فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}.
اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده.
فالإشارة مرادٌ بها التنبيه، وذلك حيث يكون ما بعده غيرَ صالح لوقوعه خبرًا عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى: ذلك بيانٌ، أو ذكرٌ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال.
والمشهور في هذا الاستعمال لفظ هذا كما في قوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب} [ص: 55] وقولِ زهير:
هذا وليس كمن يَعْيَا بخطبته ** وسْط النّدي إذا ما قائل نَطقا

وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.
فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره، أي ذلك بيان ونحوه.
وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر، قال: هذا وقد كان كذا وكذا.
وجملة {ومن يعظم}... إلخ.
معترضة عطفًا على جملة {وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج: 26] عطف الغرض على الغرض.
وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بُنِي على أساسها.
وضمير {فهو} عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل {ومن يعظم حرمات الله}.
والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيهًا لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتَها، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر.
فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم، أي قبل فتح مكة.
والحُرمات: جمع حُرُمة بضمتين: وهي ما يجب احترامه.
والاحترام: اعتبار الشيء ذَا حَرَم، كناية عن عدم الدخول فيه.
أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه، والحُرمات يشمل كل ما أوصَى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحرم ما دام محرمًا، فقصَرَه على الذوات دون الأعمال.
والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ، كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}.
لما ذكر آنفًا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل: البَحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحَامي وبعضضِ ما في بطونها.
وقد ذكر في سورة الأنعام.
واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [سورة الأنعام: 145] في قوله: {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرمًا} الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.
وجيء بالمضارع في قوله: {إلا ما يتلى عليكم} ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزولَ سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى، ويشمل ما عسى أن يَنزل من بعد مثل قوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} الآية في [سورة العقود: 103].
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].
وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله، وهو الأوثان.
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات {هذا حلال} مثل الدم وما أهلّ لغير الله به، وقولهم لبعض: هذا حرام مثل البَحيرة، والسائبة.
قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116].
والرّجس: حقيقته الخبث والقذارة، وتقدم في قوله تعالى: {فإنه رجس} في [سورة الأنعام: 145].
ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.
و مِن في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس، فهي تدخل على بعض أسماء التمييز بيانًا للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى من البيانية.
و{حنفاء لله} حال من ضمير {اجتنبوا} أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقًّا، ولذلك زاد معنى {حنفاء} بيانًا بقوله: {غير مشركين به}.
وهذا كقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين} [النحل: 120].
والباء في قوله: {مشركين به} للمصاحبة والمعية، أي غير مشركين معه غيره.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح في مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركًا تمثيلًا بديعًا إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.
قال في الكشاف: يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صُور حال المشرك بصورة حال مَن خرّ من السماء فاختطفَتْه الطيرُ فتفرّق مِزعًا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقًا فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.أه.
يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.
والسحيق: البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.
وقوله: {أو تهوي به الريح} تخيير في نتيجة التشبيه، كقوله: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19].
أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان: قسم شِركه ذبذبة وشكّ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلاّ انتهبها منه آخر، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه.
وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.
والخُرور: السقوط.
وتقدم في قوله: {فخر عليهم السقف من فوقهم} في [سورة النحل: 26].
و{تخطّفُه} مضاعف خطف للمبالغة، الخطف والخطف: أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة.
والهُوِيّ: نزول شيء من علو إلى الأرض.
والباء في {تهوي به} للتعدية مثلها في: ذهب به.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {فتَخَطّفه} بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطّف المضاعف.
وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرّد.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}.
{ذلك} تكرير لنظيره السابق.
الشعائر: جمع شعيرة: المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور.
وشعائر الله: لقب لمناسك الحجّ، جمع شعيرة بمعنى: مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله.
فمضمون جملة {ومن يعظم شعائر الله}... إلخ.
أخص من مضمون جملة {ومن يعظم حرمات الله} [الحج: 30] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام.
أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي.
وتقدم ذكرها في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} في [سورة البقرة: 158].
فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره.
وهي معالم الحجّ: الكعبة، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحجّ.
وتطلق الشعيرة أيضًا على بدنة الهدى.
قال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج: 36] لأنهم يجعلون فيها شِعارًا، والشِعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعنًا حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذرت للهدي، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.
فعلى التفسير الأول تكون جملة {ومن يعظم شعائر الله} إلى آخرها عطفًا على جملة {ومن يعظم حرمات الله} [الحج: 30] إلخ.
وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.
وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة {ومن يعظم شعائر الله} عطفًا على جملة {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28] تخصيصًا لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.
وضمير {فإنها} عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
وقوله: {فإنها من تقوى القلوب} جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله: {القلوب} فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله.
فالتقدير: فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب.
وإضافة {تقوى} إلى {القلوب} لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
جملة {لكم فيها منافع} حال من الأنعام في قوله: {وأحلت لكم الأنعام} [الحج: 30] وما بينهما اعتراضات أو حال من {شعائر الله} [الحج: 32] على التفسير الثاني للشعائر.
والمقصود بالخبر هنا: هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق}.
وضمير الخطاب موجّه للمؤمنين.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحفّ.
وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هديا.
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعًا لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك.
وفي الموطّأ: عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوق بدنة فقال: اركبها؟ فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو الثالثة».
والأجل المسمّى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام مِنى. وهي الأيام المعدودات.
والمَحِلّ: بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه.
وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال: بلغ الغاية، ونهاية أمرها النحر أو الذبح.
و{إلى} حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولَكِن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت.
قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر: مِنى، والمروة، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا، وتبيينه في السنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى: {وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج: 26]. اهـ.