فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {وَأَذّن في الناس بالحج} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن محيصن {وآذِّن} بمعنى أعلم.
المسألة الثانية:
في المأمور قولان: أحدهما: وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه: {وَأَذّن في الناس بالحج} قال يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال عليك الأذان وعلى البلاغ.
فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس، وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول؟ قال جبريل عليه السلام: قل لبيك اللهم لبيك فهو أول من لبى، وفي رواية أخرى أنه صعد الصفا فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض، فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك، وفي رواية أخرى إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب، قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء، فمن أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين أو أكثر.
فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، قال القاضي عبد الجبار: يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر، لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج دون الجماد، فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام.
القول الثاني: أن المأمور بقوله: {وَأَذِّن} هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} لا يوجب أن يكون قوله: {وَأَذِّن} يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} أي واذكر يا محمد {إِذْ بَوَّأْنَا} فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: {وَأَذِّن} فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى: {وَأَذِّن} وجوهًا: أحدها: أن الله تعالى أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يعلم الناس بالحج.
وثانيها: قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله: {يَأْتُوكَ} دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به.
وثالثها: أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجٍّ عَميِقٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرئ {رجال} بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} أي ركبانًا والضمور الهزال ضمر يضمر ضمورًا، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.
وإنما قال: {يَأْتِينَ} أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله: {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان، والفج الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعًا، والعميق البعيد قرأ ابن مسعود {معيق} يقال بئر بعيدة العمق والمعق.
المسألة الثانية:
المعنى: وأذن، ليأتوك رجالًا وعلى كل ضامر، أي وأذن، ليأتوك على هاتين الصفتين، أو يكون المراد: وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين.
المسألة الثالثة:
بدأ الله بذكر المشاة تشريفًا لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة».
المسألة الرابعة:
إنما قال: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجًا فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه.
أما قوله: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ معلومات} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ} واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا.
وهي أن يتجرو في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعًا، وهو الأولى.
المسألة الثانية:
إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.
المسألة الثالثة:
كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، قال القفال: وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبًا لمرضاة الله تعالى، واعترافًا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته.
المسألة الرابعة:
أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها.
ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر، وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
أما قوله: {بَهِيمَةُ الأنعام} فقال صاحب الكشاف: البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
أما قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعًا على الفقراء، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع، وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب.
ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعًا، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها.
أما قوله: {وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر.
قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
أما قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها.
والمراد هاهنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، والمراد من القضاء إزالة التفث، وقال القفال قال نفطويه: سألت إعرابيًّا فصيحًا ما معنى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ}؟ فقال ما أفسر القران ولَكِنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك، ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي.
أما قوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} فقرئ بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول، وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك.
أما قوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة، أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل، وسمي البيت العتيق لوجوه: أحدها: العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن.
وثانيها: لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل، فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب: قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وثالثها: لم يملك قط عن ابن عيينة ورابعها: أعتق من الغرق عن مجاهد وخامسها: بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}.
رَوَى مُعْتَمِرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قال إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكَيْفَ أُؤْذِنُهُمْ؟ قال: تَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا قال: فَقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا فَصَارَتْ التَّلْبِيَةُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَا ابْتَنَى إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَيْتَ قال: أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقال إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ رَبَّكُمْ قَدْ اتَّخَذَ بَيْتًا وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَحُجُّوهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ صَخْرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ شَيْءٍ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.
وَهَذِهِ الآية تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى أَمَرَ إبراهيم بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْحَجِّ وَأَمْرُهُ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْحَجِّ بَاقِيًّا إلَى أَنْ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُسِخَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَيْنِ وَحَجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ.
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحُجُّونَ عَلَى تَخَالِيطَ وَأَشْيَاءَ قَدْ أَدْخَلُوهَا فِي الْحَجِّ وَيُلَبُّونَ تَلْبِيَةَ الشِّرْكِ، فَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إبراهيم فِي زَمَنِ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيًّا حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَجَّتَيْنِ بَعْدَمَا بَعَثَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالأولى فِيهِمَا هي الْفَرْضُ، وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ مَنْسُوخًا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ فَرَضَهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} وَقِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهذا أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّا لَا نَظُنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَأْخِيرَ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَامُورِ فِيهِ؛ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَأَسْبَقِهِمْ إلَى أَدَاءِ فُرُوضِهِ، وَوَصَفَ اللَّهُ تعالى الْأَنْبِيَاءَ السَّالِفِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِمُسَابِقَتِهِمْ إلَى الْخَيْرَاتِ بِقوله تعالى: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَتَخَلَّفَ عَنْ مَنْزِلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُسَابَقَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ بَلْ كَانَ حَظُّهُ مِنْهَا أَوْفَى مِنْ حَظِّ كُلِّ أَحَدٍ لِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ، لاسيما وَقَدْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِتَعْجِيلِهِ فِيمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَنْ أراد الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ»، فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَأْمُرَ غَيْرَهُ بِتَعْجِيلِ الْحَجِّ وَيُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤَخِّرْ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ.
فَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ لَزِمَ بِقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ تَارِيخُ نُزُولِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ سَنَةِ عَشْرٍ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ اتَّفَقَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجُّهُ مِنْ إدْخَالِ النَّسِيءِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي وَقْتِ الْحَجِّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تعالى فِيهِ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ لِيَكُونَ حَجُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهِ الْحَجَّ لِيَحْضُرَ النَّاسُ فَيَقْتَدُوا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْحَجِّ بَاقِيًّا مُنْذُ زَمَنِ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ هُوَ الْفَرْضُ وما عَدَاهُ نَفْلٌ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الْحَجَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَنْ أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ.
بَابُ الْحَجِّ مَاشيا رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ إلَّا أَنِّي وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ حَجَجْتُ مَاشيا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مجاهد: أَنَّ إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَجَّا مَاشِيَيْنِ.
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعُرَنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الرُّصَافِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قال: قال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَيْبَتِي إلَّا أَنْ لَمْ أَحُجَّ رَاجِلًا، وَلَقَدْ حَجَّ الْحَسَنُ بن علي خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشيا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَلَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ عز وجل مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنَّهُ لَيُعْطِي النَّعْلَ وَيُمْسِكُ النَّعْلَ وَيُعْطِي الْخُفَّ وَيُمْسِكُ الْخُفَّ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ زِرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: كَانُوا يَحُجُّونَ وَلَا يَرْكَبُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ قال: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ قال: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بن علي يقول: كَانَ الْحَسَنُ بن علي يَمْشِي وَتُقَادُ دَوَابُّهُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْحَجِّ مَاشيا وَرَاكِبًا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، وما رَوَيْنَاهُ عَنْ السَّلَفِ فِي اخْتِيَارِهِمْ الْحَجَّ مَاشيا وَتَأْوِيلُ الآية عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشيا أَفْضَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ أُمَّ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تعالى فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ قُرْبَةٌ قَدْ لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا هديا عِنْدَ تَرْكِهَا الْمَشْيَ.