فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإذ بوّأنا} أي واذكر {إذ بوّأنا} أي جعلنا {لإبراهيم مكان البيت} مباءة أي مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة. قيل: واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله: {لنبوّأنهم من الجنة غرفًا} وقال الشاعر:
كم صاحب لي صالح ** بوّأته بيدي لحدا

وقيل: مفعول {بوّأنا} محذوف تقديره بوّأنا الناس، واللام في {لإبراهيم} لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه.
والظاهر أن قوله: {أن لا تشرك بي شيئًا} خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر.
وقيل: هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وأن} مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير.
قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و{بوّأنا} ليس فيه معنى القول، والأولى عندي أن تكون {أن} الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرًا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له {لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي} من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك: أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له.
قال أبو حاتم: ولابد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن {لا تشرك}.
والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وقرأ الجمهور {وأذّن} بالتشديد أي ناد.
روي أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقاله الحسن قال: أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
وقرأ الحسن وابن محيصن {وآذن} بمدة وتخفيف الذال.
قال ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عنهما {وأذن} على فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفًا على {بوّأنا} انتهى.
وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه.
وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن.
قال صاحب اللوامح: وهو عطف على {وإذ بوّأنا} فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير {يأتوك} جزمًا على جواب الأمر الذي هو {وطهر} انتهى.
وقرأ ابن أبي إسحاق {بالحج} بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها.
وقرأ الجمهور {رجالًا} وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم.
وعن عكرمة أيضًا {رجالى} على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار.
وقرأ الجمهور {يأتين} فالظاهر عود الضمير {على كل ضامر} لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل {رجالًا} و{كل ضامر} على معنى الجماعات والرفاق.
وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلًا للمشاة إلى الحج.
وعن ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشيئًّا، والاستدلال بقوله: {يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر} على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها. وقرأ ابن مسعود {فج معيق} قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة. وقال الباقر: الأجر. وقال مجاهد وعطاء كلاهما، واختاره ابن العربي. قال الزمخشري: ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات.
وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضَّل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسينًا بيِّنًا أن جمع بين قوله: {ليذكروا اسم الله عليه}.
وقوله: {على ما رزقهم} ولو قيل لينحروا {في أيام معلومات} {بهيمة الأنعام} لم تر شيئًا من ذلك الحسن والروعة انتهى.
واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله: {في أيام} وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي.
وقيل: الذكر هنا حمده وتقديسه شكرًا على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: «أنها أيام أكل وشرب» وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة.
وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه: المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند على وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وعند النخعي النحر يومان، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم.
وقال ابن عطية: ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم، ويكون فائدة قوله: {معلومات} ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى.
والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول {بهيمة الأنعام} في أول المائدة، والظاهر وجوب الأكل والإطعام.
وقيل: باستحبابهما.
وقيل: باستحباب الأكل ووجوب الإطعام.
و{البائس} الذي أصابه بؤس أي شدة.
والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك.
وقال ابن عمر: التفث ما عليهم من الحج وعنه المناسك كلها، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم.
وقيل: المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا.
وقرأ شعبة عن عاصم {وليوفوا} مشدّدًا والجمهور مخففًا {وليطوفوا} هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، وبه تمام التحلل.
وقيل: هو طواف الصدر وهو طواف الوداع، وقال الطبري: لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة.
قال ابن عطية: ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى.
و{العتيق} القديم قاله الحسن وابن زيد، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له: رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لَكِن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضًا وابن جبير، أو الجيد من قولهم: عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. قال ابن عطية: وهذا يردّه التصريف انتهى.
ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن {العتيق} فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازًا إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق، وينشأ عن كونه معتقًا أن يقال فيه: يعتق فيه رقاب المذنبين. اهـ.

.قال الثعالبي:

قال ص *: وقوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ}: أَنْ: مفسِّرةٌ لقولٍ مُقَدَّرٍ، أي: قائلين له، أو موحين له: لا تشرك، وفي التقدير الأول نَظَرٌ فانظره، انتهى.
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين والقائمين } الآية: تطهيرُ البيت عامٌّ في الكُفْرِ، والبِدَعِ، وجميعِ الأَنْجَاسِ، والدماءِ، وغير ذلك، {والقائمين}: هم المصلون، وخَصَّ سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظَمَها، وهو القيامُ والركوعُ والسجودُ، ورُوِيَ: «أَنَّ إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لَمَا أُمِرَ بالأذان بالحج قال: يا رب، وإذا أَذَّنْتُ، فَمَنْ يَسْمَعُنِي؟ فقيل له: نادِ يا إبراهيم، فعليك النداءُ وعلينا البلاغ؛ فصعد على أبي قُبَيْس، وقيل: على حجر المَقَام، ونادى: أَيُّها الناس، إنَّ الله تعالى قد أَمرهم بحجِّ هذا البيتِ؛ فَحِجُّوا، فَرُوِيَ أَنَّ يومَ نادى أسمع كُلَّ مَنْ يحج إلى يوم القيامة في أصلابِ الرجال، وأجابه كُل شَيءٍ في ذلك الوقْتِ: من جمادٍ، وغيرهِ: لبَّيكَ اللَّهُمَّ لبيك؛ فجرت التلبيةُ على ذلك» قاله ابن عباس، وابن جبير،، و{رِجَالًا}: جمع رَاجِل، وَال {ضَامِر}: قالت فرقة: أراد بها الناقةَ؛ وذلك أَنه يقال: ناقة ضامرٌ، وقالت فرقة: لفظ {ضامر} يشمل كلَّ مَنِ اتصف بذلك من جمل، أو ناقة، وغيرِ ذلك.
قال ع *: وهذا هو الأظهر، وفي تقديم {رِجَالًا} تفضيلٌ للمُشَاةِ في الحج؛ وإليه نحا ابن عباس.
قال ابن العربي في أحكامه: قوله تعالى: {يَأْتِينَ} رَدَّ الضمير إلى الإبل؛ تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال تعالى: {والعاديات ضَبْحًا} [العاديات: 1].
في خيل الجهاد؛ تكرمةً لها حين سَعَتْ في سبيل اللّه، انتهى.
والفَجُّ: الطريق الواسعة، والعميق: معناه: البعيد؛ قال الشاعر الطويل:
إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَة ** يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ

وال {منافع} في هذه الآية التجارةُ في قول أكثر المتأولين، ابنِ عباس وغيرِه، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أرادذ الأَجْرَ ومنافع الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين.
* ت وأظهرها عندي قول أبي جعفر؛ يظهر ذلك من مقصد الآية، واللّه أعلم.
وقال ابن العربيِّ: الصحيح: القولُ بالعموم، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُوماتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} ذهب قوم إلى: أَنَّ المراد ذكر اسم اللّه على النَّحْرِ والذبح، وقالوا: إنَّ في ذكر الأيام دليلًا على أنَّ الذبح في الليل لا يجوزُ، وهو مذهب مالكٍ وأصحابِ الرأي.
وقالت فرقة فيها مالك وأصحابُه: الأيام المعلوماتُ: يومُ النحر ويومانِ بعده.
وقوله: {فَكُلُواْ} ندبٌ، واستحب أهل العلم أن يأكلَ الإنسان مِنْ هَدْيِهِ وأَضْحِيَّتِهِ، وأنْ يتصدَّقَ بالأكثر، والبائس: الذي قد مَسَّهُ ضُرُّ الفاقة وبؤسها، والمراد أهل الحاجة، والتفث: ما يصنعه المُحْرِمُ عند حِلِّهِ من تقصيرِ شعر وحلقه، وإزالة شعث ونحوه، {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}: وهو ما معهم من هدي وغيره، {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق}: يعني: طوافَ الإفاضة الذي هو من واجبات الحج.
قال الطبري: ولا خلاف بين المتأوِّلِينَ في ذلك. قال مالك: هو واجب، ويرجع تاركه من وطنه إلاَّ أَنْ يطوف طوافَ الوداع؛ فإنَّهُ يجزيه عنه، ويحتمل أَنْ تكونَ الإشارة بالآية إلى طواف الوداع، وقد أَسْنَدَ الطبريُّ عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرًا عن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} فقال: هو طواف الوداع؛ وقاله مالك في الموطإِ، واخْتُلِفَ في وجهِ وصف البيتِ بالعتيق، فقال مجاهد وغيره: عتيق، أي: قديم. وقال ابن الزبير: لأَنَّ اللّه تعالى أعتقه من الجبابرة. وقيل: أعتقه من غرق الطَّوفانِ، وقيل غير هذا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذْ بَوَّأْنَا} يقال بوَّأهُ منزلًا أي أنزلَه فيه. ولمَا لزمه جعل الثَّاني مباءةً للأوَّلِ وقيل: {لإبراهيم مَكَانَ البيت} وعليه مَبْنى قولِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما جعلناهُ أي اذكر وقتَ جعلنا مكانَ البيت مباءةً له عليه السَّلامُ أي مرجعًا يرجع إليه للعمارةِ والعبادةِ. وتوجيه الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقت مع أنَّ المقصود تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ بيانُه غير مرَّةٍ. وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومكانَ ظرفٌ كما في أصل الاستعمالِ أي أنزلناهُ فيه. قيل رُفع البيت إلى السماء أيَّامِ الطُّوفانِ وكان من ياقوتةٍ حمراءَ فأعلم اللَّهُ تعالى إبراهيم عليه السَّلامُ مكانَه بريحٍ أرسلها يقال لها الخجوجُ كنستْ ما حولَه فبناه على أُسِّهِ القديمِ. رُوي أنَّ الكعبةَ الكريمة بُنيت خمس مرَّاتٍ إحداها: بناءُ الملائكةِ وكانت من ياقوتةٍ حمراءَ ثمَّ رُفعت أيَّام الطُّوفانِ، والثَّانيةُ: بناءُ إبراهيم عليه السلام، والثَّالثة: بناءُ قُريشٍ في الجاهليةِ وقد حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا البناءَ، والرَّابعةُ: بناءُ ابن الزُّبيرِ، والخامسةُ: بناءُ الحجَّاجِ. وقد أوردنا ما في هذا الشَّأنِ من الأقاويل في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} وأنَّ في قوله تعالى: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا} مفسِّرةٌ لبوَّأنا من حيث إنّه متضمِّنٌ لمعنى تعبدنا لأنَّ التَّبوئة للعبادة أو مصدريَّةٌ موصولة بالنَّهي، وقد مرَّ تحقيقُه في أوائل سُورة هود. أي فعلنا ذلك لئلاَّ تشركَ بي في العبادة شيئًا {وَطَهّرْ بَيْتِىَ للطائفين والقائمين والركع السجود} أي وطهِّرْ بيتي من الأوثانِ والأقذارِ لمن يطوفُ به ويصلِّي فيه ولعلَّ التَّعبيرَ عن الصَّلاةِ بأركانِها للدِّلالةِ على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مستقلٌّ باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعتْ. وقرئ {يُشرك} بالياء.
{وَأَذّن في الناس} أي نادِ فيهم. وقرئ {آذِن بالحج} بدعوة الحجِّ، والأمر به. رُوي أنَّه عليه السلام صعد أبا قُبيسٍ فقال: يا أيُّها النَّاسُ حجُّوا بيت ربِّكم فأسمعه اللَّهُ تعالى من في أصلاب الرِّجالِ وأرحام النساء فيما بين المشرقِ والمغربِ ممَّن سبق في علمه تعالى أنْ يحجَّ. وقيل الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أُمر بذلك في حجَّةِ الوداع ويأباهُ كونُ السُّورةِ مكِّيةً {يَأْتُوكَ} جوابٌ للأمر {رِجَالًا} أي مُشاةً جمع راجلٍ كقيامٍ جمع قائمٍ. وقرئ بضمِّ الرَّاءِ وتخفيفِ الجيمِ وتشديدِه، ورجالى كعجالى {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} عطفٌ على {رِجالًا} أي رُكبانًا على كلِّ بعيرٍ مهزولٍ أتعبه بعدُ الشُّقِّةِ فهزله أو زادَ هزالُه. {يَأْتِينَ} صفةٌ لضامرٍ محمولة على المعنى. وقرئ يأتُون على أنَّه صفةٌ للرِّجالِ والرُّكبانِ أو استئنافٌ فيكون الضَّميرُ للنَّاسِ {مِن كُلّ فَجّ} طريقٍ واسع {عَميِقٍ} بعيد. وقرئ {مُعيقٍ} يقال بئرٌ بعيدة العُمقِ وبعيدةُ المُعقِ بمعنى، كالجَذْبِ والجَبْذِ.
{لّيَشْهَدُواْ} متعلق بـ {يأتُوك} لا بأذِّنْ أي ليحضرُوا {منافع} عظيمةَ الخطرِ كثيرةَ العددِ أو نوعًا من المنافع الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ المختصَّةِ بهذه العبادة. واللاَّمُ في قوله تعالى: {لَهُمْ} متعلق بمحذوف هو صفة لمنافع أي منافع كائنةً لهم. {وَيَذْكُرُواْ اسم الله} عند إعداد الهَدَايا والضَّحايا وذبحها. وفي جعله غايةً للإتيانِ إيذانٌ بأنَّه الغاية القصوى دون غيرِه. وقيل هو كناية عن الذَّبحِ لأنَّه لا ينفكُّ عنه {في أَيَّامٍ معلومات} هي أيَّامُ النَّحرِ كما ينبىء عنه قوله تعالى: {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} فإنَّ المراد بالذِّكرِ ما وقع عند الذَّبحِ. وقيل هي عشرُ ذي الحجَّةِ قد علِّق الفعلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمة تحريضًا على التَّقرُّبِ وتنبيهًا على الذِّكرِ {فَكُلُواْ مِنْهَا} التفاتٌ إلى الخطاب. والفاءُ فصيحةٌ عاطفة لمدخولِها على مقدَّرٍ قد حُذف للإشعار بأنَّه أمرٌ محقَّقٌ غير مُحتاجٍ إلى التَّصريح به كما في قوله تعالى: {فانفجرت} أي فاذكرُوا اسمَ اللَّهِ على ضحاياكم فكلُوا من لحومِها. والأمرُ للإباحة وإزاحةِ ما كانت عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التَّحرُّجِ فيه أو للنَّدبِ إلى مواساة الفقراء ومساواتِهم {وَأَطْعِمُواْ البائس} أي الذي أصابه بُؤسٌ وشدَّةٌ {الفقير} المُحتاجَ وهذا الأمرُ للوجوب. وقد قيل به في الأوَّلِ أيضًا.
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي ليؤدُّوا إزالة وَسَخِهم أو ليحكموها بقصِّ الشَّاربِ والأظفارِ ونتفِ الإبْطِ والاستحدادِ عند الإحلال {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} ما ينذرون من البِرِّ في حجِّهم وقيل مواجبُ الحجِّ. وقرئ بفتح الواو وتشديدِ الفاءِ {وَلْيَطَّوَّفُواْ} طوافَ الرُّكنِ الذي به يتمُّ التَّحللُ فإنَّه قرينةُ قضاء التَّفثِ، وقيل طواف الوداع. {بالبيت العتيق} أي القديمِ فإنَّه أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ. أو المُعتَقِ من تسلُّطِ الجبابرةِ فكأينْ من جبَّارٍ سار إليه ليهدِمه فقصَمه اللَّهُ عز وجل. وأما الحجَّاجُ الثَّقفي فإنَّما قصد إخراجَ ابنِ الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما منه لا التَّسلُّطَ عليه. اهـ.