فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وأخرج عبد حميد عن ابن عباس قال: الحرم كله هو المسجد الحرام.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {سواء العاكف فيه والباد} قال: خلق الله فيه سواء.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {سواء} يعني شرعًا واحدًا {العاكف فيه} قال: أهل مكة في مكة أيام الحج {والباد} قال: من كان في غير أهلها من يعتكف به من الآفاق، قال: هم في منازل مكة، سواء، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال البادي وأهل مكة سواء في المنزل والحرم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد وعطاء {سواء العاكف فيه والباد} قال: سواء في تعظيم البلد وتحريمه.
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان، عن قتادة في الآية قال: {سواء} في جواره وأمنه وحرمته {العاكف فيه} أهل مكة {والباد} من يعتكفه من أهل الآفاق.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن حصين قال: سألت سعيد بن جبير: أعتكف بمكة؟ قال: لا... أنت معتكف ما أقمت. قال الله {سواء العاكف فيه والباد}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال: الناس بمكة سواء، ليس أحد أحق بالمنازل من أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، عن عبد الله بن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطنه نارًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عطاء، أنه كان يكره أن تباع بيوت مكة أو تكرى.
وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم أنه كان يكره إجارة بيوت مكة.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر، أن عمر نهى أن تغلق أبواب دور مكة، فإن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا، حتى كانوا يضربون فساطيطهم في الدور.
وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا قال له عند المروة: يا أمير المؤمنين، أقطعني مكانًا لي ولعقبي. فأعرض عنه عمر وقال: هو حرم الله {سواء العاكف فيه والباد}.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: بيوت مكة لا تحل إجارتها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جريج قال: أنا قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز على الناس بمكة، فنهاهم عن كراء بيوت مكة ودورها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن القاسم قال: من أكل شيئًا من كراء مكة، فإنما يأكل نارًا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابًا حتى ينزل الحاج في عرصات الدور.
وأخرج ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه قال: لم يكن للدور بمكة أبواب، كان أهل مصر وأهل العراق يأتون فيدخلون دور مكة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سابط في قوله: {سواء العاكف فيه والباد} قال: البادي، الذي يجيء من الحج والمقيمون سواء في المنازل ينزلون حيث شاؤوا ولا يخرج رجل من بيته.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند صحيح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} قال: «سواء المقيم والذي يرحل».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {سواء العاكف فيه والباد} قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، عن عمر أنه قال: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث شاء.
وأخرج الدارقطني عن ابن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل كراء بيوت مكة أكل نارًا».
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه، عن ابن مسعود رفعه في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: لو أن رجلًا هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين، لأذاقه الله تعالى عذابًا أليمًا.
وأخرج سعيد بن منصور والطبراني، عن ابن مسعود في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال: من هم بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن هم بخطيئة في البيت لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجري والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة. فنزلت فيه {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} يعني من لجأ إلى الحرم {بإلحاد} يعني بميل عن الإسلام.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان، عن قتادة في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد }. قال: من لجأ إلى الحرم ليشرك فيه عذبه الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: بشرك.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: هو أن يعبد فيه غير الله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك. فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم.
وأخرج ابن جرير عن حبيب بن أبي ثابت في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: هم المحتكرون الطعام بمكة.
وأخرج البخاري في تاريخه وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن يعلي بن أمية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه».
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في تاريخه وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن ابن عمر قال: بيع الطعام بمكة إلحاد.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «احتكار الطعام بمكة إلحاد».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن منيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن مجاهد قال: كان لعبد الله بن عمرو فسطاطان: أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم، واذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل. فقيل له فقال: كنا نحدَّث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلا والله وبلى والله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآيه قال: شتم الخادم في الحرم ظلم فما فوقه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: تجارة الأمير بمكة إلحاد.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أقبل تبع بريد الكعبة، حتى إذا كان بكراع الغميم بعث الله تعالى عليه ريحًا، لا يكاد القائم يقوم إلا بمشقة. ويذهب القائم يقعد فيصرع، وقامت عليه ولقوا منها عناء، ودعا تبع حبريه فسألهما: ما هذا الذي بعث عليّ؟ قالا: أو تؤمنا؟ قال: أنتم آمنون. قالا: فإنك تريد بيتًا يمنعه الله ممن أراده! قال: فما يذهب هذا عني؟ قالا: تجرد في ثوبين ثم تقول: لبيك اللهم لبيك، ثم تدخل فتطوف به فلا تهيج أحدًا من أهله. قال: فإن أجمعت على هذا، ذهبت هذه الريح عني؟ قالا: نعم. فتجرد ثم لبى فأدبرت الريح كقطع الليل المظلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال: حدثنا شيخ من عقب المهاجرين والأنصار، أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل، عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال: إنما يؤتي استحلاله من قبل أهله. فأخبرني عنهم أنه وجد سطران بمكة مكتوبان في المقام: أما أحدهما، فكان كتابته: بسم الله والبركة، وضعت بيتي بمكة طعام أهله اللحم والسمن والتمر، ومن دخله كان آمنًا لا يحله إلا أهله. قال: لولا أن أهله هم الذين فعلوا به ما قد علمت لعجل لهم في الدنيا العذاب. قال: ثم أخبرني أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبل أن يستحل منه الذي يستحل قال: أجد مكتوبًا في الكتاب الأول: عبد الله يستحل به الحرم، وعنده عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير. فقال: عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، قال كل واحد منهما: لست قارًا به إلا حاجًا أو معتمرًا أو حاجة لابد منها. وسكت عبد الله بن الزبير فلم يقل شيئًا فاستحل من بعد ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال: من هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها. ولو أن رجلًا كان بعدن أبين حدث نفسه بأن يلحد في البيت، والإلحاد فيه: أن يستحل فيه ما حرم الله عليه فمات قبل أن يصل إلى ذلك، أذاقه الله من عذاب أليم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} قال: ان الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه وما عملها.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، عن عطاء بن أبي رباح {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: القتل والشرك.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي مليكة، أنه سئل عن قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء إعلاج من أهل البصرة إلى إعلاج من أهل الكوفة، فزعموا أنها الشرك.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: ما من عبد يهم بذنب فيؤاخذه الله بشيء حتى يعمله، إلا من هم بالبيت العتيق شرًّا فإنه من هم به شرًّا عجل الله له.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي الحجاج في الآية قال: إن الرجل يحدث نفسه أن يعمل ذنبًا بمكة فيكتبه الله عليه ذنبًا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال: رأيت عبد الله بن عمرو بعرفة، ومنزله في الحل ومسجده في الحرم فقلت له: لم تفعل هذا؟؟ قال: لأن العلم فيه أفضل والخطيئة فيه أعظم. والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {وَيَصُدُّونَ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على ما قبلَه. وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ. أحدُها: أنَّ المضارعَ قولًا يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ، أو استقبالٍ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ. ومثلُه {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28]. الثاني: أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي. الثالث: أنه على بابِه، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل.
الوجه الثاني: أنَّه حالٌ من فاعل {كفروا} وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسدٌ ظاهرًا؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القران، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ. واختلفوا في موضعِ تقديرِه: فقدَّره ابن عطية بعد قوله: {والبادِ} أي: إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدَّره الزمخشري بعد قوله: {والمسجد الحرام} أي: إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم. وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يَدُلُّ عليه.
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام: لا يصحُّ، قال: لأنَّ الذي صفة للمسجد الحرام، فموضعُ التقديرِ هو بعد {البادِ} يعني: أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ، وهو خبرُ أن، فيصيرُ التركيبُ هكذا: إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس. وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن {الذي جَعَلْناه} لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر، بل نَجْعَلُه مقطوعًا عنه نَصْبًا أو رفعًا.
ثم قال الشيخ: لَكِن مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ.
الوجه الثالث: أنَّ الواوَ في {ويَصُدُّون} مزيدةٌ في خبر أن تقديرُه: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون. وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه، وقال ابنُ عطية: وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ. قلت: ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى. فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ. اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصًا يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه.
قوله: {الذي جَعَلْنَاهُ} يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ بإضمار فعلٍ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ. وجَعَلَ يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صَيَّر، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ.
والعامَّةُ على رفعِ ِ {سواءٌ} وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية: {سَواء مَّحْيَاهُمْ} [الآية: 21]. ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان، وسيأتي توجيهُه. فأمَا على قراءة الرفع فإن قلنا: إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ، أحدها: وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قوله: {سَواء العاكف فِيهِ} هي المفعولُ الثاني، ثم الأحسنُ في رفع {سواءٌ} أن يكون خبرًا مقدمًا، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به. وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة. وأجاز بعضُهم أن يكون {سواءٌ} مبتدأ، واما بعدَه الخبر. وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداء بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ. وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولًا ثانيًّا فقوله: {للناس} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلق بالجَعْل أي: جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا. والثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول {جَعَلْناه} ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحًا.
الوجه الثاني: أنَّ {للناس} هو المفعولُ الثاني. والجملةُ مِنْ قوله: {سَواء العاكف} في محلِّ نصب على الحال: إمَا من الموصول، وإمَا مِنْ عائِدِه. وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً.
الوجه الثالث: أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ، قال ابن عطية: والمعنى: الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّدًا. فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ. إلاَّ أن الشيخ. قال ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإعراب. فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ. وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قوله: {للناس} متعلقًا بالجَعْلِ على العِلَّيَّة. وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين، أحدهما: أنه حالٌ من مفعولِ {جَعَلْناه}. والثاني: أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل، كيف يكون {للناس} مفعولًا عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ. فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة.
وأمَا على قراءة حفصٍ: فإنْ قلنا: جَعَلَ يتعدى لاثنين كان {سواءً} مفعولًا ثانيًّا. وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالًا من هاءِ {جَعَلْناه} وعلى التقديرين: فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه: جَعَلْناه مستويا فيه العاكفُ. ويَدُلُّ عليه قولهم: مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ. فـ: هو تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه، والعَدَمُ نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ.
ويروى: سواءٍ والعدمُ بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ.
وقرأ الأعمش وجماعةٌ {سَواءً} نصبًا، {العاكف} جرًا. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من {الناس} بدلُ تفصيل. والثاني: أنه عطفٌ بيانٍ. وهذا أراد ابنُ عطية بقوله: عَطْفًا على {الناس} ويمتنع في هذه القراءة رفعُ {سواء} لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء: وسواءً على هذا نصبٌ لا غير.
وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ {والبادي} وصلًا ووقفًا، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلًا وحذفاها وقفًا. وحَذَفَها الباقون وَصْلًا ووَقْفًا وهي محذوفةٌ في الإِمام.
قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ مفعولَ {يُرِدْ} محذوفٌ، وقوله: {بإلحادٍ بظلم} حالان مترادفتان. والتقديرُ: ومَنْ يُرِدْ فيه مرادًا ما، عادِلًا عن القصدِ ظالمًا، نُذِقْه من عذابٍ أليم. وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ. قال معناه الزمخشريُّ. والثاني: أن المفعولَ أيضًا محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّيًّا، و{بإلحادٍ} حال أي: مُلْتَبِسًا بإلحادٍ. و{بظُلْمٍ} بدلٌ بإعادةِ الجارِّ. الثالث: أَنْ يكونَ {بظلمٍ} متعلقًا بـ {يُرِدْ}، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و{بإلحاد} مفعولٌ به. والباءُ مزيدةٌ فيه كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقوله:
............................ ** لا يقرأنَ بالسُّوَر

وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى:
ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا

أي: ضَمِنَتْ رزقَ. ويؤيِّده قراءة الحسن {ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ}. قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف كـ: {مَكْرُ اليل} [سبأ: 33] ومعناه: ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالمًا. الرابع: أن يُضَمَّنَ {يُرِدْ} معنى يتلبَّس، فلذلك تعدى بالباء أي: ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْدًا له.
والعامَّةُ على {يُرِدْ} بضم الياء من الأرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قرئ {يَرِدْ} بفتح الياء. وقال الزمخشري: من الوُرُوْد ومعناه: مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالمًا. اهـ.