فصل: تفسير الآيات (30- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (30- 33):

قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم أشار إلى تعظيم الحج وأفعاله هذه بقوله: {ذلك} أي الأمر الجليل العظيم الكبير المنافع دنيا وأخرى ذلك.
ولما كان التقدير: فمن فعله سعد، ومن انتهك شيئًا منه شقي، عطف عليه قوله: {ومن يعظم} أي بغاية جهده {حرمات الله} أي ذي الجلال والإكرام كلها من هذا ومن غيره، وهي الأمور التي جعلها له فحث على فعلها أو تركها {فهو} أي التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجهه واجتناب المنهي عنه كالطواف عريانًا والذبح بذكر اسم غير الله {خير} كائن {له عند ربه} الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم فوجب عليه شكره فإن ذلك يدل على تقوى قلبه، لأن تعظيمها من تقوى القلوب، وتعظيمها لجلال الله، وانتهاكها شر عليه عند ربه.
ولما كان التقدير: فقد حرمت عليكم أشياء أن تفعلوها، وأشياء أن تتركوها، عطف عليه قوله بيانًا أن الإحرام لم يؤثر فيها كما أثر في الصيد: {وأحلت لكم الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم كلها {إلا ما يتلى} أي على سبيل التجديد مستمرًّا {عليكم} تحريمه من الميتة والدم وما أهل لغير الله به، خلافًا للكفار في افترائهم على الله بالتعبد بتحريم الوصيلة والبحيرة والسائبة والحامي وإحلال الميتة والدم.
ولما أفهم ذلك حل السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب، وكان سبب ذلك كله الأوثان، سبب عنه قوله: {فاجتنبوا} أي بغاية الجهد اقتداء بالأب الأعظم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة {الرجس} أي القذر الذي من حقه أن يجتنب من غير أمر؛ ثم بينه وميزه بقوله: {من الأوثان} أي القذر الذي من حقه أن يحتنب من غير أمر، فإنه إذا اجتنب السبب اجتنب المسبب.
ولما كان ذلك كله من الزور، أتبعه النهي عن جميع الزور، وزاد في تبشيعه وتغليظه إذ عدله- كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- بالشرك فقال: {واجتنبوا} أي بكل اعتبار {قول الزور} أي جميعه، وهو الانحراف عن الدليل كالشرك المؤدي إلى لزوم عجز الإله وتحريم ما لم ينزل الله به سلطانًا من السائبة وما معها، وتحليل الميتة ونحوها مما قام الدليل السمعي على تحريمه كما أن الحنف الميل مع الدليل، ولذلك أتبعه قوله: {حنفاء لله} الذي له الكمال كله، فلا ميل في شيء من فعله، وإنما كانا كذلك مع اجتماعهما في مطلق الميل، لأن الزور تدور مادته على القوة والوعورة، والحنف- كما مضى في البقرة- على الرقة والسهوله، فكان ذو الزور معرضًا عن الدليل بما فيه من الكثافة والحنيف مقبلًا على الدليل بما له من الاطافة.
ولما أفهم ذلك التوحيد، أكده بقوله: {غير مشركين به} أي شيئًا من إشراك، بل مخلصين له الدين، ودل على عظمة التوحيد وعلوه، وفظاعة الشرك وسفوله، بقوله زاجرًا عنه عاطفًا على ما تقديره: فمن امتثل ذلك أعلاه اعتداله إلى الرفيق الأعلى: {ومن يشرك} أي يوقع شيئًا من الشرك {بالله} أي الذي له العظمة كلها، لشيء من الأشياء في وقت من الأوقات {فكأنما خرّ من السماء} لعلو ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك.
ولما كان الساقط من هذا العلو متقطعًا لا محالة إما بسباع الطير أو بالوقوع على جلد، عبر عن ذلك بقوله: {فتخطفه الطير} أي قطعًا بينها، وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض {أو تهوي به الريح} أي حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه {في مكان} من الأرض {سحيق} أي بعيد في السفول، فيتقطع حال وصوله إلى الأرض بقوة السقطة وشدة الضغطة لبعد المحل الذي خر منه وزل عنه، فالآية من الاحتباك: خطف الطير الملزوم للتقطع أولًا دال على حذف التقطع ثانيًّا، والمكان السحيق الملزوم لبلوغ الأرض ثانيًّا دليل على حذف ضده أولًا؛ ثم عظم ما تقدم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}.
{ذلك} أي الأمر العظيم الكبير ذلك، فمن راعاه فاز، ومن حاد عنه خاب؛ ثم عطف عليه ما هو أعم من هذا المقدر فقال: {ومن} ويجوز أن يكون حالًا، أي أشير إلى الأمر العظيم والحال أنه من {يعظم شعائر الله} أي معالم دين الملك الأعظم التي ندب إليها وأمر بالقيام بها في الحج، جمع شعيرة وهي المنسك والعلامة في الحج، والشعيرة أيضًا: البدنة المهداة إلى البيت الحرام، قال البغوي: وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدي- انتهى.
ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح، فيكون من الإزالة، وتعظيمها استحسانها، فتعظيمها خير له لدلالته على تقوى قلبه {فإنها} أي تعظيمها {من} أي مبتدىء من {تقوى القلوب} التي من شأنها الشعور بما هو أهل لأن يعظم، فمعظمها متق، وقد علم بما ذكرته أنه حذف من هذه جملة الخير ومن قوله: {ومن يعظم حرمات الله} سبب كونه خيرًا له، وهو التقوى، ودل على أرادته هناك بذكره هنا، وحذف هنا كون التعظيم خيرًا، ودل عليه بذكره هناك، فقد ذكر في كل جملة ما دل على ما حذف من الأخرى كما تقدم في {قد كان لكم آية في فئتين} [آل عمران: 13] في آل عمران، وأنه يسمى الاحتباك، وتفسيري للشعائر بما بما ذكرته من الأمر العام جائز الأرادة، ويكون إعادة الضمير على نوع منه نوعًا من الاستخدام، فقوله: {لكم فيها} معناه: البدن أو النعم المهداة أو مطلقًا {منافع} بالدر والنسل والظهر ونحوه فكلما كانت سمينة حسنة كانت منافعها أكثر دينًا ودنيا {إلى أجل مسمى} وهو الموت الذي قدرناه على كل نفس، أو النحر إن كانت مهداة، أو غير ذلك، وهذا تعليل للجملة التي قبله، فإن المنافع حاملة لذوي البصائر على التفكر فيها لاسيما مع تفاوتها، والتفكر فيها موصل إلى التقوى بمعرفة أنها من الله، وأنه قادر على ما يريد. وأنه لا شريك له.
ولما كانت هذه المنافع دنيوية، وكانت منفعة نحرها إذا أهديت دينية، أشار إلى تعظيم الثاني بأداة التراخي فقال: {ثم محلها} أي وقت حلول نحرها بانتهائكم بها {إلى البيت العتيق} أي إلى فنائه وهو الحرم كما قال تعالى: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
قال صاحب الكشاف {ذلك} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا، والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عامًا في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصًا فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام، وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها، وقوله: {عِندَ رَبّهِ} يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات، قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك، ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضًا تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة، واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة وهو قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّي الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وقوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} [المائدة: 3] وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور.
لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئًا لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجسًا لا للنجاسة، لَكِن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات.
ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقارًا واستخفافًا وهذا أقرب، وقوله: {مِنَ الأوثان} بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء، فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس المراد أن بعضها ليس كذلك، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف، كما أن الإفك من أفكه إذا صرفه، والمفسرون ذكروا في قول الزور وجوهًا: أحدها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم وثانيها: شهادة الزور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائمًا واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية وثالثها: الكذب والبهتان ورابعها: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
أما قوله تعالى: {حُنَفَاءَ للَّهِ} فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض، والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به.
ولذلك قال: {غير مشركين به} وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها.
وهو قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} قال صاحب الكشاف إن كان هذا تشبيهًا مركبًا فكأنه قيل من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكًا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة.
وإن كان تشبيهًا مفرقًا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله كالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرئ {الرياح}.
ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال: {ذلك ومن يعظم شعائر الله} واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدي خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين: أحدهما: أن يختارها عظام الأجسام حسانًا جسامًا سمانًا غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدي والأضحية والرقبة.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنًا فنهاه عن ذلك» وقال «بل أهدها» «وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» والوجه الثاني: في تعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لابد وأن يحتفل به ويتسارع فيه {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لابد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه.
ولَكِن لما كان قلبه خاليًّا عنها لا جرم لا يكون مجدًّا في أداء الطاعات، أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص، فإن قال قائل: ما الحكمة في أن الله تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
اعلم أن قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدي الذي فيه منافع إلى وقت النحر، ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده، والأول هو قول جمهور المفسرين، ولا شك أنه أقرب.
وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب ظهورها، فأما قوله: {إلى أجل مسمى} ففيه قولان: أحدهما: أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون {لكم فيها} أي في البدن {منافع} مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها {إلى أجل مسمى} يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي، وهذا القول أولى لأنه تعالى قال: {لَكُمْ فِيهَا منافع} أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هديا وروى أبو هريرة أنه عليه السلام «مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك» وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا» واحتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكًا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات، وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها، ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وبالجملة فقوله: {مَحِلُّهَا} يعني حيث يحل نحرها، وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله، ودليله قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة، ولَكِنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة، قال عليه السلام: «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر» قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}.
يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اجْتِنَابَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ عز وجل وَاسْتِعْظَامًا لِمُوَاقَعَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي إحْرَامِهِ صِيَانَةً لِحَجِّهِ وَإِحْرَامِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِعْظَامِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ.