فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عامَ الحُدَيْبِيَة، وذلك أنه لم يُعلم لهم صَدّ قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدّهم لأفرادٍ من الناس، فقد وقع ذلك في صدر من المبعث.
والصد: المنع؛ أي وهم يصدّون.
وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي.
وقيل: الواو زائدة {ويصدون} خبر أن.
وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدّر عند قوله: {والْبَادِي} تقديره: خسروا إذ هلكوا.
وجاء {ويصدون} مستقبلًا إذ هو فعل يُديمُونه؛ كما جاء قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28]؛ فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصدّ.
ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز.
قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون وهو الوجه الخبر {نُذِقْه من عذاب أليم}.
قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر أن جزمًا، وأيضًا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر أن لبقي الشرط بلا جواب، ولاسيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلابد له من جواب.
الثانية: قوله تعالى: {والمسجد الحرام} قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القران؛ لأنه لم يذكر غيره.
وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عنه عامَ الحديبية، فنزل خارجًا عنه؛ قال الله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] وقال: {سُبْحَانَ الذي أسْرَى بعبده لَيْلًا من المسجد الحرام} [الإسراء: 1].
وهذا صحيح، لَكِنه قصد هنا بالذكر المهمّ المقصود من ذلك.
الثالثة: قوله تعالى: {الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96].
{سَواء العاكف فِيهِ والباد} العاكف: المقيم الملازم.
والبادِي: أهل البادية ومن يَقْدَم عليهم.
يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النّسك فيه الحاضرُ والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحقّ من النازح إليه.
وقيل: إن المساواة إنما هي في دُوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارىء عليها.
وهذا على أن المسجد الحرام الحَرَم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك، رواه عنه ابن القاسم.
ورُوي عن عمر وابن عباس وجماعة أن القادم له النزول حيث وُجِد، وعلى رب المنزل أن يؤوِيَه شاء أو أبى.
وقال ذلك سفيان الثورِيّ وغيره.
وكذلك كان الأمر في الصدر الأوّل، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابًا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابًا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة؛ فتركه فاتخذ الناس الأبواب.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور.
وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم.
وقال بهذا جمهور من الأمة.
وهذا الخلاف يُبْنَى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس.
وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عَنْوَة فتكون مغنومة، لَكِن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السَّواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سَبْيِهم واسترقاقهم إحسانًا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لا تُباع ولا تُكْرَى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به.
وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعيّ.
أو كان فتحها صلحًا وإليه ذهب الشافعيّ فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا.
وروي عن عمر أنه اشترى دار صَفْوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنًا، وهو أوّل من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدّم بيانه في آية المحاربين من سورة المائدة.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَبس في تُهمة.
وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذابٍ أن يكون في بيت رحمة.
قلت: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عَنوة.
قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد.
وروى الدّارقُطْنِيّ عن علقمة بن نَضْلة قال: توفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تُدْعَى رِباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سَكَن ومن استغنى أسكن.
وزاد في رواية: وعثمان.
وروي أيضًا عن علقمة بن نَضْلة الَكِنانيّ قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سَكَن ومن استغنى أسكن.
وروي أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا» قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعًا ووَهِم فيه، ووهِم أيضًا في قوله عبيد الله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطنيّ أيضًا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكة مُناخ لا تُباع رِباعها ولا تؤاجر بيوتها» وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله، ألا أبني لك بمنًى بيتًا أو بناء يُظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مُناخ من سبق إليه».
وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: {الذِين أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِم} فأضافها إليهم.
وقال عليه السلام يوم الفتح: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
الرابعة: قرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع، وهو على الابتداء، و{العاكف} خبره.
وقيل: الخبر {سواء} وهو مقدّم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي عليّ، والمعنى: الذي جعلناه للناس قِبلة أو متعبَّدًا العاكفُ فيه والبادِي سواء.
وقرأ حفص عن عاصم {سواءً} بالنصب، وهي قراءة الأعمش.
وذلك يحتمل أيضًا وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولًا ثانيًّا لجعل، ويرتفع {العاكف} به لأنه مصدر، فأعمِل عَمَل اسم الفاعل لأنه في معنى مستوٍ.
والوجه الثاني: أن يكون حالًا من الضمير في جعلناه.
وقرأت فرقة {سواء} بالنصب {العاكِف} بالخفض، و{البادي} عطفًا على الناس؛ التقدير: الذي جعلناه للناس العاكِف والبادي.
وقراءة ابن كَثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء.
وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف.
وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.
الخامسة: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} شرط؛ وجوابه {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن الله تعالى بيّن أن الميل بالظلم هو المراد.
واختلف في الظلم؛ فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم} قال: الشرك.
وقال عطاء: الشرك والقتل.
وقيل: معناه صَيْد حمامه، وقطع شجره، ودخوله غير محرِم.
وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلاّ والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحلِ والآخر في الحَرَم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحَرَم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحِلّ، صيانةً للحَرَم عن قولهم كلاّ والله وبلى والله، حين عظّم الله الذنب فيه.
وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحلِ والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحِلّ، وإذا أراد أن يصلّي صلّى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدّث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حُرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحُرُم سواء. وقد تقدّم.
وروى أبو داود عن يَعلي بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحَرم إلحاد فيه» وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة: ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقَب على ما ينوِيه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله.
وقد رُوي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو همّ رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو بعَدَن أبْيَن لعذّبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة ن والقلم مبيَّنًا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
السابعة: الباء في {بِإلحادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20]؛ وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جَعْدة أصحاب الفَلَج ** نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَج

أراد: نرجو الفرج.
وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحُنا

أي رزق.
وقال آخر:
ألم يأتِيك والأنباءُ تَنْمِي ** بما لاقت لَبُون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير.
وقال الفراء: سمعت إعرابيًّا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك.
وقال الشاعر:
بوادٍ يَمانٍ يُنبت الشثَّ صدرُه ** وأسفله بالمَرْخ والشَّبَهان

أي المرخ.
وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم.
وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف.
ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس فيه بإلحاد.
وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعّد الله تعالى على نية السيئة فيه.
ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسَب عليها إلا في مكة.
هذا قول ابن مسعود وجماعةٍ من الصحابة وغيرهم، وقد ذكرناه آنفًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه {ويصدون عن سبيل الله} كقوله: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} وقيل: هو مضارع أريد به الماضي عطفًا على {كفروا} وقيل: هو على إضمار مبتدأ أي وهم {يصدون} وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد {والباد} خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله: {الحرام} نذيقهم {من عذاب أليم} ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة {المسجد الحرام} فموضع التقدير هو بعد {والباد} لَكِن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك.
وقيل: الواو في {ويصدون} زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون.
قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى.
ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه.