فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}.
لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام، ولَكِنه بينه بقوله في سورة الأنعام: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إلى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أنها قوله تعالى في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة} [المائدة: 3] الآية فهو غلط، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد.
أما قوله تعالى في المائدة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] فيصح بيانه بقوله في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} الآية. كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان}. من في هذه الآية بيانية.
والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان: أي عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان، ويدخل في حكمها، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائنًا من كان. وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا، جاء بمينًا في آيات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] وبيَّن تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله، وبين أن لهم البشرى، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى} [الزمر: 17] الآية. وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت، في قوله تعالى: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] والأصنام، تدخل في الطاغوت دخولًا أوليًّا.
قوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}.
أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور، وهو الكذب والباطل كقولهم: إن الله حرم البحيرة والسائبة، ونحو ذلك، وكادعائهم له الأولاد والشركاء، وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل، والاعوجاج، كما أوضحناه في الكلام على قوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17] الآية.
واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها، أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضعي بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وتقدمت لذلك أمثلة. وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} بصيغة عامة، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم: {وَقال الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور. وقال في الذين يظاهرون من نسائهم، ويقول الواحد منهم لامرأته: أنت على كظهر أمي {وَإِنَّهُمْ لَيقولونَ مُنكَرًا مِّنَ القول وَزُورًا} [المجادلة: 2] فصرح بأن قولهم ذلك، منكر وزور، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».اه. وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله: {واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وكما أنه جمع بينهما هنا، فقد جمع بينهما أيضًا في غير هذا الموضع كقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] لأن قوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هو قول الزور. وقد أتى مقرونًا قوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} وذلك يدل على عظمة قول الزور، لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور، كادعائهم الشركاء، والأولاد لله. وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله. نعوذ بالله من كل سوء.
ومعنى حنفاء: قد قدمناه مرارًا مع بعض الشواهد العربية، فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال، لأنه شبهه بالذي خر: أي سقط من السماء إلى الأرض، فتمزقت أوصاله، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق: أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزلقة، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة، فهو هالك لا محالة، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلى متمزق الأوصال، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص، جاء موضحًا في مواضع أخر كقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وماوَاهُ النار} [المائدة: 72] الآية. وكقوله: {قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الأعراف: 50] وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] الآية في الموضعين من سورة النساء، والخطف الأخذ بسرعة والسحيق البعيد. ومنه قوله تعالى: {فَسُحقًّا لأَصْحَابِ السعير} [الملك: 11] أي بعدًا لهم.
وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن يشرك بالله، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك، ولم يتب منه قبل حضور الموت. أما من تاب من شركه قبل حضور الموت، فإن الله يغفر له، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] الآية وقوله في الذين: {قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وما مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَا يقولونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 73- 74] وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًَا} [طه: 82] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وأما إن كانت توبته من شكره عند حضور الموت، فإنها لا تنفعه.
وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قال إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه، عند حضور الموت وكقوله تعالى: {فَلَمَا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84- 85] وكقوله في فرعون: {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق قال آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 90- 91] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}.
قد ذكرنا قريبًا أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات. ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة لأن قوله تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} عام في جميع شعائر الله، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من أفراد هذا العموم، داخل فيه قطعًا وذلك في قوله: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} [الحج: 36] فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري: أنهم كانوا يسمنون الأضاحي، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله. وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله} [البقرة: 158] الآية وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية: يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاث أوجه من الإعراب.
الأول: أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف: أي ذلك حكم الله وأمره.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك.
الثالث: أن يكون في محل نصب بفعل محذوف، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قول زهير:
هذا وليس كمن يعي بخطته ** وسط الندى إذا ما قائل نطقا

قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} قال القرطبي: هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام، ثم قال: وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف: أي فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر. اهـ. وقال الزمخشري في الكشاف: فإنها من تقوى القلوب أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لابد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به منه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
{ذلك } إشارة إلى الكلام السابق بأنه أمْر واضح، لَكِن استمع إلى أمر جديد سيأتي، فهنا استئناف كلام على كلام سابق، فبعد الكلام عن البيت وما يتعلَّق به من مناسك الحج يستأنف السياق: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } [الحج: 30] فالحق- سبحانه- يريد لعبده أنْ يلتزمَ أوامره بفعل الأمر واجتناب النهي، فكُلُّ أمر لله يَحرُم عليك أن تتركه، وكلّ نَهْي يحرم عليك أنْ تأتيه، فهذه هي حرمات الله التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة الأمر واجتناب النهي.
وحين تُعظِّم هذه الحرمات لا تُعظمها لذاتها، فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته، إنما تُعظِّمها لأنها حرمات الله وأومره؛ لذلك قد يجعل الالتزام بها مُتغيّرًا، وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضًا في الظاهر.
فالوضوء مثلًا، البعض يرى فيه نظافة للبدن، فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده حَلَّ محلّه التيمُم بالتراب الطاهر الذي نُغبِّر به أعضاء التيمم، إذن: ليس في الأمر نظافة، إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مُقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطَّهر له بالوضوء، فإنْ أمرتُكَ بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعِلّته.
وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها؛ لأنها من الله، ولِمَ لا ونحن نرى مثل هذا الالتزام أو رياضة التأديب في الالتزام في تعاملاتنا الطبيعية الحياتية، فمثلًا الجندي حين يُجنَّد يتعلم أول ما يتعلم الانضباط قبل أنْ يُمسِك سلاحًا أوْ يتدرب عليه، يتعلم أن كلمة ثابت معناها عدم الحركة مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب لا يتحرك.
ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول: ثابت فينفذ الجميع.. الملعقة التي في الطبق تظل في الطبق، والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه، فلا ترى في الصالة الواسعة حركة واحدة. وهذا الانضباط الحركي السلوكي مقدمة للانضباط في الأمور العسكرية الهامة والخطيرة بعد ذلك.
إذن: فربُّك-عز وجل- أَوْلَى بهذا الانضباط؛ لأن العبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة؛ لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقيادًا لأمر الله، ففي الطواف تُقبِّل الحجر الأسود، وفي رمي الجمار ترمي حجرًا، وهذا حجر وذاك حجر، هذا ندوسه وهذا نُقبِّله فَحَجر يُقَبَّل وحَجر يُقَنْبل؛ لأن المسألة مسألة طاعة والتزام، هذا كله من تعظيم حرمات الله.
لذلك الإمام على- رضي الله عنه- يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم: لو أن الأمر كما نرى لكان مسح باطن القدم أَوْلَى من ظاهرها؛ لأن الأوساخ تعلق بباطن القدم أولًا.
وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن الحرمات خمس: البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والمشعر الحرام، والشهر الحرام، وحرمات الله هي الأشياء المحرمة التي يجب الاَّ تفعلها.
ثم يُبيَّن الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } [الحج: 30] الخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته، إنما الخيرية للعبد عند الله.
ثم يقول سبحانه: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } [الحج: 30] قد تقول: كيف وهي حلال من البداية وفي الأصل، قالوا: لأنه لما حرَّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائمًا فلا ينتفعون بها، فبيَّن سبحانه أنها حلال إلا ما ذُكر تحريمه، ونصَّ القران عليه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وما ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } [المائدة: 3].
وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام: 121].
ومعنى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [الحج: 30] الرجْس: النجاسة الغليظة المتغلغلة في ذات الشيء. يعني: ليست سطحية فيه يمكن إزالتها، وإنما هي في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه.
{واجتنبوا } [الحج: 30] لا تدل على الامتناع فقط، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية؛ لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لابد أن تداعبك وتشغل خاطرك، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه، لذلك لم يقُل الحق- سبحانه وتعالى- امتنعوا إنما قال: اجتنبوا، ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون: إن الأمر في اجتنبوا لا يعني تحريم الخمر، فلم يَقُلْ: حُرِّمَتْ عليكم الخمر.
نقول: اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم، لو قال الحق- تبارك وتعالى- حُرّمت عليكم الخمر، فهذا يعني أنك لا تشربها، ولَكِن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها وتبيعها، أما اجتنبوا فتعني: احذروا مجرد الاقتراب منها على أيِّ وجه من هذه الوجوه.
لذلك، تجد الأداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الأوامر والنواهي من الله يُفرِّق بين حدود ما أحلَّ الله وحدود ما حرَّم، ففي الأوامر يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229].
وفي النواهي يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187].
ففي الأوامر وما أحلَّ الله لك قِفْ عند ما أحلَّ، ولا تتعداه إلى غيره، أمَا المحرمات فلا تقترب منها مجردَ اقتراب، فلما أراد الله نَهْي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة قال لهما: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [البقرة: 35].