فصل: بحث قيم في التقليد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بحث قيم في التقليد:

تعلّق قوم بهذه الآية في ذمّ التقليد لذمّ الله تعالى الكفارَ باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدِّين، وعصْمةٌ من عِصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن دَرْك النظر.
واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي؛ وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.
الرابعة: التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة؛ وعلى هذا فَمَن قَبِل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مُقَلِّدًا؛ وأمّا من نظر فيها فلا يكون مُقَلِّدًا. وقيل: هو اعتقاد صحة فُتْيَا مَن لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قِلادة البعير؛ فإن العرب تقول: قَلَّدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلًا يُقاد به؛ فكأن المقلِّد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء؛ وكذلك قال شاعرهم:
وقلِّدوا أمركم لله دَرّكُم ** ثَبْتَ الجَنان بأمر الحرب مضطّلعَا

الخامسة: التقليد ليس طريقًا للعلم ولا مُوصّلا له، لا في الأصول ولا في الفروع؛ وهو قول جمهور العقلاء والعلماء؛ خلافًا لما يحكى عن جُهّال الحشوية والثّعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام؛ والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.
السادسة: فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم مَن في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضًا فرض أن يقلد عالمًا مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدّد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيًا أو غيره؛ وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين.
السابعة: قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافًا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمرو عثمان بن عيسى بن درباس الشافعي.
قال ابن درباس في كتاب الانتصار له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد؛ وهو خطأ لقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف، 22]. فذمّهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل؛ كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه؛ ولأنه فرض على كل مكلّف تعلُّم أمر التوحيد والقطع به؛ وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسُّنة، كما بيّناه في آية التوحيد، والله يهدي من يريد.
قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزَّيْغ القولَ على مَن تمسّك بالكتاب والسُّنة أنهم مقلِّدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أَلْيَق وبمذاهبهم أَخْلَق؛ إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسُنّة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فكانوا داخلين فيمن ذَمّهم الله بقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب: 67] إلى قوله: {كَبِيرًا} وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون} [الزخرف: 23]. ثم قال لنبيّه: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24] ثم قال لنبيّه عليه السلام {فانتقمنا مِنْهُمْ} الآية. فبيّن تعالى أن الهُدَى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسُّنة وإجماع السلف الصالح من الأمة، من قولهم: إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل؛ لأن هؤلاء نَسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول؛ وأولئك نَسبوا إفْكَهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل؛ ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} [يوسف: 38]. فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياءَ متّبِعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الأعراض وتعلّقها بالجواهر وانقلابها فيها؛ فدلّ على أن لا هُدَى فيها ولا رشد في واضعيها.
قال ابن الحصّار: وإنما ظهر التلفّظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما تُرجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالَم وحدوثه. واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعَرَض وماهيّته؛ فسارع المبتدعون ومَن في قلبه زَيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الإغراب على أهل السُّنة، وإدخال الشُّبه على الضعفاء من أهل المِلّة. فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البِدْعة، وصارت للمبتدِعة شِيعة، والتبس الأمر على السلطان؛ حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك.
فانتدب رجال من أهل السُّنة كالشيخ أبي الحسن الأَشْعَرِي وعبد اللَّه بن كُلاَّب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم؛ فخاضوا مع المبتدِعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم. وكان مَن دَرجَ من المسلمين من هذه الأمة متمسّكين بالكتاب والسُّنة، معرضين عن شُبَه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعَرض؛ على ذلك كان السَّلف.
قلت: ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدِّين فمنزلته قريبة من النبّيين. فأمّا مَن يهجن من غلاة المتكلمين طريق منَ أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدّمين من الأئمة الماضين؛ والله أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بيّن في القرآن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الشعراوي في الآية:
قال رحمه الله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170)}.
وهذه الآية تعالج قضية خطيرة في المجتمع الإسلامي، قضية تقليد الناس لعادات آبائهم. والتقاليد هو نشأة طبيعة في الإنسان، لأن الإنسان حين يخرج للوجود ممدًا بطاقة الحياة؛ فهذه الطاقة تريد أن تتحرك؛ وحركتها تأتي دائما وفق ما ترى من حركة السابق لها، فالطفل الصغير لا يعرف أن يده تتناول أشياء إلا إذا رأى في البيئة المحيطة به إنسانا يفعل ذلك، وحين يريد الطفل أن يتحرك، فهو يقلد حركة الذين حوله، ولذلك تجد الأطفال دائما يقلدون آباءهم في معظم حركاتهم، وحين يوجد الأطفال مع أجيال متعاقبة تمثل أعمارًا مختلفة، فإن الطفل الصغير يقلد في حركته البدائية خليطا من حركات هذه الأجيال، فهو يقلد جده، ويقلد جدته، ويقلد أباه وأمه، وإخوته؛ فتنشأ حركات مختلطة تمثل الأجيال كلها.
ولذلك فاندماج الطفل في أسرة مكونة من آباء وأجداد، تمثل في الإنسان طبيعة الحياة المتصلة بمنهج الحركة في الأرض وبمنهج السماء؛ لأن الطفل حين يعيش مع أبيه فقط، قد يجده مشغولا في حركة الحياة التي ربما شدته عن قيم الحياة أو عن منهج السماء؛ لكنه حين يرى أبا لأبيه؛ هو جده قد فزع من حركة الحياة، واتجه إلى منهج القيم؛ لأنه قريب عهد فيما يظن بلقاء الله، فإن كان لا يصلي في شبابه فهو يصلي الآن، وإن كان لا يفعل الطاعات سابقا؛ أصبح يفعلها الآن، وهكذا يرى الطفل حركة الحياة الجامحة في الدنيا والتلهف عليها من أبيه، ويجد الإقبال على القيم والعبادات نجده، ولذلك تجده ربما عاون جده على الطاعة؛ فساعة يسمع الطفل المؤذن يقول: الله أكبر، فهو يعرف أن جده يريد أن يصلي؛ فيذهب هو ويأتي بالسجادة ويفرشها لجده؛ ويقف مقلدا جده، وإن كانت بنتا، فنحن نجدها تقلد أمها أو جدتها وتضع الغطاء على رأسها لتصلي، إذن، فاندماج الأجيال يعطي الخير من الحركتين، حركة مادية الحياة وحركة قيم منهج السماء، ولذلك يمتن الحق علينا قائلا: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} من الآية 72 سورة النحل.
إذن، فتقليد الأجيال اللاحقة للأجيال السابقة أمر تقتضيه طبيعة الوجود. وحين يدعو الله الناس أن يتبعوا ما ينزله على الرسل فهو ينهاهم أن يتبعوا تقليد الآباء في كل حركاتهم، لأنه قد تكون حركة الآباء قد اختلت بالغفلة عن المنهج أو بنسيان المنهج، لذلك يدعونا ويأمرنا سبحانه: أن ننخلع عن هذه الأشياء ونتبع ما أنزل الله، ولا نهبط إلى مستوى الأرض، لأن عادات ومنهج الأرض قد تتغير، ولكن منهج السماء دائما لا يتغير، فاتبعوا ما أنزل الله. والناس حين يحتجون يقولون: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وتلك قضية تبريرية في الوجود، ولو كان ذلك حقا وصدقا، ومطابقا للواقع، لما كرر الله الرسالات بعد أن علم آدم كل المنهج الذي يريد؛ لأننا لو كنا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. لكان أبناء آدم سيتبعون ما كان يفعله آدم، وأبناء أبناء آدم يتبعون آباءهم، وهكذا يظل منهج السماء موجودًا متوارثًا فلا تغيير فيه. إذن فما الذي اقتضى أن يتغير منهج السماء؟
إن هذا دليل على أن الناس قد غيروا المنهج، ولذلك فقولهم: {نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} هي قضية مكذوبة، لأنهم لو اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم؛ لظل منهج الله في الأرض مضيئا غير متأثر بغفلة الناس ولا متأثرا بانحرافات أهل الأرض عن منهج السماء. وهو تبرير يكشف أن ما وجدوا عليه آباءهم يوافق أهواءهم. وقوله الحق: {اتبعوا} أي اجعلوا ما أنزل عليكم من السماء متبوعا وكونوا تابعين لهذا المنهج؛ لا تابعين لسواه؛ لأن ما سوى منهج السماء هو منهج من صناعة أهل الأرض، وهو منهج غير مأمون، وقولهم: {ما ألفينا عليه آباءنا} أي ما وجدنا عليه آباءنا، وما تفتحت عليه عيوننا فوجدناه حركة تحتذي وتقتدي.
والحق يبين لهم أن هذا كلام خاطئ، وكلام تبريري وأنتم غير صادقين فيه، وعدم الصدق يتضح في أنكم لو كنتم متبعين لمنهج السماء؛ لما تغير المنهج، هذا أولا، أما ثانيا، فأنتم في كثير من الأشياء تختلفون عن آبائكم، فحين تكون للأبناء شخصية وذاتية فإننا نجد الأبناء حريصين على الاختلاف، ونجد أجيالا متفسخة، فالأب يريد شيئا والابن يريد شيئا آخر، لذلك لا يصح أن يقولوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ لأنه لو صح ذلك لما اختلف منهج الله على الأرض لكن المنهج اختلف لدخول أهواء البشر، ومع ذلك نرى بعضا من الخلاف في سلوك الأبناء عن الآباء، ونقبل ذلك ونقول: هذا بحكم تغيير واختلاف الأجيال، أي أن الأبناء أصبحت لهم ذاتية. ولذلك فالقول باتباع الأبناء للآباء كذب لا يمثل الواقع.
والحق سبحانه وتعالى يرد على هذه القضية لأنها قضية تبريرية لا دليل لها من صدق، ولا برهان لها من واقع. ويقول سبحانه: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} أي أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون ولا يهتدون؟. إذن، الرد جاء من ناحيتين، من ناحية التعقل، ومن ناحية الاهتداء، وكل من التعقل والاهتداء منفي عن الآباء في هذه الآية، فأنتم تتبعونهم اتباعا بلا تفكير، اتباعا أعمى. والإنسان لا يطيع طاعة عمياء إلا لمن يتيقن صدق بصيرته النافذة المطلقة، وهذه لا يمكن أن تتأتى من بشر إلى بشر، فالطاعة المطلقة لا تصح أن تكون لشيء إلا لمنهج السماء، وحين تكون طاعة عمياء لمن تثق ببصره الشافي الكافي الحكيم؛ فهي طاعة مبصرة وبصيرة في آن واحد. لأنك تحمي نفسك من خطأ بصرك، وخطأ بصيرتك، وتلتزم في التبعية بمن تعتقد أن بصره وبصيرته لا يخطئان أبدا، عندها لا تكون طاعة عمياء.
إذن. فالحق سبحانه وتعالى ينبههم إلى أنه لا يصح أن تقولوا: إنكم تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم؛ لأنه يجوز أن يكون آباؤكم لا يعقلون، ويجوز أن يكون غير مهتدين. لو كان آباؤكم لهم عقل أو لهم اهتداء، عند ذلك يكون اتباعكم لهم أمرا سليما، لا لأنكم اتبعتم آباءكم، ولكن لأنكم اتبعتم المعقول والهدى. وهكذا نجد أن قضية التقليد هي أمر مزعوم، لأنك لا تقلد مساويك أبدا، ولكنك تتبع من تعتقد أنه أحكم منك، ومادام مساويا لك فلا يصح أن تقلده في كل حركة. بل يجب أن تعرض الحركة على ذهنك، ولذلك فتكليف الله لعباده لم ينشأ إلا بعد اكتمال العقل بالبلوغ. فهو سبحانه لا يأخذ العقل على غرة قبل أن ينضج؛ بل لا يكلف الله عبدا إلا إذا نضج عقله؛ فإن كان الإنسان سليم القوة والعقل فإن تكليفه يكون تاما، فسبحانه لا يكلف إلا صاحب العقل الناضج والذي لديه قدره تمكنه من تنفيذ ما اهتدى إليه عقله، أي غير مكره فالذي يكلف الإنسان بمقتضى هذه الأشياء هو عالم أن العقل إن وجد ناضجا بلا إكراه فلابد أن يهتدي إلى قضية الحق.
إن الحق سبحانه لم يكلف الإنسان إلا بعد أن تكتمل كل ملكات نفسه، لأن آخر ملكة تتكون في الإنسان هي ملكة الغريزة، أي أن يكون صالحا للإنجاب، وصالحا لأن تمتد به الحياة. وقلنا من قبل: إن الثمرة التي نأكلها لا تصبح ثمرة شهية ناضجة إلا بعد أن تؤدي مهمتها الأولى؛ فمهمتها ليست في أن يأكلها الإنسان فقط. إنما أن توجد منها بذرة صالحة لامتداد الحياة، وعندما توجد البذرة يكون أكل الثمرة صالحا، كذلك الإنسان؛ لا يكون صالحا لامتداد الحياة إلا بعد البلوغ أو في سن البلوغ، وسبحانه وتعالى جعل لهذه الغريزة سعارا؛ لأن الحياة التي ستأتي من خلالها لها تبعات أولاد ومشقات، فلو لم يربطها الله بهذه اللذة لانصراف عنها كثير من الناس، لكنه سبحانه يربطها باللذة حتى يوجد امتداد الحياة بدافع عنيف وقوي من الإنسان.
فالحق سبحانه لا يفاجئ الإنسان بتكليف إلا بعد أن يعده إعدادا كاملا، لأنه لو كلفه قبل أن ينضج غريزيا، قبل أن تصبه القدرة على استبقاء النوع، لقال الإنسان: إن الله كلفني قبل أن يوجد في ذلك، عندئذ لا يكون التعاقد الإيماني صحيحا. ولذلك يؤخر الحق تكليفه لعباده حتى يكتمل لهم نضج العقل ونضج الغريزة معا، وحتى يدخل الإنسان في التكليف بكل مقوماته، وبكل غرائزه، وانفعالاته؛ حتى إذا تعاقد إيمانيا؛ فإن عليه أن يلتزم بتعاقده. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الإنسان ذاتيته من فور أن يصبح صالحا لاستبقاء النوع من غيره، ومادامت قد أصبحت له ذاتية متكاملة، فالحق يريد أن ينهي عنه التبعية لغيره، عند ذلك لا يقولن أحد: افعل مثل فعل أبي.
لكن هناك من قالوا: {نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}، لماذا يتبعون آباءهم في المنهج الباطل، ولا يتبعونهم في باقي أمور الدنيا، وفي الملابس، وفي الأكل، وفي كل مناحي الحياة؟.
إذن فلا شيء قد جعلهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم إلا لأنهم وجدوا فيه ما يوافق هواهم، بدليل أنهم اسنلخوا عن تبعيتهم لآبائهم في أشياء رأوها في سلوك الآباء وخالفوهم فيها، وماداموا قد خالفوهم في أشياء كثيرة؛ فلماذا يتبعونهم في الدين الزائف؟. إن الله يريد أن يخلص الإنسان من إسار هذا الاتباع، ويلفت العباد. تعقلوا يا من أصبحت لكم ذاتية، وليعلم كل منكم أنه بنضج العقل يجب أن يصل إلى الهداية إلى الخالق الواحد الأحد، فإن كنت قد التحمت بأبيك في أول الأمر لأنه يعولك ويمدك، فهذا الأب هو مجرد سبب أراده الله لك، ولكن الله هو خالقك، وهو الذي أنزل المنهج الذي يجب أن تلتحم به لتصير حياتك إلى نماء وخير. وهو سبحانه يقول: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} من الآية 33 سورة لقمان.
إن الحق سبحانه وتعالى يفصل لنا هذا الأمر بدقة، فإذا كان الآباء لا يعقلون؛ فماذا عن موقف الأبناء؟. إن على الأبناء أن يصلحوا أنفسهم بمنهج الحق. وقد وردت في سورة المائدة آية أخرى بالمعنى نفسه ولكن بخلاف في اللفظ، فهنا في سورة البقرة يقول الحق: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله}. وفي آية سورة المائدة يقول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104)} من الآية 104 سورة المائدة.
وبين الآيتين اتفاق واختلاف، فقوله الحق هنا: {اتبعوا ما أنزل الله} وهي تعني أن نمعن النظر وأن نطبق منهج الله. وآية سورة المائدة {تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} هذا هو الخلاف الأول. والخلاف الثاني في الآيتين هو في جوابهم على كلام الحق، ففي هذه السورة- سورة البقرة- قالوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} وهذا القول فيه مؤاخذة لهم. لكنهم في سورة المائدة قالوا: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}، وهذه تعني أنهم اكتفوا بما عندهم؛ ونفوا اتباع منهج السماء، وهذا الموقف أقوى وأشد نفيا، لذلك نجد أن الحق لم يخاطبهم في هذه الآية ب {اتبعوا} بل قال لهم: {تعالوا} أي ارتفعوا من حضيض ما عندكم إلى الإيمان بمنهج السماء. ومادمتم قد قلتم: حسبنا بملء الفم؛ فهذا يعني أنكم اكتفيتم بما أنتم عليه. وكلمة {حسبنا} فيها بحث لطيف؛ لأن من يقول هذه الكلمة قد حسب كلامه واكتفى، وكلمة الحساب تدل على الدقة، والحساب يفيد العدد والأرقام. فقولهم: {حسبنا} تعني أنهم حسبوا الأمر واكتفوا به ونجد كل ورود لهذه الكلمة في القرآن يفيد أنها مرة تأتي لحساب الرقم المادي، ومرة تأتي لحساب الإدراك الظني.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} سورة العنكبوت.
ومعناها: هل ظن الناس أن يتركوا دون اختبار لإيمانهم؟. هذا حساب ليس بالرقم، وإنما حساب بالفكر، والحساب بالفكر يمكن أن يخطئ، ولذلك نسميه الظن. والحق سبحانه يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} سورة المؤمنون.
إذن، فكلمة حساب تأتي مرة بمعنى الشيء المحسوب والمعدود، ومرة ثانية في المعنويات، ونعرفها بالفعل، فإذا قلت: حسب يحسب؛ فالمعنى عد. وإذا قلت: حسب يحسب؛ فهي للظن. وفيه ماض وفيه مضارع، إن كنت تريد العد الرقمي الذي لا يختلف فيه أحد تقول: حسب بفتح السين في الماضي وبكسرها في المضارع يحسب.
وإن أردت بها حسبان الظن الذي يحدث فيه خلل تقول: حسب بالكسر، والمضارع يحسب بالفتح.
وعندما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة، فمعنى ذلك أنه شيء محسوب، لكن إذا بولغ في المحسوب يكون حسبانا، وكما نقول: غفر غفرًا وشكر شكرًا، يمكن أن نقول: غفر غفرانًا وشكر شكرانًا. كذلك حسب حسبانًا، والحسبان هو الحساب الدقيق جدا الذي لا يخطئ أبدًا. ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بكلمة حسبان في الأمور الدقيقة التي خلقت بقدر ونظام دقيق؛ إن اختل فيها شيء يحدث خلل في الكون، فيقول: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} سورة الرحمن.
أي أن الكون يسير بنظام دقيق جدا؛ لا يختل أبدا، لأنه لو حدث أدنى خلل في أداء الشمس والقمر لوظيفتيهما؛ فنظام الكون يفسد. لذلك لم يقل الحق: الشمس والقمر بحساب، وإنما قال: بحسبان وبعد ذلك فيه فرق بين الحسبان والمحسوب بالحسبان؛ والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} من الآية 96 سورة الأنعام.
لم يقل: بحسبان، لأنها هي في ذاتها حساب وليست محسوبة، أي أن حسابها آلي. وتأتي الكلمة بصورة أخرى في سورة الكهف في قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ} من الآية 40 سورة الكهف.
المعنى هنا شيء للعقاب على قدر الظلم. تماما هذه هي مادة الحساب.. وقولهم: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} في ظاهرها أبلغ من قولهم: {نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} لكن كل من اللفظيين مناسب للسياق الذي جاء فيه ف {اتبعوا} يناسبها {نتبع ما ألفينا} وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا} يناسبها قولهم: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}؛ يعني كافينا ما عندنا ولا نريد شيئا غيره. ومن هنا نفهم لماذا جاء الحق في آية البقرة بقوله: {اتبعوا}وفي آية المائدة: {تعالوا}، وجاء جوابهم في سورة البقرة: {بل نتبع}، وفي سورة المائدة: {حسبنا}.
وهناك خلاف ثالث في الآيتين: ففي آية البقرة قال: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا}. وفي آية المائدة قال؛ {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون}. الخلاف في {لا يعقلون} و{لا يعلمون}. وما الفرق بين {يعقلون} و{يعلمون}؟. إن {يعقلون} تعني ما ينشأ عن فكرهم وتدبرهم للأمور، لكن هناك أناس لا يعرفون كيف يعقلون، ولذلك يأخذون القضايا مسلمًا بها كعلم من غيرهم الذي عقل.
إذن فالذي يعلم أقل منزلة من الذي يعقل، لأن الذي عقل هو إنسان قد استنبط، وأما الذي علم فقد أخذ علم غيره. وعلى سبيل المثال، فالأمي الذي أخذ حكما من الأحكام هو قد علمه من غيره، لكنه لم يتعقله، إذن فنفي العلم عن شخص أبلغ من نفي التعقل؛ لأن معنى لا يعلم أي أنه ليس لديه شيء من علم غيره أو علمه.
وعندما يقول الحق سبحانه: {لا يعقلون شيئا} فمعنى ذلك أنه من المحتمل أن يعلموا، لكن عندما يقول: {لا يعلمون} فمعناه أنهم لا يعقلون ولا يعلمون، وهذا يناسب ردهم. فعندما قالوا: {بل نتبع} فكان وصفهم ب {لا يعقلون}. وعندما قالوا: {حسبنا} وصفهم بأنهم {لا يعلمون} كالحيوانات تماما. ونخلص مما سبق أن هناك ثلاث ملحوظات على الآيتين:
في الآية الأولى قال: {اتبعوا}، وكان الرد منهم {نتبع ما ألفينا} والرد على الرد {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا}.
وفي الآية الثانية قال: {تعالوا}، وكان الرد منهم {حسبنا}، فكان الرد عليهم {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا}.
وهكذا نرى أن كلا من الآيتين منسجمة، ولا يقولن أحد: إن آية جاءت بأسلوب، والأخرى بأسلوب آخر، فكل آية جاءت على أسلوبها يتطلبها فهي الأبلغ، فكل آية في القرآن منسجمة كلماتها مع جملها ومع سياقها. وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم} مبنية للمفعول ليتضمن كل قول جاء على لسان أي رسول من الله من بدء الرسالات، فهي ليست قضية اليوم فقط إنما هي قضية قيلت من قبل ذلك. إن المعنى هو: إذا قيل لهم من أي رسول، اتبعوا ما أنزل الله قالوا: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. ويختم الحق الآية في سورة البقرة بقوله: {ولا يهتدون}.
وكذلك كان ختام آية المائدة: {ولا يهتدون}؛ لنعلم أن هدى السماء لا يختلف بين عقل وعلم، فالأولى جاءت بعد قوله تعالى: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} والثانية جاءت في ختام قوله تعالى: {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} وذلك للدلالة على أن هدى السماء لا يختلف بين من يعقلون ومن يعلمون. اهـ.