فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرًا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح كافرًا.
وثالثها: قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد.
ورابعها: دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم.
وخامسها: أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير.
وسادسها: المنع من عمارته.
وسابعها: عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله.
وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله.
وثامنها: وهو قول المحققين: أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي، لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلًا بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذابًا أليمًا.
وقال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات، فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم، فإن كل عذاب يكون أليمًا، إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية.
المسألة الثالثة:
الباء في قوله: {بِإِلْحَادٍ} فيه قولاه: أحدهما: وهو الأولى وهو اختيار صاحب الكشاف أن قوله: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مرادًا ما عادلًا عن القصد ظالمًا نذقه من عذاب أليم، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده.
الثاني: قال أبو عبيدة: مجازه ومن يرد فيه إلحادًا والباء من حروف الزوائد.
المسألة الرابعة:
لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلًا إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أما قوله تعالى: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فهو بيان الوعيد.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
من قال الآية نزلت في ابن خطل قال: المراد بالعذاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله يوم الفتح، ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم، بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به.
المسألة الثانية:
أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بأرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه.
المسألة الثالثة:
ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية: الأول: التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين.
الثاني: أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم.
وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك. اهـ.

.قال الجصاص:

بَابُ بَيْعِ أَرَاضِي مَكَّةَ وَإِجَارَةِ بُيُوتِهَا قال اللَّهُ تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} روَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا».
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كَانُوا يَرَوْنَ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجدًّا سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي.
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: {سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: مَنْ يَجِيءُ مِنْ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ سَواء فِي الْمَنَازِلِ يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاءُوا غَيْرَ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ سَاكِنَهُ قال: وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قوله: {سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: {الْعَاكِفُ فِيهِ}: أَهْلُهُ، {وَالْبَادِ}: مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَأَهْلُهُ فِي الْمَنْزِلِ سَواء، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْبَادِي إجَارَةَ الْمَنْزِلِ.
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبراهيم قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَكَّةُ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا».
وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَرَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قال: «كَانَتْ رِبَاعُ مَكَّةَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ تُسَمَّى السَّوَائِبَ مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى سَكَنَ».
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: قال عُمَرُ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ».
وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَهْلَ مَكَّة أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَ دُورِهِمْ دُونَ الْحَاجِّ».
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: «مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا أَكَلَ نَارًا فِي بَطْنِهِ».
وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ عَطَاءٍ قال: يُكْرَهُ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا.
وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْقَاسِمِ قال: مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمجاهد: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ رِبَاعِ مَكَّةَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا وَصَفْنَا مِنْ كَرَاهَةِ بَيْعِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِيهَا سَواء، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُمْ لِقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لِلْحَرَمِ كُلِّهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ إبَاحَةُ بَيْعِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ قال: كَانَ لِي بَيْتٌ بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أُكْرِيهِ، فَسَأَلْتُ طَاوُسًا فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: {سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قالا: سَواء فِي تَعْظِيمِ الْبَلَدِ وَتَحْرِيمِهِ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخَ قال: اشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْمَرٍ: فَأَخَذَهَا عُمَرُ.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَأَكْرَهُ بَيْعَ أَرَاضِيهَا وَرَوَى سُلَيْمَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قال: أَكْرَهُ إجَارَةَ بُيُوتِ مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ وَفِي الرَّجُلِ يُقِيمُ ثُمَّ يَرْجِعُ، فَأَمَا الْمُقِيمُ وَالْمُجَاوِرُ فَلَا نَرَى بِأَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَأْسًا.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَيْعَ دُورِ مَكَّةَ جَائِزٌ.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَتَأَوَّلْ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى الْحَرَمِ كُلِّهِ إلَّا وَالِاسْمُ شَامِلٌ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ الآية عَلَى مَعْنًى لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا وُقُوعَ اسْمِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَرَمِ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَالْمُرَادُ فِيمَا رُوِيَ: الْحُدَيْبِيَةُ، وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْحَرَمِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ.
وَرَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَضْرِبُهُ فِي الْحِلِّ وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ» وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أراد بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هاهنا الْحَرَمَ كُلَّهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} وَالْمُرَادُ إخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عِبَارَةً عَنْ الْحَرَمِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالظُّلْمِ فِيهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ اقْتَضَى قوله: {سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} تَسَاوِيَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي سُكْنَاهُ وَالْمُقَامِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ وَحُرْمَتِهِ.
قِيلَ لَهُ: هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ وَحُرْمَتِهِ وَمِنْ تَسَاوِيهِمْ فِي سُكْنَاهُ وَالْمُقَامِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ لِغَيْرِ الْمُشْترى سُكْنَاهُ كَمَا لِلْمُشْترى فَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْترى تَسَلُّمُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ حَسَبَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَمْلَاكِ، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَأَمَا إجَارَةُ الْبُيُوتِ فَإِنَّمَا أَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لِلْمُؤَاجِرِ فَيَأْخُذُ أُجْرَةَ مِلْكِهِ، فَأَمَا أُجْرَةُ الأرض فَلَا تَجُوزُ، وَهُوَ مِثْلُ بِنَاءِ الرَّجُلِ فِي أَرْضٍ لِآخَرَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ إجَارَةُ الْبِنَاءِ.
وَقوله: {الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْعَاكِفَ أَهْلُهُ وَالْبَادِيَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَإِنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ مَائِلٌ إلَى شِقِّ الْقَبْرِ قال اللَّهُ تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} وَقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أَيْ لِسَانُ الَّذِي يُومِئُونَ إلَيْهِ.
و الْبَاءُ فِي قوله: {بِإِلْحَادٍ} زَائِدَةٌ، كَقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال ظُلْمُ الْخَادِمِ فَمَا فَوْقَهُ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ.
وَقال عُمَرُ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ.
وَقال غَيْرُهُ: الْإِلْحَادُ بِمَكَّةَ الذُّنُوبُ.
وَقال الْحَسَنُ: أراد بِالْإِلْحَادِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: الْإِلْحَادُ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ وَلَا يُطْلَقُ فِي الْمَيْلِ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ، فَالْإِلْحَادُ اسْمٌ مَذْمُومٌ، وَخَصَّ اللَّهُ تعالى الْحَرَمَ بِالْوَعِيدِ فِي الْمُلْحِدِ فِيهِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُتَأَوِّلُونَ لِلْآيَةِ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْإِلْحَادِ مُرَادٌ بِهِ مَنْ أَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ كُلِّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ الْمَسْجِدُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّ قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} هَذِهِ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْحَرَمِ وَلَيْسَ لِلْحَرَمِ ذِكْرٌ مُتَقَدِّمٌ إلَّا قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ هاهنا الْحَرَمُ كُلُّهُ.
وَقَدْ رَوَى عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ قال: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ زِيَادٍ قال: سَمِعْتُ يَعلي بن أُمَيَّةَ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ «احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ».
وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ، وَلَيْسَ الْجَالِبُ كَالْمُقِيمِ.
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الذُّنُوبِ مُرَادًا بِقوله: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فَيَكُونُ الِاحْتِكَارُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالشِّرْكُ، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ فِي الْحَرَمِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَرِهَ الْجِوَارَ بِمَكَّة ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَمَا كَانَتْ الذُّنُوبُ بِهَا تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا آثَرُوا السَّلَامَةَ فِي تَرْكِ الْجِوَارِ بِهَا مَخَافَةَ مُوَاقَعَةِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «يُلْحِدُ بِمَكَّةَ رِجْلٌ عَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ عَذَابِ أَهْلِ الأرض» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ». اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ، وَمَنَعُوهُ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي مَكَانِهِ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أراد بِهِ الْمَسْجِدَ نَفْسَهُ، دُونَ الْحَرَمِ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ القران؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أراد بِهِ الْحَرَمَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ عَنْهُ، فَنَزَلَ خَارِجًا مِنْهُ فِي الْحِلِّ، وَعَيَّرَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فَصِفَةُ الْحَرَامِ تَقْتَضِي الْحَرَمَ كُلَّهُ،؛ لِأَنَّهُ بِصِفَتِهِ فِي التَّحْرِيمِ، وَآخِذٌ بِجَزَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ التَّكْرِمَةِ وَالتَّعْظِيمِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ أَلَا تَرَى إلَى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}، وَكَانَ الْحَرَمُ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ حَرِيمُهُ، وَحَرِيمُ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله: {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} يُرِيدُ خَلَقْنَاهُ لَهُمْ، وَسَمَّيْنَاه، وَوَضَعْنَاهُ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْجَعْلِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله: {سَواء الْعَاكِفُ}.
يَعْنِي الْمُقِيمَ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ فِي اللُّغَة.
وَالْبَادِي: يُرِيدُ الطَّارِئَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قال ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {سَواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} فَقال لِي مَالِكٌ: السَّعَةُ وَالْأَمْنُ وَالْحَقُّ.
قال مَالِكٌ: وَقَدْ كَانَتْ الْفَسَاطِيطُ تُضْرَبُ فِي الدُّورِ يَنْزِلُهَا النَّاسُ.
وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ} قال ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ، فَقال: سَواء فِي الْحَقِّ وَالسَّعَةِ، وَالْبَادِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَمَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ تُضْرَبُ الْفَسَاطِيطُ فِي الدُّورِ، وَلَقَدْ سَمِعْت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْزِعُ أَبْوَابَ مَكَّةَ إذَا قَدِمَ النَّاسُ.
قال: وَالْحَجُّ كُلُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى.
المسألة الْخَامِسَةُ:
فِي الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ التَّسْوِيَةُ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ، لَيْسَ الْمُقِيمُ فِيهَا أَوْلَى بِهَا مِنْ الطَّارِئِ عَلَيْهَا.
هذا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ومالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ.