليه. وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخًا، فإن لم يستهل صارخًا غسل دمه، ولف بخرقة، وَوُوري، ومذهب الشافعي: أنه إن استهل صارخًا أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه، وَوُرِّث وورث وإن لم يستهل، ولم يتحرك، فإن لم يكن له أربعة أشهر، لم يصل عليه، ولَكِنه يلف بخرقة، ويدفن، وإن كان له أربعة أشهر فقولان: قال في القديم: يصلى عليه، وقال في الأم: لا يصلى عليه، وهو الأصح، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة، وأصحابه وجابر بن زيد التابعي، والحكم وحماد، والأوزاعي ومالك: أنه إذا لم يستهل صارخًا لا يصلى عليه. وعن ابن عمر: أنه يصلى عليه، وإن لم يستهل. وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إذا لم يستهل صارخًا، ولم يتحرك، فإن كان له أربعة أشهر: غسل، وصلي عليه، وإلا فلا، أما إن استهل صارخًا، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط، لأن مناط الأمر بالصلاة عليه، هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة. ومناط عدم الصلاة عليه: هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخًا، أو طالت مدته حيًّا علم بذلك أنه مات بعد حياة، فيغسل ويصلى لعيه، وقالوا: إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة، لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية، وقالوا: إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته. قالوا: قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدودًا في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه، وهو قول ابن القاسم. ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به، لأنه في حكم الميت، وإن كان عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد.
والذين خالفوا هؤلاء قالوا: لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة، وعمر ما دام قادرًا على الحركة القوية الدالة على الحياة، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة.
والذين قالوا: يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة. ينفخ فيه الروح، وانتهاء الأربعين الثالثة: هو انتهاء أربعة أشهر، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
هذا برهان قاطع آخر على البعث: وقوله: {وَتَرَى} أي يا نبي الله. وقيلك وترى أيها الإنسان المخاطب: وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. فقوله: {هَامِدَةً} حال من الأرض، لا مفعول ثان لترى. وقوله: هامدة أي يابسة قاحلة لا نبات فيها.
وقال بعض أهل العلم، هامدة: أي دارسة الآثار من النبات، والزرع. قالوا: وأصل الهمود الدروس والدثور. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
قالت قتيلةُ ما لجسمك شاحِبًا ** وأرى ثيابك باليات هُمدا

أَي وأرى ثيابك باليات دارسات {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} أي سواء كان من المطر، أو الأنهار أو العيون أو السواني: {اهتزت}: أي تحركت بالنبات. ولما كان النبات نباتًا فيها متصلًا بها، كان اهتزازه كأنه اهتزازها فأطلق عليها بهذا الاعتبار، أنها اهتزت بالنبات. وهذا أسلوب عربي معروف.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات، وقوله: {وَرَبَتْ} أي زادت وارتفعت: وقال بعض أهل العلم: وربت: انتفخت، لأجل خروج النبات، وقال ابن جرير الطبري: وربت: أي أضعفت النبات بمجيء الغيث.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أصل المادة التي منها ربت: الزيادة، والظاهر أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض: هي أن النبات لما كان نابتًا متصلًا بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: والاهتزاز: الحركة على سرور، فلا يكاد يقال: اهتز فلان لكيت وكيت، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع.اهـ منه.
والاهتزاز أصله: شدة الحركة: ومنه قوله:
تَثنى إذا قامتْ وتهتزُّ إن مشتْ ** كما اهتزَّ غصْنُ البانِ في وَرَقٍ خُضْر

وقوله: {وَأَنبَتَتْ} أي أنبت الله فهيا {مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي صنف من أصناف النبات، والزرع، والثمار: {بَهِيجٍ} أي حسن، والبهجة: الحسن. ومنه قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النحل: 60] تقول: بهج بالضم بهاجة فهو بهيج، إذا كان حسنًا، وقرأ عامة السبعة: {وربت} وهو من قولهم: ربا يربو إذا نَما وزاد، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع: {وربأت} بهمزة مفتوحة بعد الباء: أي ارتفعت، كأنه من الربيئة أو الربيئي، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم. ومنه قول امرئ القيس:
بَعثنا ربيئًا قبل ذاك مخمَّلا ** كذئبِ الغضَا يمشي الضراء ويتقي

وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن إحياء الأرض بعد موتها، برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم. لأن الجميع أحياء بعد موت، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل، كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] وقوله تعالى: {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] أي من قبوركم أحياء، بعد الموت: وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخروج} [ق: 11] أي خروجكم من القبور أحياء بعد الموت وقوله تعالى: {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] وقوله: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] وقوله تعالى: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النشور} [فاطر: 9] وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] ومن ذلك قوله هنا {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} بدليل قوله بعده: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث } [الحج: 5].
الريب: الشك. فالمعنى: إنْ كنتم شاكِّين في مسألة البعث، فإليكم الدليل على صِدْقه {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الحج: 5] أي: الخَلْق الأول، وهو آدم عليه السلام، أما جمهرة الناس بعد آدم فخُلِقوا من نطفة حية من إنسان حي.
والمتتبع لآيات القران يجد الحق- سبحانه وتعالى- يقول مرة في خَلْق الإنسان: {مِّن تُرَابٍ } [الحج: 5]، ومرة {مِن مَاءٍ } [الطارق: 6]، و{مِّن طِينٍ } [الأنعام: 2]، و{مِّنْ حَمَا مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26]، و{مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [الرحمن: 14] وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى الاعتراض على أسلوب القرآن، يقولون: من أيِّ هذه الأشياء خُلِقْتم؟
وهذا الاعتراض ناشيء من عدم فَهْم لغة القرآن، فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون والصلصال، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد، فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طينًا، فإنْ تركتَ الطين حتى يتخمّر، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا تستطيع أنْ تُميِّز عنصرًا فيه عن الآخر. وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، ومنه خلق اللهُ الإنسان وصوَّره، ونفخ فيه من روحه، إذن: هذه مراحل للشيء الواحد، ومرور الشيء بمراحل مختلفة لا يُغيِّره.
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلام، وهم ذريته، فقال: {مِن نُّطْفَةٍ } [الحج: 5] والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العَذْب، كما جاء في قول الشاعر:
بَقَايَا نِطَافٍ أودَعَ الغيمُ صَفْوَهَا ** مُثقَّلَةُ الأرجَاء زُرْقُ الجَوانبِ

ولا تظهر زُرْقة الماء إلا إذا كان صافيًّا لا يشوبه شيء، وكذلك النطفة هي خلاصة الخلاصة، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق، وعملية الأيض أي: الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم: فالبول، والغائط، والعرق، والدموع، وصَمْغ الأذن، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء، وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلاصة يُستخلص منيُّ الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة، فهو- إذن- خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل، ويتكَّون الجنين، وكأن الخالق-عز وجل- قد صَفَّاها هذه التصفية ونقَّاها كل هذا النقاء؛ لأنها ستكون أصْلًا لأكرم مخلوقاته، وهو الإنسان.