فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَكُمْ فِيهَا منافع} أي في الشعائر على العموم، أو على الخصوص، وهي البدن كما يدلّ عليه السياق.
ومن منافعها: الركوب والدرّ والنسل والصوف وغير ذلك {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} أي حيث يحلّ نحرها، والمعنى: أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرّة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية.
وقيل: إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى: أن شعائر الحجّ كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه.
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} المنسك ها هنا المصدر من نسك ينسك: إذا ذبح القربان، والذبيحة: نسيكة، وجمعها نسك.
وقال الأزهري: إن المراد بالمنسك في الآية: موضع النحر، ويقال: منسك بكسر السين وفتحها لغتان، قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصمًا وقرأ الباقون بالفتح.
وقال الفرّاء: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خير أو شرّ، وقال ابن عرفة: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي مذهبًا من طاعة الله. وروي عن الفراء أن المنسك: العيد.
وقيل: الحجّ، والأوّل أولى لقوله: {لّيَذْكُرُواْ اسم الله} إلى آخره، والأمة: الجماعة المجتمعة على مذهب واحد، والمعنى: وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحًا يذبحونه، ودما يريقونه، أو متعبدًا أو طاعة أو عيدًا أو حجًا يحجونه، ليذكروا اسم الله وحده، ويجعلوا نسكهم خاصًا به {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي على ذبح ما رزقهم منها.
وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها، وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه.
ثم أخبرهم سبحانه بتفرّده بالإلهية وأنه لا شريك له، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام له، والانقياد لطاعته وعبادته، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء هنا كالفاء التي قبلها، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر {المخبتين} من عباده، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من الخبت، وهو المنخفض من الأرض، والمعنى: بشرهم يا محمد بما أعدّ الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه.
وقيل: إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم، وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا.
ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت وحذرت مخالفته، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوّة إيمانهم، ووصفهم بالصبر {على مَا أَصَابَهُمْ} من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة {الصلاة} أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال.
قرأ الجمهور: {والمقيمي الصلاة} بالجرّ على ما هو الظاهر، وقرأ أبو عَمْرو بالنصب على توهم بقاء النون، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة

البيت بنصب عورة، وقيل: لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو، وقرأ ابن محيصن: {والمقيمين} بإثبات النون على الأصل، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، ثم وصفهم سبحانه بقوله: {وَمِمَا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي يتصدّقون به وينفقونه في وجوه البرّ، ويضعونه في مواضع الخير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زَادَتْهُمْ إيمانا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {حرمات الله} قال: الحرمة مكة والحجّ والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} يقول: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان {واجتنبوا قَوْلَ الزور} يعني: الافتراء على الله والتكذيب به.
وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: «يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور شركًا بالله» ثلاثًا، ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} قال أحمد: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد.
وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من حديث خريم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئًا، فجلس فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»، فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} قال: حجاجًا لله غير مشركين به، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام، قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين بالله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصدّيق نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} قال: البدن.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وفي قوله: {لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قال: إلى أن تسمى بدنًا.
وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه، وفيه قال: ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى، في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هديا، فإذا سميت هديا ذهبت المنافع {ثُمَّ مَحِلُّهَا} يقول: حين تسمى {إلى البيت العتيق}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} قال: عيدًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: إهراق الدماء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ذبحًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكًا غيرها.
وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَبَشّرِ المخبتين} قال: المطمئنين.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن أوس قال: المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكًا} قال: عيدًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكًا} قال: إهراق الدماء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {ولكل أمة جعلنا منسكًا} قال: ذبحًا.
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمر: «أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بعيد الأضحى جعله الله لهذه الأمة. قال الرجل: فإن لم نجد إلا ذبيحة أنثى أو شاة أعليّ، اذبحها؟ قال: لا، ولَكِن قلم أظفارك وقص شاربك واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله».
وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي، عن أبي هريرة قال: «نزل جبريل فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيف رأيت عيدنا؟ فقال: لقد تباهى به أهل السماء!... اعلم يا محمد، أن الجذع من الضأن خير من السيد من المعز، وإن الجذع من الضأن خير من السيد من البقر، وإن الجذع من الضأن خير من السيد من الإبل. ولو علم الله خيرًا منه فدى بها إبراهيم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال: في هذه الآية: {ولكل أمة جعلنا منسكًا} أنه مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكًا غيرها.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى للناس يوم النحر، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه وقال: بسم الله والله أكبر... اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي».
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب، عن جابر قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم منك ولك وعن محمد وأمته. ثم سمى الله وكبر وذبح».
وأخرج ابن أبي الدنيا في الأضاحي والبيهقي في الشعب، عن علي أنه قال حين ذبح: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة، عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه كان إذا ذبح قال: بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك اللهم تقبل مني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل {فله أسلموا} يقول: فله أخلصوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. عن مجاهد في قوله: {وبشر المخبتين} قال: المطمئنين.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان، عن عمرو بن أوس {وبشر المخبتين} قال: المخبتون، الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن الضحاك رضي الله عنه {وبشر المخبتين} قال: المتواضعين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه {وبشر المخبتين} قال: الوجلين.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه كان إذا رأى الربيع بن خثيم قال: {وبشر المخبتين} وقال له: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين.
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} عندما يخوفون {والصابرين على ما أصابهم} من البلاء والمصيبات {والمقيمي الصلاة} يعني إقامتها بأداء ما استحفظهم الله فيها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}.
قوله: {مَنسَكًا}: قرأ الأخَوان هذا وما بعده {مَنْسِكًا} بالكسر، والباقون بالفتح. فقيل: هما بمعنىً واحد. والمرادُ بالمَنْسَك مكانُ النُّسُكِ أو المصدرُ. وقيل: المكسورُ مكانٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. قال ابنُ عطية: والكسرُ في هذا من الشاذِّ، ولا يَسُوغُ فيه القياس. ويُشْبِهُ أَنْ يكونَ الكسائيُّ سمعه من العرب. قلت: وهذا الكلامُ منه غير مَرْضِيّ: كيف يقول: ويُشْبه أَنْ يكنَ الكسائيُ سَمِعه. الكسائي يقول: قرأتُ به فكيف يحتاج إلى سماعٍ مع تمسُّكِه بأقوى السَّماعات، وهو روايتُه لذلك قرأنًا متواترًا؟ وقوله: من الشاذِّ يعني قياسًا لا استعمالًا فإنه فصيحٌ في الاستعمال؛ وذلك أنَّ فَعَل يَفْعُل بضم العين في المضارع قياسُ المَفْعَل منه: أن تُفتَحَ عينُه مطلقًا أي: سواءٌ أُريد به الزمانُ أم المكانُ أم المصدرُ. وقد شَذَّتْ ألفاظُ ضَبَطها النحاةُ في كتبهم وذكرتُها أيضًا في هذا الموضوعِ.
قوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: يجوز أن يكونَ هذا الموصولُ في موضعِ جرٍّ أو نصبٍ أو رفعٍ. فالجرُّ من ثلاثةِ أوجهٍ: النعتُ للمُخْبِتِيْن، أو البدلُ منهم، أو البيانُ لهم. والنصبُ على المدحِ. الرفعُ على إضمار هم وهو مدحٌ أيضًا، ويُسَمِّيه النحويون قَطْعًا.
قوله: {والمقيمي الصلاة} العامَّةُ على خفضِ {الصلاةِ} بإضافة المقيمين إليها. وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في روايةٍ بنَصْبِها على حذفِ النونِ تخفيفًا، كما يُحْذف التنوينُ لالتقاءِ السَاكنين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والأعمشُ بهذا الأصل: {والمقيمينَ الصلاةَ} بإثباتِ النونِ، ونصبِ {الصلاة}. وقرأ الضحَّاكُ {والمقيمَ الصلاةَ} بميمٍ ليس بعدها شيء. وهذه لا تخالِفُ قراءة العامَّةِ لفظًا، وإنما تظهرُ مخالفتُها لها وَقْفًا وخَطًَّا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}.
الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف، ثم هم فيها مختلفون: فقومٌ هم أصحاب التضعيف، فيما أوجب عليهم وجعل لهم، وقومٌ هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وُعَد لهم. قوله: {لِِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلِى} وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام: منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم... وذلك من حيث الشكر، ثم يذكرون اسمه على ما وفّقَهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يُثيبهم.
قوله جلّ ذكره: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِرِ المُخْبِتِينَ}.
أي اسْتَسلموا لِحُكمه بلا تعبيسٍ ولا استكراهٍ من داخل القلب.
والإسلام يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس. {وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ}: الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومنْ أماراتِ الإخباتِ كمالُ الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة.
قوله جلّ ذكره: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الوَجَلُ الخوفُ من المخافة، والوَجلُ عند الذكر على أقسام: إما لخوفِ عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروجٍ من الدنيا على غَفلَةٍ من غير استعدادٍ للموت، أو إصلاح أُهْبَةٍ، أو حياءٍ من الله سبحانه في أمورٍ إذا ذَكرَ اطلاعه- سبحانه- عليها لمَا بَدَرَت منه تلك الأمور التي هي غير محبوبة.
ويقال الوجَلُ على حسب تجلي الحق للقلب؛ فإِن القلوب في حال المطالعةِ والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة.
ويقال وَجلٌ له سبب وجل بلا سبب؛ فالأول مخافةٌ من تقصير، والثاني معدودٌ في جملة الهيبة.
ويقال الوَجَلُ خوفُ المَكْرِ والاستدراج، وَأقربُهم من الله قلبًا أكثرهُم من الله- على هذا الوجه- خوفًا.
قوله جلّ ذكره: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}.
أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراهٍ ولا تمني خَرْجةٍ، ولا زَوْمِ فُرْجةٍ بل يستَسلِمُ طوعًا:
ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوةَ بإطلاعِ الخْلق على أحوالهم.
قوله جلّ ذكره: {وَالمُقِيمِى الصَّلاَةِ}.
أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف في محلِّ النجوى:
إذا ما تمنَّى الناسُ رَوْحًا وراحةً ** تمنَّيْتُ أن أشكو إليك فَتَسمَعَا

قوله جلّ ذكره: {وَممَا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
عند المعاملة من أموالهم، وفي قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير؛ فينفقون أبدانَهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبَهم على التسليم والخمود تحت جريان الأحكام بمطالبات الحقيقة. اهـ.