فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

وبعد أن تحدثتْ الآياتُ عن الكافرين، وما حاق بهم من العذاب كان لابد أنْ تتحدَّث عن المقابل، عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك، فيزداد المؤمن تشبُّثًا بالإيمان ونُفْرةً من الكفر، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القران وفي المقابلات وسائل النجاة والرحمة.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)}.
يُبيِّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [الحج: 23] والزينة: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } [الحج: 23] واللباس: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] فجمع لهم نعيم السَّكَن والزينة واللباس.
وفي الآخرة يُنعَّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرِّم عليهم في الدنيا، وهنا قد يعترض النساء، وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب؟
نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا، أمّا في الآخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة لا يُنغِّصها شيء، فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدِّرات، وباقٍ معها لا يأخذه أحد، ولا تحتاج إلى تغييره أو بيعه؛ لأنه يتجدّد في يدها كل يوم، فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه. كما قلنا سابقًا في قوله تعالى عن أهل الجنة: {قالوا هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } [البقرة: 25].
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل، فيُبيِّن لهم ربهم أنها ليستْ كفاكهة الدنيا {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا } [البقرة: 25] يعني: أنواعًا مختلفة للصنف الواحد.
ثم يقول الحق: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول }.
هُدُوا هداهم الله، فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك يهديهم الآن في الجنة ويدلّهم على كيفية شُكر المنعم على هذه النعمة، هذا معنى: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول } [الحج: 24] هذا القول الطيب لخَّصته آيات أخرى، ومنها قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر: 74].
وقوله: {الحمد للَّهِ} {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } [فاطر: 34- 35].
وقوله: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [فاطر: 34]
فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ، ويباشرون النعيم المقيم لا يملكون إلا أنْ يقولوا: الحمد لله، كما يقول الحق سبحانه عنهم: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10].
وقالوا: {الطيب مِنَ القول } [الحج: 24] هو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فهذه الكلمة هي المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة، والمعنى يسَع كل كلام طيب، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السماء} [إبراهيم: 24].
ثم يقول تعالى: {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} [الحج: 24] أي: هداهم الله إلى طريق الجنة، أو إلى الجنة ذاتها، كما قال في آية الكافرين: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } [النساء: 168- 169]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي بالله وبرسوله، أو بما ذكر من الآيات البينات {والذين هَادُواْ} هم اليهود المنتسبون إلى ملة موسى {والصابئين} قوم يعبدون النجوم.
وقيل: هم من جنس النصارى وليس ذلك بصحيح بل هم فرقة معروفة لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء {والنصارى} هم المنتسبون إلى ملة عيسى {والمجوس} هم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن للعالم أصلين: النور والظلمة.
وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات.
وقيل: هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح.
وقيل: إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى {والذين أَشْرَكُواْ} الذين يعبدون الأصنام، وقد مضى تحقيق هذا في البقرة، ولَكِنه سبحانه قدّم هنالك النصارى على الصابئين، وأخّرهم عنهم هنا.
فقيل: وجه تقديم النصارى هنالك: أنهم أهل كتاب دون الصابئين، ووجه تقديم الصابئين هنا: أن زمنهم متقدّم على زمن النصارى، وجملة: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في محل رفع على أنها خبر لإنّ المتقدّمة.
ومعنى الفصل: أنه سبحانه يقضي بينهم فيدخل المؤمنين منهم الجنة والكافرين منهم النار.
وقيل: الفصل هو أن يميز المحقّ من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما، وجملة: {إِنَّ الله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} تعليل لما قبلها، أي أنه سبحانه على كل شيء من أفعال خلقه وأقوالهم شهيد لا يعزب عنه شيء منها، وأنكر الفراء أن تكون جملة {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} خبرًا لإن المتقدّمة.
وقال لا يجوز في الكلام: إن زيدًا إن أخاه منطلق، وردّ الزجاج ما قاله الفراء، وأنكره وأنكر ما جعله مماثلًا للآية، ولا شك في جواز قولك: إن زيدًا إن الخير عنده، وإن زيدًا إنه منطلق، ونحو ذلك.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} الرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، أي ألم تعلم.
والخطاب لكل من يصلح له، وهو من تتأتى منه الرؤية، والمراد بالسجود هنا هو: الانقياد الكامل، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، سواء جعلت كلمة من خاصة بالعقلاء، أو عامة لهم ولغيرهم، ولهذا عطف {الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} على من، فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت من، على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعدًا في العادة، وارتفاع {كَثِيرٍ مّنَ الناس} بفعل مضمر يدل عليه المذكور، أي ويسجد له كثير من الناس.
وقيل: مرتفع على الابتداء وخبره محذوف وتقديره: وكثير من الناس يستحق الثواب، والأوّل أظهر.
وإنما لم يرتفع بالعطف على من، لأن سجود هؤلاء الكثير من الناس هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدّم هو: الانقياد، فلو ارتفع بالعطف على من لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد.
وأنت خبير بأنه لا ملجىء إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه على العطف لا بأس به، وإن أبى ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه، وأما قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فقال الكسائي والفراء: إنه مرتفع بالابتداء وخبره ما بعده.
وقيل: هو معطوف على كثير الأوّل، ويكون المعنى: وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك، وقيل: المعنى وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب هكذا حكاه ابن الأنباري {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} أي من أهانه الله بأن جعله كافرًا شقيًّا، فما له من مكرم يكرمه فيصير سعيدًا عزيزًا.
وحكى الأخفش والكسائي والفراء أن المعنى: ومن يهن الله فما له من مكرم، أي إكرام {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الأشياء التي من جملتها ما تقدّم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة.
{هذان خَصْمَانِ} الخصمان أحدهما أنجس الفرق: اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا، والخصم الآخر: المسلمون، فهما فريقان مختصمان.
قاله الفراء وغيره.
وقيل: المراد بالخصمين الجنة والنار.
قالت الجنة: خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته.
وقيل: المراد بالخصمين: هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعليّ وعبيدة، ومن الكافرين: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
وقد كان أبو ذرّ رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه في الصحيح، وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة، وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول. وقد ثبت في الصحيح أيضًا عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية. وقرأ ابن كثير {هذان} بتشديد النون، وقال سبحانه: {اختصموا} ولم يقل: اختصما.
قال الفراء: لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، ومعنى {فِي رَبّهِمْ} في شأن ربهم، أي في دينه، أو في ذاته، أو في صفاته، أو في شريعته لعباده، أو في جميع ذلك.
ثم فصل سبحانه ما أجمله في قوله: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} فقال: {فالذين كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ} قال الأزهري: أي سوّيت وجعلت لبوسًا لهم، شبهت النار بالثياب؛ لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب، وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهًا على تحقق وقوعه.
وقيل: إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى.
وقيل: المعنى في الآية: أحاطت النار بهم.
وقرئ: {قُطّعَتْ} بالتخفيف، ثم قال سبحانه: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} والحميم هو: الماء الحار المغلي بنار جهنم، والجملة مستأنفة أو هي خبر ثانٍ للموصول {يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ} الصهر: الإذابة، والصهارة: ما ذاب منه، يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى: أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء {والجلود} معطوفة على ما، أي ويصهر به الجلود والجملة في محل نصب على الحال.
وقيل: إن الجلود لا تذاب، بل تحرق، فيقدّر فعل يناسب ذلك، ويقال: وتحرق به الجلود كما في قول الشاعر:
علفتها تبنًا وماءً باردًا

أي وسقيتها ماء، ولا يخفى أنه لا ملجىء لهذا، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى.
{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: المقامع جمع مقمعة ومقمع، قمعته: ضربته بالمقمعة، وهي قطعة من حديد.
والمعنى: لهم مقامع من حديد يضربون بها، أي للكفرة، وسميت المقامع مقامع؛ لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.
قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عني إقماعًا: إذا اطلع عليك فرددته عنك {كُلَّمَا أرادواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي من النار {أُعِيدُواْ فِيهَا} أي في النار بالضرب بالمقامع، و{مِنْ غَمّ} بدل من الضمير في منها بإعادة الجارّ أو مفعول له، أي لأجل غمّ شديد من غموم النار {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} هو بتقدير القول، أي أعيدوا فيها؛ وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، أي العذاب المحرق، وأصل الحريق الاسم من الاحتراق، تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقًا، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراك الألم.
قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين.
وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} فبيّن سبحانه حال المؤمنين بعد بيانه لحال الكافرين.
ثم بيّن الله سبحانه بعض ما أعده لهم من النعيم بعد دخولهم الجنة فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} قرأ الجمهور {يحلون} بالتشديد والبناء للمفعول، وقرئ مخففًا، أي يحليهم الله أو الملائكة بأمره.
و من في قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} للتبعيض، أي يحلون بعض أساور، أو للبيان، أو زائدة، ومن في {مّن ذَهَبٍ} للبيان، والأساور: جمع أسورة والأسورة: جمع سوار.