فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله عز وجل: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الآية نزلت في قوم من الإعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرًا وولدت امرأته غلامًا وكثر ماله، قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرًا واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلاّ شرًّا فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائظ الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن.
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل {فإن أصابه خير} أي صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطمأن به} أي رضي به وسكن إليه {وإن أصابته فتنة} أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته {انقلب على وجهه} أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر {خسر الدنيا والآخرة} أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصونًا.
وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار {ذلك هو الخسران المبين} أي الظاهر {يدعو من دون الله ما لا يضره} إن عصاه ولم يعبده {وما لا ينفعه} أي إن أطاعه وعبده {ذلك هو الضلال البعيد} أي عن الحق والرشد {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} فإن قلت قد قال الله تعالى الآية الأولى {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} وقال في هذه الآية: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما.
قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى: ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل: إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولَكِن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل: إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جمادًا لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارًا نافعًا، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله: {لبئس المولى ولبئس العشير} أي الناصر والمصاحب المعاشر.
قوله عز وجل: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إنّ الله يفعل ما يريد} أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله} يعني نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم {في الدنيا} أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه {والآخرة} أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه {فليمدد بسبب} أي بحبل {إلى السماء} أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلًا من سقف بيته فليختنق به حتى يموت {ثم ليقطع} أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقًا {فلينظر هل يذهبن كيده} أي صنيعه وحيلته {ما يغيظ} أي فليختنق غيظًا.
وليس هذا على سبيل الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولَكِنه كما يقال للحاسد مت غيظًا وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سببًا يصل به إلى السماء، ثم ليقطع عن النبي صلى الله على وسلم الوحي الذي يأتيه فينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعًا كان غيظه عديم الفائدة.
وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.
روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق.
ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقًا تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله {وكذلك أنزلناه} يعني القران {آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشيطان وهو ما عدا الإسلام {إن الله يفصل بينهم} أي يحكم بينهم {يوم القيامة} وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعًا فلا يجازيهم جزاء واحدًا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد {إنّ الله على كل شيء شهيد} أي إنه علم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة.
قوله عز وجل: {ألم ترَ} أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك {إنّ الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب} قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدًّا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلاّ وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح: وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه.
فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله: {وكثير من الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصًا من غير فائدة.
قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عامًا في حق الكل إلاّ أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجدًّا بذاته لَكِنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضًا فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية: {ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض} ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول: بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة.
فإن قلت قوله: {من في السماوات ومن في الأرض} لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال: {وكثير من الناس}.
قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعًا دون بعض وهم الذين قال فيهم {وكثير حق عليه العذاب} وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم عن السجود تسجد ظلالهم لله عز وجل {ومن يهن الله فما له من مكرم} أي من يذله الله فلا يكرمه أحد {إنّ الله يفعل ما يشاء} أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
فصل:
هذه السجدة من عزائم سجود القران فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها. اهـ.

.قال النسفي:

{يَا أَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ}.
أمر بني آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شيء عَظِيمٌ} لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع.
والزلزلة شدة التحريك والإزعاج، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئًا فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي الزلزلة أو الساعة بقوله: {تَذْهَلُ} تغفل.
والذهول: الغفلة {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت} عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل.
وقيل {مرضعة} ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الأرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الأرضاع في حال وصفها به {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ} أي حبلى {حِمْلِهَا} ولدها قبل تمامه.
عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام {وَتَرَى الناس} أيها الناظر {سكارى} على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي: نفسي نفسي {وما هم بسكارى} على التحقيق {ولَكِن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه.
وعن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب.
{سكرى} فيهما بالإمالة: حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان.
رُوي أنه نزلت الآيتان ليلًا في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكيًّا من تلك الليلة.
{وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله} في دين الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال.
نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلًا يقول: الملائكة بنات الله، والقران: أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى {وَيَتَّبِعْ} في ذلك {كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ} عاتٍ مستمر في الشر.
ولا وقف على {مريد} لأن ما بعده صفته {كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي على الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} تبعه أي تبع الشيطان {فأَنَّه} فأن الشيطان {يُضِلُّهُ} عن سواء السبيل {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} النار.
قال الزجاج: الفاء في فأنه للعطف وأن مكررة للتأكيد.
ورد عليه أبو على وقال: إن من إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير: فالأمر أنه يضله.
قال: والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار.
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال: {يا أيّها الناس إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ البعث} يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء ترابًا وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء {فَإِنَّا خلقناكم} أي أباكم {مّن تُرَابٍ ثُمَّ} خلقتم {مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة دم جامدة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم.
وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولًا ثم من نطفة ثانيًّا ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظامًا قادر على إعادة ما بدأه {وَنُقِرُّ} بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف.
أي نحن نثبت {في الأرحام مَا نشاء} ثبوته {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من الرحم {طِفْلًا} حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلًا {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ} ثم نربيكم لتبلغوا {أَشُدَّكُمْ} كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} أخسه يعني الهرم والخرف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أي لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علمًا وينسى ما كان عالمًا به.
ثم ذكر دليلًا آخر على البعث فقال: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} ميتة يابسة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت} تحركت بالنبات {وَرَبَتْ} وانتفخت.
{وربأت} حيث كان: يزيد ارتفعت {وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ} صنف {بَهِيجٍ} حسن صار للناظرين إليه.
{ذلك} مبتدأ خبره {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود {وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى} كما أحيا الأرض {وَأَنَّهُ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} قادر {وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن في القبور} أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة والبعث فلابد أن يفي بما وعد {وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله} في صفاته فيصفه بغير ما هو له.
نزلت في أبي جهل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ضروري {وَلا هدًى} أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة {ثَانِىَ عِطْفِهِ} حال أي لاويًّا عنقه عن طاعة الله كبرًا وخيلاء.
وعن الحسن: {ثاني عطفه} بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره {لِيُضِلَّ} تعليل للمجادلة.
{ليضل} مكي وأبو عمرو {عَن سَبِيلِ الله} دينه {لَهُ في الدنيا خِزْىٌ} أي القتل يوم بدر {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي جمع له عذاب الدارين {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} فلا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على {بما} أي وبأن الله.
وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا.
{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطربًا {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطمأن} سكن واستقر {بِهِ} بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته {انقلب على وَجْهِهِ} جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه.
قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرًا سويًّا وولدت امرأته غلامًا سويًّا وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرًا واطمأن، وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرًّا وانقلب عن دينه {خَسِرَ الدنيا والآخرة} حال وقد مقدرة دليله قراءة روح وزيد {خاسر الدنيا والآخرة} والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار {ذلك} أي خسران الدارين {هُوَ الخسران المبين} الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
{يَدْعُواْ مِن دُونِ الله} يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك {مَا لاَ يَضُرُّهُ} إن لم يعبده {وما لاَ يَنفَعُهُ} إن عبده {ذلك هُوَ الضلال البعيد} عن الصواب.
{يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} والإشكال أنه تعالى نفى الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا.
والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادًا لا يملك ضرًّا ولا نفعًا وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة: يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه {لَبِئْسَ المولى} أي الناصر الصاحب {وَلَبِئْسَ العشير} المصاحب وكرر يدعوا كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبودًا أقرب من نفعه بكونه شفيعًا.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله في الدنيا والآخرة} المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السماء} إلى سماء بيته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ثم ليختنق به، وسمي الاختناق قطعًا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
وبكسر اللام بصري وشامي {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي الذي يغيظه أو ما مصدرية أي غيظه، والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه.
وسمي فعله كيدًا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ {وكذلك أنزلناه} ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله {ءايات بينات} واضحات {وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ} أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون، أو يثبت الذي آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّنًا.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ} قيل: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحدًا ولا يجمعهم في موطن واحد.
وخبر {إن الذين آمنوا} {إن الله يفصل بينهم} كما تقول إن زيدًا إن أباه قائم {إِنَّ الله على كُلّ شيء شَهِيدٌ} عالم به حافظ له فلينظر كل امرىء معتقده، وقوله وفعله وهو أبلغ وعيد.
{أَلَم تَرَ} ألم تعلم يا محمد علمًا يقوم مقام العيان {أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} قيل: إن الكل يسجد له ولَكِنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وقيل: سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجودًا له تشبيهًا لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، أو هو مرفوع على الابتداء {ومن الناس} صفة له والخبر محذوف وهو مثاب ويدل عليه قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود {وَمَن يُهِنِ الله} بالشقاوة {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} بالسعادة {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الإكرام والإهانة وغير ذلك، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء. اهـ.