فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت على ما روى عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق؛ وعلى ما روى عن ابن عباس في أبي جهل، وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى، وقال ابن عطية: كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الأخبار لا للتوبيخ انتهى، وهو كما ترى.
وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى، والمراد بالعلم العلم الضروري كما أن المراد بالهدى في قوله تعالى: {وَلا هدًى} الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي.
{ثَانِىَ عِطْفِهِ} حال من ضمير {يجادل} [الحج: 8] كالجار والمجرور السابق أي لاويًّا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله، وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرًا والضحاك بقوله شامخًا بأنفه وابن جريج بقوله معرضًا عن الحق.
وقرأ الحسن {عِطْفِهِ} بفتح العين أي مانعًا لتعطفه وترحمه {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} متعلق بـ يجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال، وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك، والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادل من المؤمنين أو الناس جميعًا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازًا فالمفعول هم الكفرة خاصة.
وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية {لِيُضِلَّ} بفتح الياء أي ليضل في نفسه؛ والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديًّا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة، ويجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله، وقيل: إن ذلك لجعل ضلاله الأول كلاضلال، وأيامًا كان فاللام للعاقبة {لَهُ في الدنيا خِزْىٌ} جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق، وجوز أبو البقاء أن تكون حالًا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذل وهوان، والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو جهل ما أصابه يوم بدر، ومن عمم وهو الأولى حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلًا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لَكِن بالنسبة إلى بعض الأفراد.
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي النار البالغة في الإحراق، والإضافة على ما قيل من إضالفة المسبب إلى السبب، وفسر الحريق أيضًا بطبقة من طباق جهنم، وجوز أن تكون الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدًّا، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه {وأذيقه} بهمزة المتكلم.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}.
{ذلك} أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي، وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي، وجوز أن يكون ذلك خبرًا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولًا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك الخ وهو خلاف الظاهر، والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالًا أي قائلين أو مقولًا له ذلك الخ، وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشهيد التهديد {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضم، وفائدته الدلالة على أن سببية ما اقترفوه من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوا لا أن لا يعذبهم بما اقترفوا، وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد أرادة عذابهم من غير ذنب فجيء بهذا لرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة، ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلى من قبلهم كأنه قيل: إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر.
واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، وقال في العطف: للدلالة على أن سببية الخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، نعم لو كان المدعى كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى.
وتعقب قوله: إن إمكان... الخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعى الخ بأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنماهو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة الجميع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدًّا، وتعقب أيضًا بغير ذلك، والقول بالاعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد عن الاعتراض، والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كما لا كيفا.
واعترض بأن نفي المبالغة كيفما كانت توهم المحال، وقيل: يجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيًّا للمبالغة، واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي، وجعله قيدًا في التقدير لأنه بمعنى ليس بذي لم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له، وقيل: إن ظلامًا للنسبة أي ليس بذلك ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء:
وليست بذي رمح ولست بنبال

وقيل غير ذلك. اهـ.

.قال القاسمي:

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة، وتصريفه في أحوال متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله. المحقق لما سواه من الأشياء، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده؛ وما سواه مما يبعد باطل، لا يقدر على شيء من ذلك: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي: يقدر على إحيائها، إذ أحيى النطفة والأرض الميتة: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة، لا يمتنع عليها شيء: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي: لاقتضاء الحكمة إياها. فهي في وضوح دلائلها التكوينية، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: من الأموات، أحياء إلى موقف الحساب.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هدى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي: يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروريّ ولا باستدلال ونظر صحيح، يهدي إلى المعرفة. ولا بوحي مظهر للحق. أي: بل بمجرد الرأي والهوى، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين- بفتح اللام- كما أن ما قبلها في حال الضُّلّال الجهال المقلدين- بكسر اللام- فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها، فلا تكرار أيضًا.
قال في الكشف: والأول أظهر وأوفق بالمقام. وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازيّ، ثم قال: فإن قيل كيف يصح ما قلتم، والمقلد لا يكون مجادلًا؟ قلنا: قد يجادل تصويبًا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها، وإن كان معتمده الأصليّ هو التقليد.
وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} حال من فاعل يجادل أي: عاطفًا لجانبه إعراضًا واستكبارًا عن الحق، إذا دعي إليه.
قال الزمخشريّ: ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء. كتصعير الخدّ وليّ الجيد. وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: ليصد عن دينه وشَرعه، متعلق بـ يجادل علة له: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: إهانة ومذلة، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: النار المحرقة: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} على الالتفات، أو أرادة القول. أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال. وإسناده إلى يديه، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بل هو العدل في معاقبة الفجار، وإثابة الصالحين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}.
فذلكة لما تقدم، فالجملة تذييل.
والإشارة بـ {ذلك} إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.
وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لأرادة مخاطب غير معيّن على نسق قوله: {وترى الأرض هامدة} [الحج: 5] على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.
والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق... إلخ.
والباء للسببية فالمعنى: تَكوّن ذلك الخلق من تراب وتطَور، وتكوّن إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره.
ويجوز أن تكون الباء للملابسة، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابسًا لحقيّة إلهيّة الله.
وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله، وهذا أرشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجوه الاستدلال.
والحق: الثابت الذي لا مراء فيه، أي هو الموجود.
والقصر إضافي، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها، قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [الحج: 23] وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقضٌ للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة: 37].
وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله: {ذلك بأن الله هو الحق}، فهي لبيان إمكان البعث.
ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة: إما بدلالة المسبب على السبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء، وإما بدلالة التمثيل على الممثَّل والواقععِ على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى، ومجيء الساعة، والبعث.
وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارىء على وجوده الأحْرَى، بطريقة.
والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياةٌ يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقيّة آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى.
وإذا كان كذلك علم أن ساعة فناء هذا العالم واقعة قياسًا على انعدام المخلوقات بعد تكوينها، وعُلم أن الله يعيدها قياسًا على إيجاد النسل وانعدام أصله الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزّل منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.
وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد، لأن لاَ النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة إنّ في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}.
عطف على جملة {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} [الحج: 5] كما عطفت جملة {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} على جملة {يا أيها الناس اتقوا ربكم} [الحج: 1].
والمعنى: إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناسُ بعد ذلك فريقان: فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أئمة الشرك وزعماء الباطل.
وجملة {لا ريب فيها} [الحج: 7] معترضة بين المتعاطفات، أي ليس الشأن أن يُرتاب فيها، فلذلك نفي جنس الريب فيها، أي فالريب.
المعنيُّ بهذه الآية هو المعنيُّ بقوله فيما مضى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3]، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.
ودافِعُهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدمُ علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.
ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه، وانتفاء الهُدى، وانتفاء تلقي شريعة من قبل، والتكبر عن الاعتراف بالحجة، ومحبةُ إضلال الناس عن سبيل الله.
فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة.
ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثلُ: النضْر بن الحارث، وأبي جهل، وأُبيّ بن خلف.
وقيل: المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله: النضر بن الحارث.
كُرر الحديث عنه تبيينًا لحالتي جداله، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل، كما قيل: إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل.
وروي ذلك عن ابن عباس.
وقيل: هو الأخنَس بن شَريق.
وتقدم معنى قوله: {بغير علم} في نظير هذه الآية.
وقيل المراد بـ {من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3] المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر، والمراد بـ {من يجادل في الله بغير علم ولا هدى} المقلّدون بفتح اللام أئمة الكفر.
والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله، أي ولا هدى هو مَهدِي به.
وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلدًا هاديا للحق مثل أتباع الرسل، فهذا دون مرتبَة من يجادل في الله بعلم، ولذلك لم يستغن بذكر السابِق عن ذكر هذا.
والكتاب المُنير: كُتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل، وهذا كما يجادلُ أهلُ الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.
والمنير: المبين للحق.
شبه بالمصباح المضيء في الليل.
ويجيء في وصف {كتاب} بصفة {مُنير} تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رُستم، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة.
والثّنْيُ: لَيُّ الشيء.
يقال: ثنى عنان فرسه، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها.
ويطلق أيضًا الثّني على الإمالة.
والعِطف: المنكب والجانب.
و{ثاني عطفه} تمثيل للتكبر والخيلاء.
ويقال: لوى جيدَه، إذا أعرض تكبرًا.
وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.
واللام في قوله: {ليُضل} لتعليل المجادلة، فهو متعلق بـ: {يجادل} أي غرضه من المجادلة الإضلال.
وسبيل الله: الدّين الحق.
وقوله: {ليُضل} بضم الياء أي ليُضلل الناسَ بجداله.
فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.
وإفراد الضمير في قوله: {عطفه} وما ذكر بعده مراعاةٌ للفظ مَن وإنْ كان معنى تلك الضمائر الجمع.
وخزي الدنيا: الإهانة، وهو ما أصابهم من القتل يوم بَدر ومن القتل والأسر بعد ذلك.
وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعدُ.
وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء.
وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.
وينطبق الخزيُ أيضًا على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبرًا في موضع يقال له: الأثَيْل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة:
صبْرًا يقاد إلى المنية متعَبا ** صبرَ المقيّد وهو عَانٍ مُوثق

وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى: {له في الدنيا خزي} من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القران. وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة.
وجملة {ذلك بما قدمت يداك} مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى: {ونذيقه}.
و{قدّمتْ} بمعنى: أسلفت.
جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء قبل أن يصِل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضرًّا ينتظره قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضرًّا} [الكهف: 49].
والإشارة إلى العذاب والباءُ سببية. وما موصولة. وعطف على ما الموصولة قوله تعالى: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} لأنه في تأويل مصدر، أي وبانتفاءِ ظلم الله العبيد، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه جزاء فساده ولأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.
وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد، والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فيصغت له زنة المبالغة، وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن، وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد. اهـ.