فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجملةُ اعتراضٌ جيء به تقريرًا لما قبله من الأمرِ بالأكل والإطعام ودفعًا لما عسى يُنوهَّم أنَّ الإحرامَ يحرِّمُه كما يحرم الصَّيدُ. وعدمُ الاكتفاء ببيان عدم كونها من ذلك القبيلِ بحمل الأنعام على ما ذُكر من الضَّحايا والهدايا المعهودة خاصَّةً لئلاَّ يحتاج إلى الاستثناء المذكورِ إذ ليس فيها ما حُرِّمَ لعارضٍ قطعًا لمراعاة حسنِ التَّخلصِ إلى ما بعده من قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} فإنَّه مترتِّبٌ على ما يُفيده قوله تعالى ومَن يعظِّم حرماتِ اللَّهِ من وجوب مراعاتها والاجتنابِ عن هتكِها. ولمَا كان بيانُ حلِّ الأنعام من دَوَاعي التَّعاطِي لا مِن مبادِي الاجتنابِ عُقِّب بما يُوجب الاجتنابَ عنه من المحرَّماتِ ثم أمر بالاجتناب عمَا هو أقصى الحرماتِ، كأنَّه قيل ومَن يعظِّم حرماتِ الله فهو خيرٌ له والأنعامُ ليستْ من الحُرُماتِ فإنَّها محلَّلةٌ لكم إلاَّ ما يتلى عليكم آيةُ تحريمه فإنَّه ممَا يجبُ الاجتنابُ عنه فاجتنبُوا ما هو معظمُ الأمور التي يجب الاجتناب عنها. وقوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} تعميمٌ بعد تخصيصٍ فإنَّ عبادةَ الأوثانِ رأسُ الزُّورِ، كأنَّه لمَا حثَّ على تعظيم الحُرمات أتبعَ ذلك ردًّا لما كانت الكفرةُ عليه من تحريم البحائرِ والسَّوائبِ ونحوهِما والافتراءِ على الله تعالى بأنَّه حَكَم بذلك. وقيل شهادة الزُّورِ لما رُوي أنَّه عليه السلام قال: «عَدلت شهادةُ الزُّورِ الإشراكَ بالله تعالى ثلاثًا» وتلا هذه الآية. والزُّورُ: من الزَّور وهو الانحرافُ كالإفكِ المأخوذِ من الأفْك الذي هو القلبُ والصَّرفُ فإنَّ الكذبَ منحرفٌ مصروفٌ عن الواقعِ. وقيل هو قولُ أهلِ الجاهلية في تلبيتهم لبَّيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكٌ هو لك تملكُه وما ملكَ.
{حُنَفَاء للَّهِ} مائلين عن كلِّ دين زائغٍ إلى الدِّين الحقِّ مُخلصين لله تعالى. {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي شيئًا من الأشياءِ فيدخل في ذلك الأوثانُ دخولًا أوليًّا، وهما حالانِ من واو فاجتنبُوا {وَمَن يُشْرِكْ بالله} جملةٌ مبتدأةٌ مؤكِّدةٌ لما قبلها من الاجتناب عن الإشراك. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لإظهار كمالِ قُبح الإشراكِ {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} لأنَّه مُسْقَط من أوجِ الإيمان إلى حضيض الكفرِ {فَتَخْطَفُهُ الطير} فإنَّ الأهواء المُرديةَ توزِّعُ أفكارَه. وقرئ {فتخَطَّفه} بفتح الخاء وتشديد الطَّاءِ. وبكسرِ الخاء والطَّاء، وبكسر التَّاءِ مع كسرهما، وأصلُهما تَخْتطفُه {أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح} أي تُسقطه وتقذفُه {في مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيدٍ، فإنَّ الشَّيطانَ قد طوَّحَ به في الضَّلالةِ. وأو للتَّخييرِ كما في {أَوْ كَصَيّبٍ} أو للتَّنويعِ. ويجوزُ أنْ يكونَ من باب التَّشبيهِ المُركَّبِ فيكون المعنى: ومَن يُشرك بالله فقد هلكتْ نفسُه هلاكًا شَبيهًا بهلاكِ أحدِ الهالكينَ هنا.
{ذلك} أي الأمرُ ذلكَ أو امتثلُوا ذلك {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} أي الهَدَايا فإنَّها من معالم الحجِّ وشعائرِه تعالى كما يُنبىء عنه. {والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} وهو الأوفقُ لما بعده. وتعظيمُها اعتقادُ أنَّ التَّقربَ بها من أجلِّ القُرباتِ وأنْ يختارَها حِسانًا سِمانًا غاليةَ الأثمانِ. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أهدى مائةَ بَدَنةٍ، فيها جملٌ لأبي جهلٍ في أنفه بُرَةٌ من ذهبٍ، وأنَّ عمرَ رضي الله عنه أهدى نَجيبةً طُلبتْ منه بثلاثمائةِ دينارٍ {فَإِنَّهَا} أي فإنَّ تعظيمَها {مِن تَقْوَى القلوب} أي من أفعال ذَوي تقوى القلوبِ فحُذفتْ هذه المضافاتُ والعائدُ إلى مَن. أو فإنَّ تعظيمَها ناشيء من تقوى القلوب. وتخصيصُها بالإضافة لأنَّها مراكزُ التَّقوى التي إذا ثبتتْ فيها وتمكَّنتْ ظهر أثرُها في سائر الأعضاءِ.
{لَكُمْ فِيهَا} أي في الهَدَايا {منافع} هي درُّها ونسلُها وصوفُها وظهرُها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت نحرِها والتَّصدُّقُ بلحمها والأكلُ منه {ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي وجوبُ نحرِها أو وقت نحرِها منتهيةً {إلى البيت العتيق} أي إلى ما يليهِ من الحرمِ. وثمَّ للتَّراخي الزَّمانيِّ أو الرُّتَبِّي أي لكم فيها منافعُ دنيويَّةٌ إلى وقتِ نحرِها ثمَّ منافعُ دينيَّةٌ أعظمها في النَّفعِ محلُّها أي وجوبُ نحرِها أو وقت وجوبِ نحرِها إلى البيتِ العتيقِ أي منتهيةً إليه. هذا وقد قيل المرادُ بالشَّعائرِ مناسكُ الحجِّ ومعالمُه. والمعنى لكُم فيها منافعُ بالأجر والثَّوابِ في قضاءِ المناسكِ وإقامةِ شعائرِ الحجَّ إلى أجلٍ مُسمَّى هو انقضاءُ أيَّامِ الحجِّ ثمَّ محلُّها أي محلُّ النَّاسِ من إحرامهم إلى البيتِ العتيقِ أي منتهٍ إليه بأن يطوفُوا به طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحرِ بعد قضاء المناسكِ، فإضافة المحلِّ إليها لأدنى ملابسةٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
{ذلك} أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى: {هذا وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَئَابٍ} [ص: 55] وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ** وسط الندى إذا ما ناطق نطقًا

واختيار {ذلك} هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل: هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك {وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله} جمع حرمة وهو ما يحترم شرعًا، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع: هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل {فَهُوَ} أي فالتعظيم {خَيْرٌ لَّهُ} من غيره على أن {خَيْرٌ} اسم تفضيل.
وقال أبو حيان: الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيرًا له {عِندَ رَبّهِ} أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير {مِنْ} لتشريفه والإشعار بعلة الحكم.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن {مَا} عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى.
وجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا بناء على أن {مَا} عبارة عما حرم في قوله سبحانه: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه الاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضارًا للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل: التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد {فاجتنبوا الرجس} أي القذر {مِنَ الاوثان} أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية.
وفي تعريف {الرجس} بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من البالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل: من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عامًا ثم عين سبحانه لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي البحر يمكن أن تكون للتبعيض بن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روى ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجل وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية: إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغنى عنه، وهاهنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريبًا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى: {وَمَن يُعَظّمْ} الخ من وجوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها.
وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل: الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ الأنعام} فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر.
والإشراك به بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن {مِنْ} سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى} ويؤيده قوله تعالى: فيما بعد {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكرارًا انتهى.
وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه.
وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جدًّا وإنكار ذلك مكابرة فتأمل.
وقوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} تعميم بعد تخيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف قول الزور على الرجل بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل: هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد.وأبو داود.وابن ماجه.والطبراني.وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائمًا قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية».
وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالخصيص.
ولا يخفى أن التعميم أولى منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام {حُنَفَاء للَّهِ} مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي شيئًا من الأشياء فيدخلوا في ذلك الأوثان دخولًا أولياء وهما حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا.
وجوز أن يكون حالًا من واو {واجتنبوا} وأخر التبري عن التولي ليتصل {حنفاء لله} مائلين عن كل دين زائع إلى الدين الحق مخلصين له تعالى: {غير مشركين به} أي شيئًا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوصان دخولًا أوليًّا هما حالان مؤكدتان من واو {فاجتنبوا} [الحج: 30] وجوز أن يكون حالًا من واو {واجتنبوا} [الجح: 30] وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب من الإشراك، وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك، وقد شبه الايمان بالسماء لعلوه والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الايمان إلى حضيض الكفر وهذا السقوط إن كان في حق المرتد فظاهره وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] {فَتَخْطَفُهُ الطير} فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} [الزمر: 29] وأصل الخطف الاختلاس بسرعة.
وقرأ نافع {فَتَخْطَفُهُ} بفتح الخاء والطاء مشددة.
وقرأ الحسن، وأبو بجار، والأعمش {فَتَخْطَفُهُ} بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة.
وقرأ الأعمش أيضًا {تخطفه} بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة، والجملة على هذه القراءة في موضع الحال، وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على {فَلَمَا خَرَّ} وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهد المخاطب تعجيبًا له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدي فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة في مشاهد المخاطب تعجيبًا له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعف من عطف الجملة على الجملة {أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح} أي تسقطه وتقذفه.
وقرأ أبو جعفر، وأبو رجاء {الرياح} {في مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة، وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أرسلنا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] فالتشبيه في الآية مفرق.
والظاهر أن {تَهْوَى} عطف على {تخطف} وأو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوى به الريح في مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلًا، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير: إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادى على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على قطعة منه إلا انتبا منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشيز لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الأحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر.
وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال: من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكًا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعًا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وجعل في الكشف أو على هذا للتخيير وليس بمتعين فيما يظهر، وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان.
وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين، و{وما تَهْوَى} عطف على {خَرَّ} وعلى التفريق تشبيهًا واحدًا و{تَهْوَى} عطف على {تخطف} وزعم أن في عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم {يَفْعَلْ ذلك} أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} أي البدن الهدايا كما روى عن ابن عباس.ومجاهد.وجماعة وهي جمع شعيرة أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار، وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته.
وقال الراغب: لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمى بشعيرة أي حديدة يشعر بها، ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى، وتعظيمها أن تختار حسانًا سمانًا غالية الأثمان، روى «أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» وعن عمر «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنًا فنهاه عن ذلك وقال: بل أهدها» وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست الصفا.والمروة والبدن.والجمار والمسجد الحرام.وعرفة.والركن، وتعظيمها إتمام ما يفعل بها، وقال ابن عمر.والحسن.ومالك.وابن زيد: الشعائر مواضع الحجج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد.