فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هي شرائع دينية تعالى وتعظيمها التزامها، والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد، و{مِنْ} إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لابد في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها الخ، والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولابد له من فاعل وهو ليس إلا ضميرًا يعود إلى {مِنْ} فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها، و{مِنْ} تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوى القلوب وأن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشيء من تقوى القلوب، وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث أن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت {مِنْ}.
وقال الزمخشري: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لابد من راجع من الجزاء إلى {مِنْ} ليرتبط به. اهـ.
وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى {مِنْ} ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قيل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال الخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤا بضمير مجرور.
عائد إلى {مِنْ} في آخر الكلام أو في أثنائه، وبعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لَكِن التزم جعل اللام في {القلوب} بدلًا من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقوى قلوبهم.
والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عاريا عن الراجع إلى {مِنْ} كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور.
وقال صاحب الكشف: في الانتصار له أيضًا أراد أنه على ماقدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه.
واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوى بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل {مِنْ} للتبعيض وأما إذا جعل للابتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشيء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولًا، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف قال: إن إضمار الأفعال لأن المعنى إن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذي تقوى.
ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشيء من تقوى القلوب.
والاعتراض بأن قول الزمخشري: إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أن حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع، ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى.
واعترض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد.
وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره، وبأن القول بعدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضًا من التقوى صلح لا يرضى به الخصم.
وبأنه إذا صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري: لا يستقيم إلخ.
وتعقب بأنه غير وارد، أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من أعظمها وكونه ناشئا منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه، وأما الثاني فلأن الدلالة على الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت: هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهعد به الذوق، وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير كون التعظيم بعضًا بل يقول الرابط العموم كما قال أولًا، وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفيًّا في قوة الخطا إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض، وأقول: لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال: التقدير فأن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب.
ومن في ذلك للتبعيض، وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان، تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق.
وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرًا ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه.
والتركيب أشبه التراكيب بقولهم: العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم.
ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر.
ومن الناس من لم يوجب تقدير التعظيم وأرجع ضمير {فَإِنَّهَا} إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من {يُعَظّمْ} أي التعظيمة.
واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه.
نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم، ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع، على أنه قيل عليه: إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى، ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفعهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى.
وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام {القلوب} لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلًا.
وذهب بعض أهل الكمال إلى أن الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقًّا لدلالة التعليل القائم مقامه عليه.
وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الأعلام والأخبار كما عرف في أمثاله، وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل.
وقرئ {القلوب} بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو {تَقْوَى} واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية على مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعلق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه.
{لَكُمْ فِيهَا} أي في الشعائر بالمعنى السابق {منافع} هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها {إلى أَجَعَلَ مُّسَمًّى} وهو وقت أن يسميها ويوجبها هديا وحينتذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم، ومجاهد، وقتادة والضحاك، وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدى أصلًا لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقًا، نعم يجوز له الانتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما روى عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة والسلام: «اركبها فقال يا رسول الله: إنها هدى فقال: اركبها ويلك» وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا أن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي، فعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهرًا» واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الانتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدى كذلك لا يملك المهدى بيعه وإجارته ويملك الانتفاع به بغير ذلك، وقيل الأجل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة.
وروى أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة، وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها، وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدرًا ميميًّا بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان، وهو على الاحتمالين معطوف على {منافع} والكلام على تقدير مضاف.
وقوله تعالى: {إلى البيت العتيق} في موضع الحال أي منتهية إلى البيت، والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه، وقد جعلت مني منحرًا ففي الحديث: «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر» وقال القفال: هذا في الهدايا التي تبلغ منى وأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه، وقالت الإمامية: منحر هدى الحج منى ومنحر هدى العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة، و{ثُمَّ} للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الآخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة، والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل.
والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة؛ وروي نحو ذلك عن مالك في الموطأ أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة الخ، وهكذا يقال على ما روي عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست، وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام، وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال، وقيل كون محلها منتهيًّا إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك، وقيل: غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلًا عن كلام رب العالمين، وأهون ما قيل: إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} [الحج: 30] وضمير {فِيهَا} لها. اهـ.

.قال القاسمي:

{ذَلِكَ} خبر محذوف. أي: الأمر ذلك. وهو وأمثاله من أسماء الإشارة، تطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد.
قال الشهاب: والمشهور في الفصل هذا كقوله: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَابٍ} [صّ: 55]، واختيار ذلك هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته. وهو من الاقتضاب القريب من التخلص، لملائمة ما بعده لما قبله، كما هنا: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: أحكامه. أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك. والحرمات جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه، بل يحترم شرعًا: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: ثوابًا. وخير اسم تفضيل حذف متعلقه. أي: من غيره، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره، قاله الشهاب. والثاني هو الأظهر، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها. وإيثاره، مع ذلك، لرقة لفظه، وجمعه بين الحسن والروعة: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: آية تحريمه. وذلك قوله في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، والمعنى: أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها، إلا ما استثناه في كتابه. فحافظوا على حدوده. وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئًا. كتحريم عَبْدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك. وأن تحلوا مما حرم الله. كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. أفاده الزمخشري.
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى. فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى. ومن بيانية. أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. قال الزمخشري: سمى الأوثان رجسًا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعني أنكم، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب. وقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} تعميم بعد تخصيص. فإن عبادة الأوثان رأس الزور. كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه ذلك، ردًّا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب. وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، وإعلامًا بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه، وصدق القول، أعظم الحرمات وأسبقها خطوًا: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل إلى الحق: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي: شيئًا من الأشياء. ثم ضرب للمشرك مثلًا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي: سقط منها فقطعته الطيور في الهواء: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تقدمه: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه. وأو للتخيير أو التنويع. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. فإن كان تشبيهًا مركبًا، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكًا ليس بعده نهاية. بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرَّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعًا في حواصلها. أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقًا، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله، بالساقط من السماء. والأهواء التي تتوزع أفكاره، بالطير المختطفة. والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. فكتب الناصر عليه: أما على تقدير أن يكون مفرّقًا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء، إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الإشراك المراد رِِدَّتَه، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليًّا، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختيارًا، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولَكِن كانوا متمكنين منه. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر، بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق- نظر. لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين. فإذا جعل الأول مثلًا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلًا لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئًا واحدًا. لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك. فنقول: لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة. فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب. لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه.
والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل. لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع. لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج بضلالته.
فهذا مشبه في إقراره على كفره، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه. ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3]، و: {ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 167]، أي: صمموا على ضلالهم فبَعُد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغًا له. إلا أنه لا قاطع به. نعم، هو من بديع الاستنباط، ورقيق الاستخراج. فرحم الله ناسخه.
قال ابن كثير: وقد ضرب تعالى للمشركين مثلًا آخر في سورة الأنعام. وهو قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرض حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71]الآية.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي: علائم هدايته، وهو الدين. أو معالم الحج ومناسكه. أو الهدايا خاصة، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى. كما تنبئ عنه آية: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [36]، وهو الأوفق لما بعده. وتعظيمُها أن يختارها عظام الأجرام حسانًا سمانًا، غالية الأثمان. ويترك المكاس في شرائها. فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة.
وعن سهل: كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون. رواه البخاريّ.
وعن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين». رواه البخاريّ. وعن البراء مرفوعًا: «أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تُنْقِي» رواه أحمد وأهل السنن {فَإِنَّهَا} أي: فإن تعظيمها: {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي: من أفعال ذوي التقوى. والإضافة إلى القلوب، لأن التقوى وضدها تنشأ منها.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: لكم في الهدايا منافع دَرّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها. وقد روي في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنة قال: «اركبها». قال: إنها بدنة قال: «اركبها ويحك. في الثانية أو الثالثة». وقوله: {ثُمَّ مَحلُّهَا} أي: محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى: {هديا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].
قال في الإكليل: فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم. وقيل: المعنى: محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق. فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة. يحل له كل شيء. وكذا روي عن ابن عباس: ما طاف أحد بالبيت إلا حل، لهذه الآية. اهـ.