فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كلمة: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } [الحج: 18] تُبيّن أن لنا قهريةً وتسخيرًا وسجودًا كباقي أجناس الكون، ولنا أيضًا نطقة اختيار. فالكافر الذي يتعوَّد التمرُّد على خالقه: يأمره بالإيمان فيكفر، ويأمره بالطاعة فيعصي، فلماذا لا يتمرد على طول الخط؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ أمرضه الله؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به؟
إذن: الإنسان مُؤتمِر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان، ومنطقة الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام: كثير آمن، وكثير حَقَّ عليه العذاب.
لَكِن، لماذا لم يجعل الله- سبحانه وتعالى- الخَلْق جميعًا مُسخَّرين؟
قالوا: لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت لله تعالى صفة القدرة على الكل، إنما لا تُثبت لله المحبوبية، المحبوبية لا تكون إلا مع الاختيار: أن تكون حُرَّا مختارًا في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان، وأنْ تكون حُرًا وقادرًا على المعصية، لَكِنك تطيع.
وضربنا لذلك مثلًا- ولله المثل الأعلى-: هَبْ أن عندك عبدين، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلًا، وتترك الآخر حُرًا، فإن ناديتَ عليهما أجاباك، فأيهما يكون أطْوعَ لك: المقهور المجبر، أم الحر الطليق؟.
إذن: التسخير والقهر يُثبت القدرة، والاختيار يُثبت المحبة.
والخلاف الذي حدث من الناس، فكثير منهم آمن، وكثير منهم حَقَّ عليه العذاب، من أين هذا الاختلاف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار، فمَنْ شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فكأن كفر الكافر واختياره؛ لأن الله سَخَّره للاختيار، فهو حتى في اختياره مُسخَّر.
أما قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } [الحج: 18] يعني: باختياراتهم، وكان المفروض أن يقول في مقابلها: وقليل، لَكِن هؤلاء كثير، وهؤلاء كثير أيضًا.
ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } [الحج: 18] حقَّ: يعني ثبتَ، فهذا أمر لابد منه، حتى لا يستوي المؤمن والكافر: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35] إذن: لابد أنْ يعاقب هؤلاء، والحق يقتضي ذلك.
وقوله سبحانه: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] لأن أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك. قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأن الحق- سبحانه وتعالى- يُيئَّسُ هؤلاء من النجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد.
فمَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لابنُصْرته ولا بالشفاعة له، فالمعنى: {وَمَن يُهِنِ الله } [الحج: 18] أي: بالعذاب الذي حَقَّ عليه وثبت {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [الحج: 18] يعني: يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب، كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزه؛ لأن عِزَّته لا تكون إلا قَهْرًا عن الله، وهذا مُحَال، أو يكون بشافع يشفع له عند الله، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه.
لذلك، نقول: إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه، يعني: لا أحد يقول لله: هذا في جواري؛ لذلك ذيَّلَ الآية بقوله تعالى: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

{يا أيُّها النَّاسُ اتّقُوا رَبَّكُمْ}.
يقول: أطيعوا ربكم؛ ويقال: اخشوا ربكم، يقول: أطيعوا ربكم؛ ويقال: اخشوا ربكم.
{إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء}، يعني: قيام الساعة {شيء عَظِيمٌ}؛ يقول: هولها عظيم.
والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة من قولهم: زلت قدمه، إذا زالت عن الجهة سرعة.
ثم وصف ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}، يعني: تشغل كل مرضعة {عَمَا أرضعت}، يعني: كل ذات ولد رضيع؛ ويقال: تحَير كل والدة عن ولدها.
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}، أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.
وروى منصور، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء عَظِيمٌ} قال: هذا بين يدي الساعة؛ وقال مقاتل: وذلك قبل النفخة الأولى، ينادي ملك من السماء: يا أيها الناس أتى أمر الله.
فيسمع الصوت أهل الأرض جميعًا، فيفزعون فزعًا شديدًا، ويموج بعضهم في بعض، فيشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير، وتضع الحوامل ما في بطونها؛ وتزلزلت الأرض، وطارت القلوب.
وعن سعيد بن جبير أنه قال: إنما هو عند النفخة الأولى التي هي الفزع الأكبر؛ ويقال: هو يوم القيامة.
وقال: حدّثنا الخليل بن أحمد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم قال: حدّثنا الدبيلي قال: حدّثنا أبو عبد الله قال: حدّثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان قال: سمعت الحسن يقول: حدّثنا عمران بن الحسين قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فنزلت عليه هذه {تَصِفُونَ يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء عَظِيمٌ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ ذلكَ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يَوْمَ يقول الله عز وجل لآدمَ.قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ أَهْلِ الجَنَّةِ.قال: فيقول آدَمْ: وما بَعْثُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ يقول: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ.قال: فَأَنْشَأَ القَوْمُ يبكون».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ قَطَّ، إلاَّ كَانَتْ قَبْلَهُ جَاهِلِيَّةٌ، فَيُؤْخَذُ العَدَدُ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ. فإنْ لَمْ يَكُنْ كملَ العددُ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ، أخذَ من المنافقينَ.وما مَثَلُكُمْ في الأمَمِ، إلا كَمَثَلِ الرّقْمَةِ في ذِراعٍ، وَكالشَّامَةِ في جَنْبِ البَعِيرِ».
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكبروا، ثم قال: «إنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ ما كانتا في شَيْءٍ إلا كَثَّرَتَاهُ: يأجوجُ وماجوجُ ومن مات من كفرةِ الجَنَّةِ وَالإنْسِ».
وروى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى لآدَمَ: قُمْ فَابْعَثْ أَهْلَ النَّارِ. فقال: يا رَبِّ وما بَعْثُ أَهْلِ النَّارِ؟ فيقول: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتسعةٌ وتسعون.فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ الحَامِلُ ما فِي بَطْنِها».
ويقال: هذا على وجه المثل، لأن يوم القيامة لا يكون فيه حامل ولا صغير، ولَكِنه بيَّن هول ذلك اليوم، أنه لو كان فيه حاملًا، لوضعت حملها من شدة ذلك اليوم.
ثم قال تعالى: {وَتَرَى الناس سكارى وما هم بسكارى}، يعني: ترى الناس سكارى من الهول، أي كالسكارى وما هم بسكارى من الشراب.
{ولَكِن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}؛ قرأ حمزة والكسائي {وَتَرَى الناس سكارى وما هم بسكارى} بغير ألف؛ وقرأ الباقون كلاهما بالألف.
وروي عن ابن مسعود وحذيفة أنهما قرأ {سكارى} وهو اختيار أبي عبيدة؛ وروي عن أبي زرعة أنه قرأ على الربيع بن خثيم {وَتَرَى} بضم التاء؛ وقراءة العامة بالنصب.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله}، يعني: يخاصم في الله، يعني: في وحدانية الله؛ ويقال: في دين الله.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ}، يعني: بغير حجة؛ ويقال: بغير علم يعلمه، وهو النضر بن الحارث وأصحابه.
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ}، يعني: يطيع ويعمل بأمر كل شيطان متمرد في معصية الله عز وجل؛ ويقال: معناه ويتبع ما سول له الشيطان.
والمريد: الفاسد، يقال: مرد الشيء إذا بلغ في الشر غايته؛ ويقال: مرد الشيء إذا جاوز حد مثله.
ثم قال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْهِ}، يعني: قضي عليه، يعني: الشيطان.
{أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ}، يعني: من يتبع الشيطان؛ {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} عن الهدى، {وَيَهْدِيهِ}؛ يعني: يدعوه {إلى عَذَابِ السعير}، يعني: إلى عمل عذاب النار.
قوله عز وجل: {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس}، يعني: يا كفار مكة.
{إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ}، يعني: في شك {مّنَ البعث} بعد الموت، فانظروا إلى بدء خلقكم.
{فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} يعني: من آدم عليه السلام من تراب.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}، وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق.
{ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ}، وهي اللحمة القليلة قدر ما يمضغ مثل قطعة كبد.
{مُّخَلَّقَةٍ}، أي تامة {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، يعني: غير تامة، وهو السقط؛ ويقال: مصورة وغير مصورة.
{لّنُبَيّنَ لَكُمْ} بدء خلقكم؛ ويقال: يخرج السقط من بطن أمه مصورًا أو غير مصور لنبين لكم بدء خلقكم كيف نخلقكم في بطون أمهاتكم؛ ويقال: لنبين لكم في القرآن أنكم كنتم كذلك.
{وَنُقِرُّ في الارحام مَا نشاء} فلا يكون سقطًا.
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، يعني: إلى وقت خروجه من بطن أمه؛ ويقال: إلى وقت معلوم لتسعة أشهر.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} من بطون أمهاتكم أطفالًا صغارًا؛ وقال القتبي: لم يقل أطفالًا، لأنهم لم يخرجوا من أم واحدة، ولَكِنه أخرجهم من أمهات شتى، فكأنه قال: يخرجكم طفلًا طفلًا.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ}، يعني: ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة، ويقال: إلى ست وثلاثين سنة.
والأشد هو الكمال في القوة والخير.
{وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} مِنْ قَبْل أن يبلغ أشده، {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}، أي أضعف العمر وهو الهرم؛ ويقال: يعني: يرجع إلى أسفل العمر، يعني: يذهب عقله.
{لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}، يعني: لكيلا يعقل بعد عقله الأول.
ثم دلهم على إحياء الموتى بإحيائه الأرض، فقال تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً}، يعني: ميتة يابسة جافة ذات تراب.
{فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء}، يعني: المطر، {اهتزت}؛ يعني: تحركت بالنبات.
كقوله عز وجل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} [النمل: 10] يعني: تتحرك؛ ويقال: اهتزت، يعني: استبشرت.
{وَرَبَتْ}، يعني: انتفخت للنبات. وأصلهُ من ربا يربو، وهو الزيادة.
{وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ}، يعني: من كل صنف من ألوان النبات.
{بَهِيجٍ}، يعني: حسنًا حتى يُبْهَجَ به، فدلهم للبعث بعد إحياء الأرض، ليعتبروا ويعلموا بأن الله هو الحق، وعبادته هي الحق، وغيره من الآلهة باطل.
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى}؛ أي يعلم أنه يحيي الموتى.
{وَأَنَّهُ على كُلّ شيء قَدِيرٌ}، أي قادر على كل شيء من البعث وغيره.
قوله عز وجل: {وَأَنَّ الساعة}، يعني: يَعْلَمُوا أنَّ السّاعَة {ءاتِيَةٌ}، أي كائنة أي جاثية.
{لاَ رَيْبَ فِيهَا}، أي لا شك فيها عند المؤمنين، وعند كل من كان له عقل وذهن.
{وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن في القبور}.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله}، يعني: يخاصم في دين الله عز وجل {بِغَيْرِ عِلْمٍ}، أي بلا بيان وحجة، {وَلا هدًى}؛ يعني: ولا دليل واضح من المعقول، {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} يعني: ولا كتاب منزل مضيء فيه حجة.
{ثَانِىَ عِطْفِهِ}، يعني: لاوي عنقه عن الإيمان، وهو على وجه الَكِنايَةِ، ومعناه يجادل في الله بغير علم متكبرًا؛ ويقال: {ثَانِىَ عِطْفِهِ}، أي معرضًا عنه.
{لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله}؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لِيُضِلَّ} بنصب الياء، يعني: ليعرض عن دين الله عز وجل، والباقون بالضم، يعني: ليصرف الناس عن دين الإسلام.
قال الله تعالى: {لَهُ في الدنيا خِزْىٌ}، يعني: النضر بن الحارث قتل يوم بدر صبرًا، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق}؛ يعني: عذاب النار فأخبر الله تعالى أن ما أصابه في الدنيا من الخزي، لم يكن كفارة لذنوبه.
ثم قال عز وجل: {ذلك}، يعني: ذلك العذاب، يعني: يقال له يوم القيامة: هذا العَذَابُ {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}، يعني: بما عملت يداك. وذكر اليدين كناية، يعني: ذلك العذاب بكفرك وتكذيبك.
{وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ}، يعني: لا يعذب أحدًا بغير ذنب.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}، يعني: على شك، وعلى وجه الرياء، ولا يريد به وجه الله تعالى؛ ويقال: على شك.
والعرب تقول: أنت على حرف، أي على شك؛ ويقال: على حرف بلسانه دون قلبه.
وروي عن الحسن أنه قال: {يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} أي على إيمان ظاهر وكفر باطن؛ ويقال: {على حَرْفٍ}، أي على انتظار الرزق.
وهذه الآية مدنية، نزلت في أناس من بني أسد أصابتهم شدة شديدة فاحتملوا العيال، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغلوا الأسعار بالمدينة.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ}، يعني: إن أصابه سعة وغنية وخصب اطمأن به؛ وقال: نعم الدين دين محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ}، أي بلية وضيق في المعيشة، {انقلب على وَجْهِهِ}؛ أي رجع إلى كفره الأول؛ وقال: بئس الدين دين محمد.
{خَسِرَ الدنيا والآخرة}، أي غبن الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بذهاب ماله، وفي الآخرة بذهاب ثوابه؛ ويقال: خسر الدنيا والآخرة، لأنه لم يدرك ما طلب من المال، وفي الآخرة بذهاب الجنة.
وروي عن حميد أنه كان يقرأ {خَاسِرَ} بالألف، وقراءة العامة {لَفِى خُسْرٍ} بغير ألف.
{ذلك هُوَ الخسران المبين}، يعني: الظاهر البين.
قوله عز وجل: {يَدْعُواْ مِن دُونِ الله}، يعني: يعبد من دون الله {مَا لاَ يَضُرُّهُ}، إن لم يعبده، يعني: الصنم، {وما لاَ يَنفَعُهُ} إن عبده.
{ذلك هُوَ الضلال البعيد}، يعني: الخطأ البين؛ ويقال: في خطأ طويل بعيد عن الحق.
{يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ}، يعني: يعبد لمن إثمه وعقوبته أكثر من ثوابه ومنفعته؛ ويقال: ضره في الآخرة أكثر من نفعه في الدنيا؛ فإن قيل: لم يكن في عبادته نفع البتة، فكيف يقال: من نفعه ولا نفع له؟ قيل له: إنما قال هذا على عاداتهم؛ وهم يقولون لشيء لا منفعة فيه: ضره أكثر من نفعه، كما يقولون لشيء لا يكون هَنَا بَعِيدٌ، كما قالوا {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3].
ثم قال تعالى: {لَبِئْسَ المولى}، يعني: بئس الصاحب، {وَلَبِئْسَ العشير}؛ يعني: بئس الخليط؛ ويقال: معناه من كانت عبادته عقوبة عليه، فبئس المعبود هو.
ثم ذكر ما أعد الله تعالى لأهل الصلاح والإيمان، فقال تعالى: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، يعني: يحكم في خلقه ما يشاء من السعادة والشقاوة.
قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله}، الهاء كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز في اللغة الإضمار في الَكِناية وإن لم تكن مذكورة إذا كان الأمر ظاهرًا، كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، يعني: على ظهر الأرض، وكقوله عز وجل: {فَقال إنى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] يعني: الشمس.
ومعناه من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالغلبة والحجة.