فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (36- 37):

قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها، وكانت الإبل أعظمها خلقًا، وأجلها في أنفسهم أمرًا، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبرًا بالاسم الدال على عظمها، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية، فقال عاطفًا على قوله: {جعلنا منسكًا} أو يكون التقدير والله أعلم: فأشركناكم مع الأمم الماضية في البقر والغنم {والبدن} أي الإبل أي المعروفة بعظم الأبدان- {جعلناها} أي بعظمتنا، وزاد في التذكير بالعظمة بذكر الاسم العلم فقال: {لكم من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعظم ومناسكه التي شرعها لكم وشرع فيها الإشعار، وهو أن يطعن بحديدة في سنامها، تمييزًا لما يكون منها هديا عن غيره.
ولما نبه على ما فيها من النفع الديني، نبه على ما هو أعم منه فقال: {لكم فيها خير} بالتسخير الذي هو من منافع الدنيا، والتقريب الذي هو من منافع الآخرة؛ روى الترمذي وحسنه وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله علية وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحب إلى الله من هراقة الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسًا» والدارقطني في السنن عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد».
ولما ذكر ما فيها، سبب عنه الشكر فقال: {فاذكروا اسم الله} أي الذي لا سمي له {عليها} أي على ذبحها بالتكبير، حال كونها {صواف} قيامًا معقلة الأيدي اليسرى، فلولا تعظيمه بامتثال شرائعه، ما شرع لكم ذبحها وسلطكم عليها مع أنها أعظم منكم جرمًا وأقوى {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت سقوطًا بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلًا، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع «ولا تعجلوا النفس أن تزهق» وقد وراه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- أنه قال ذلك.
ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل ممنها للأمر بتقريبها لله تعالى، قال نافيًّا لذلك: {فكلوا منها} إذا كانت تطوعًا إن شئتم الأكل، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قربانًا {وأطعموا القانع} أي المتعرض للسؤال بخضوع وانكسار {والمعتر} أي السائل، وقيل: بالعكس، وهو قول الشافعي رحمه الله، قال في كتاب اختلاف الحديث: والقانع هو السائل، والمعتر هو الزائر والمار، قال الرازي في اللوامع: وأصله في اللغة أن القاف والنون والعين تدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، فالقانع: السائل، لإقباله على من يساله، والقانع: الراضي الذي لا يسأل، كأنه مقبل على الشيء الذي هو راض به.
ولما كان تسخيرها لمثل هذا القتل على هذه الكيفية مع قوتها وكبرها أمرًا باهرًا للعقل عند التأمل، نبه عليه بالتحريك للسؤال عما هو أعظم منه فقال: {كذلك} أي مثل هذا التسخير العظيم المقدار {سخرناها} بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك {لكم} وذللناها ليلًا ونهارًا مع عظمها وقوتها، ولو شيءنا جعلناها وحشية {لعلكم تشكرون} أي لتتأملوا ذلك فتعرفوا أنه ما قادها لكم إلا الله فيكون حالكم حال من يرجى شكره، فتوقعوا الشكر بأن لا تحرموا منها إلا ما حرم، ولا تحلوا إلا ما أحل، وتشهدوا منها ما حث على إهدائه، وتتصرفوا فيها بحسب ما أمركم.
ولما حث على التقرب بها مذكورًا اسمه عليها، وكان من مكارم الأخلاق، وكان أكثرهم يفعله، وكانوا ينضحون البيت ونحوه بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم، ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، وقد كان بعض ذلك شرعًا قديمًا، نبه سبحانه على نسخ ذلك بأن نبه على أن المقصود منه روحه لا صورته فقال: {لن ينال} أي يصيب ويبلغ ويدرك.
ولما كان السياق للحث على التقريب له سبحانه، كان تقديم اسمه على الفاعل أنسب للإسراع بنفي ما قد يتوهم من لحاق نفع أو ضر، فقال معبرًا بالاسم العلم الذي حمى عن الشركة بكل اعتبار: {الله} أي رضا الملك الذي له صفات الكمال فلا يلحقه نفع ولا ضر {لحومها} المأكوله {ولا دماؤها} المهراقة {ولَكِن يناله التقوى} أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال اموامر التي هي نهايات لذلك، الكائنة {منكم} الحاملة على التقرب التي بها يكون له روح القبول، المحصلة للمأمول؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة- انتهى.
فإذا نالته سبحانه النية قبل العمل فتلقى اللقمة «فرباها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل جبل» «ووقع الدم منه بمكان» فالنفي لصورة لا روح لها والإثبات لذات الروح، فقد تفيد النية من غير عمل كما قال- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك ما معناه: «إن بالمدينة رجالًا ما نزلنا منزلًا ولا قطعنا واديًّا إلا كانوا فيه حبسهم العذر» ولا يفيد العمل بغير نية، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمدًا والله الموفق؛ ثم كرر التنبيه على عظيم تسخيرها منبهًا على ما أوجب عليهم به فقال: {كذلك} أي التسخير العظيم {سخرها} أي الله الجامع لصفات الكمال {لكم} بعظمته وغناه عنكم {لتكبروا}.
ولما ذكر التكبير، صوره بالاسم الأعظم فقال: {الله} وضمن التكبير فعل الشكر، فكان التقدير: شاكرين له {على ما هداكم} أي على هدايتكم له والأمور العظيمة التي هداكم إليها.
ولما كان الدين لا يقوم إلا بالنذارة والبشارة، وكان السياق لأجل ما تقدم من شعائر الحج، ومعالم العج والثج- بالبشارة أليق، ذكرها مشيرًا إلى النذارة بواو العطف ليؤذن أن التقدير: فأنذر أيها الداعي المسيئين: {وبشر المحسنين} أي الذين أوجدوا الإحسان لأفعالهم صورة ومعنى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} اعلم أن قوله تعالى: {والبدن} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
البدن جمع بدنة كخشب وخشبة، سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولَكِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» ولأنه قال: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر، وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة، لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة.
المسألة الثانية:
قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة، وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف، وقرئ بالنصب والرفع كقوله: {والقمر قدرناه مَنَازِلَ} [يس: 39] والله أعلم.
المسألة الثالثة:
إذا قال لله على بدنة، هل يجوز له نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة، ولو قال: لله على جزور، أنه يذبحه حيث شاء، وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدي فإنه تعالى قال: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي، واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى: {والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي، أجاب أبو حنيفة رحمه الله بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.
أما قوله تعالى: {جعلناها لَكُمْ} فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدى في الحج جاز أن يقول: {جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله} أما قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فالكلام فيه ما تقدم في قوله: {لَكُمْ فِيهَا منافع} [الحج: 33] وإذا كان قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد الله تعالى بأن فيه خيرًا وبأن فيه منافع، أما قوله: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} ففيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها، قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك، أما قوله: {صَوَافَّ}، فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرئ {صوافن} من صفون الفرس، وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرئ {صوافي} أي خوالص لوجه الله تعالى لا تشركوا بالله في التسمية على نحرها أحدًا كما كان يفعله المشركون، وعن عمرو ابن عبيد صوافيًّا بالتنوين عوضًا عن حرف الإطلاق عند الوقف، وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجرًا وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم الله وشعائر دينه، وأما قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة إذا غربت، والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها {فَكُلُواْ مِنْهَا} وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعًا إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه، قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال، أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال، وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال ابن الإعرابي يقال عروت فلانًا وأعررته وعروته واعترىته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه، قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالًا بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبدًا وقرأ الحسن والمعترى وقرأ أبو رجاء {القنع} وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع.
أما قوله: {كذلك سخرناها لَكُمْ} فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه، فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد، وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدين والدنيا، ثم لما بين تعالى هذه النعمة قال بعده {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والمراد لكي تشكروا.
قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يشكروا فدل هذا على أنه يريد كل ما أمر به ممن أطاع وعصى، لا كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لم يرد ذلك إلا من المعلوم أن يطيع، والكلام عليه قد تقدم غير مرة.
أما قوله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
لما كانت عادة الجاهلية على ما روي في القربان أنهم يلوثون بدمائها ولحومها الوثن وحيطان الكعبة بين تعالى ما هو القصد من النحر فقال: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولَكِن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} فبين أن الذي يصل إليه تعالى ويرتفع إليه من صنع المهدي من قوله ونحره وما شاكله من فرائضه هو تقوى الله دون نفس اللحم والدم، ومعلوم أن شيئًا من الأشياء لا يوصف بأنه يناله سبحانه فالمراد وصول ذلك إلى حيث يكتب يدل عليه قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر:10].
المسألة الثانية:
قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أمور: أحدها: أن الذي ينتفع به المرء فعله دون الجسم الذي ينتفع بنحره وثانيها: أنه سبحانه غني عن كل ذلك، وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أوامره وثالثها: أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون تقواه فعلًا وإلا لكانت تقواه بمنزلة اللحوم ورابعها: أنه لما شرط القبول بالتقوى وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يكون عمله مقبولًا وأنه لا ثواب له والجواب: أما الأولان فحقان، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم، وأما الرابع فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقًا ولَكِنه متق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص فوجب أن تكون طاعته مقبولة وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
المسألة الثالثة:
كلهم قرأوا {يَنَالَ الله} ويناله بالياء إلا يعقوب فإنه قرأ بالتاء في الحرفين فمن أنث فقد رده إلى اللفظ ومن ذكر فللحائل بين الاسم والفعل.
ثم قال: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} والمراد أنه إنما سخرها كذلك لتكبروا الله وهو التعظيم، بما نفعله عند النحر وقبله وبعده على ما هدانا ودلنا عليه وبينه لنا، ثم قال بعده على وجه الوعد لمن امتثل أمره {وَبَشّرِ المحسنين} كما قال من قبل {وَبَشِّرِ المخبتين} [الحج: 34] والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير محسنًا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه. اهـ.