فصل: لطائف التفسير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: بيّن الباري جل وعلا أن تسخيره الأنعام لبني آدم، نعمةٌ من إنعامه تستوجب الشكر وقد جاء هذا الامتنان على العباد مجملًا في هذه الآية: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وجاء التفصيل في آيات أخرى كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71- 73] وكقوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ ترىحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 5- 7].
اللطيفة الثانية: المراد من قوله تعالى: {مِّن شَعَائِرِ الله} أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده، وإضافتها إلى الله جلّ وعلا للتعظيم مثل {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73]، وبيت الله وإنما كانت هذه البُدنُ من الشعائر، لأن الغرض منها التقرب إلى الله بالهدايا والضحايا وغيرها من وجوه البر والإحسان.
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} إشارة لطيفة إلى أنّ الإبل لا تذبح ذبحًا وإنما تُنحر نحرًا، وأنّ المطلوب عند نحرها أن تكون قائمة قد صُفّت أيديها وأرجلها، فإنّ ذلك هو الطريق الأمثل في ذبح الإبل كما وضحته السنة النبوية المطهرة.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل تطلق البُدن على الإبل والبقر؟

اتفق العلماء على أن البُدن اسم للواحد من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، فهي تطلق على الإبل باتفاق، وقد اشتهر في الشرع إطلاقها على البعير يهدى إلى الكعبة، واختلفوا هل تطلق البدنة على البقرة؟ باعتبار أنها تجزئ في الهَدْي والأضحية عن سبعة كالبعير على مذهبين:
أولًا- مذهب الحنفية: أن البدنة تطلق على البقرة كما تطلق على البعير، فهي من قبيل المشترك في المعنيين، فمن نذر بدنةً أجزأته بقرة فهي مثلها في اللفظ والحكم، وبهذا قال عطاء وسعيد بن المسيّب واستدلوا بما يلي:
1- روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «كنّا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلاّ من البُدن»؟
ب- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لا نعلم البُدن إلا من الإبل والبقر.
ثانيًّا- مذهب الشافعية: أما الشافعية فقالوا: لا تطلق البدن بالحقيقة إلاّ على الإبل، وإطلاقها على البقر إنما يكون مجازًا، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبهذا قال مجاهد.
ودليلهم ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» قالوا: فلهذا يدل على ما قلنا لأن العطف يقتضي المغايرة.
والظاهر أن اسم البدنة حقيقة في الإبل لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} فالإبل هي التي تنحر واقفة بخلاف البقر فإنها تذبح ذبحًا، وقول جابر: وهل هي إلا من الإبل؟ وقول ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر، فمحمولٌ على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما والله أعلم.

.الحكم الثاني: ما هو الأفضل في الهدي والأضاحي:

أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم الإبل، البقر، الغنم، الماعز وأن الذكر والأنثى بالنسبة للأضاحي والهدي سواءٌ، واتفقوا على أن الأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم على هذا الترتيب، لأن الإبل أنفع للفقراء لعظمها، والبقر أنفع من الشاة كذلك، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاةٌ، والبدنةُ تجزئ عن سبعة وكذلك البقرة. واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد:
هي يُهدي سُبْع بدنة، أو سُبْع بقرة، أو يهدي شاةً؟ والظاهر أن الاعتبار إنما يكون بما هو أنفع للفقراء، وهذا هو الأصح.
ومما يدل على أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة ما رواه جابر رضي الله عنه أنه قال: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ».
وللمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائةً من الإبل، وكان هديه عليه السلام هدي تطوع.

.الحكم الثالث: الأكل من لحوم الهدي:

أمر الله تعالى بالأكل من لحوم الهدي في قوله جل ثناؤه {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} [الحج: 28] وهذا الأمر يتناول بظاهره هدي التمتع وهدي التطوع والهدي الواجب بسبب ارتكاب بعض المحظورات في الحج أو العمرة.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال نلخّصها فيما يلي:
1- ذهب أبو حنيفة وأحمد إلى جواز الأكل من هدي التمتع، وهدي القرآن، وهدي التطوع، ولا يأكل من دم الجزاء.
وقال مالك رحمه الله: يأكل من هدي التمتع، والقران، والهدي الذي ساقه لفساد حجه أو لفوات الحج، ومن الهدي كله إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد، وما نذره للمساكين.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل دم الجزاء، وجزاء الصيد، وهدي التمتع والقران، وإفساد الحج، وكذلك ما كان نذرًا أوجبه على نفسه.
أمّا كان تطوعًا فله أن يأكل منه ويُهدي، ويتصدّق، فأباح الأكل من هدي التطوع فحسب.
ومبنى الخلاف بين الجمهور والإمام الشافعي في هدي التمتع أنّ الدم الواجب عندهم دم شكر فيباح له أن يأكل منه، وعنده أنه دم جزاء فلا يباح الأكل منه والتفصيل في كتب الفروع.
وقد استدل الإمام الشافعي على وجوب إطعام الفقراء من الهدايا بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} وقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} [الحج: 28].
وقال أبو حنيفة: إن الإطعام مندوب، لأنها دماء نُسُك فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب.

.الحكم الرابع: وقت الذبح ومكانه:

اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي.
فعند الشافعي: أن وقت ذبحه يوم النحر، وأيام التشريق الثاني والثالث والرابع من أيام عيد الأضحى، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وكلّ أيام التشريق نحرٌ» فإن فات وقته ذبح الهدي الواجب قضاءً وأثم بالتأخير.
وعند مالك وأحمد أن وقت ذبح الهدي- سواءً كان واجبًا أمّ تطوعًا- أيام النحر الأول والثاني والثالث من أيام عيد الأضحى، ولا يصح الذبح في اليوم الرابع.
ووافق الحنفية مذهب مالك وأحمد بالنسبة لهدي التمتع والقران، وأما النذر، والكفارات، والتطوع فيذبح في أي وقت كان.
وحكي عن النخي: أن وقت الذبح يمتد من يوم النحر، إلى آخر ذي الحجة.
وأما مكان الذبح- سواءً كان واجبًا أم تطوعًا- فهو الحرم لقوله تعالى: {هديا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ومَحِلّه هو الحرم فيجوز أن يذبح في أي مكان من الحرم، في مكة ومنى وغيرها من حدود الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مِنى منحرٌ، وكلّ المزدلفة موقفٌ، وكلّ فِجاج مكة طريق ومنحر».

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- تعظيم الهدي والتقرب به إلى الله من شعائر الدين الإسلامي.
2- الهدي والأضحية لا تكون إلاّ من الأنعام الإبل والبقر والغنم.
3- الأفضل في الإبل النحرُ، وفي البقر والغنم الذبحُ.
4- في إراقة الهدي نفع الفقير، والحصولُ على مرتبة التقوى.
5- النسك بالأضاحي فيه إحياء لذكرى الفداء لإسماعيل مع أبيه الخليل عليهما السلام حين أمر بذبح ولده في المنام.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
جعل الباري- تباركت أسماؤه- الهَدْي والأضاحي من شعائر دين الله، يذبحها المسلم ليتقرب بها إلى ربه جلّ وعلا وينال مغفرته ورضوانه، ولتكون تكفيرًا لما جنته يداه من الذنوب والآثام، وليتعودّ على الإخلاص في القول والفعل والعمل، فالمؤمن إنما يذبح على اسم الله، وبأمره جل وعلا، ألاّ يذكر معه اسم غيره، ولا يتوجه إلى أحد سواه، ولا يقصد بعمله غير وجه الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} [الأنعام: 162- 163].
وبهذا التوجه بالنسك لله يتعود المؤمن على الإخلاص، ويكتسب مرتبة التقوى التي أشارت إليها الآية الكريمة {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولَكِن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37].
ولئن كان المشركون يذبحون هذه القرابين للأصنام رجاء النفع ودفع الضر، فإن المؤمن لا يذبح لصنمٍ، ولا وثن، وإنما يتقرب بنسكه إلى الله وحده، مخلصًا له العبادة جل وعلا والإسلام يربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وبين تقوى القلوب، فالتقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر كلها رموزٌ تعبيرية عن التوجه إلى ربّ البيت وطاعته، وهي تحمل في طياتها ذكرى الفداء ذكرى إقدام الخليل إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده إسماعيل امتثالًا لأمر الله حين أمر بذبح ولده في المنام {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فهوى ذكرى لآيةٍ من آيات الله، ومعجزة من معجزاته الباهرة، حين فدى ولد خليله بذبح عظيم، وهي بعد ذلك صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء، ومعونة أهل الحاجة من الضعفاء. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله عز وجل: {هذان خَصْمَانِ}.
يعني: أهل دينين {اختصموا في رَبّهِمْ}، يعني: احتجوا في دين ربهم.
قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في الذين بارزوا يوم بدر، يعني: حمزة، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث من المؤمنين رضي الله عنهم وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة من المشركين، يعني: أن المؤمنين يخاصمون الكفار ويجاهدونهم ويقاتلونهم.
ثم بيَّن مصير كلا الفريقين بقوله: {فالذين كَفَرُواْ}؛ وقال مجاهد: {هذان خَصْمَانِ}، يعني: المؤمنين والكافرين اختصما في البعث، فالكافرون {قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ}، والمؤمنون يدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار، وقال عكرمة: {هذان خَصْمَانِ اختصموا}، أي اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: خلقت للرحمة، وقالت النار: خلقت للعذاب.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {هذان خَصْمَانِ}، وذلك أن اليهود قالوا: كتابنا ونبينا أفضل، وقالت النصارى: ونبينا كان يحيي الموتى وهو أفضل من نبيكم، فنحن أولى بالله؛ وقال المؤمنون: نحن آمنا بالله وبجميع الأنبياء عليهم السلام وبجميع الكتب، وأنتم كفرتم ببعض الرسل وببعض الكتب، فديننا أولى من دينكم، فنزل: {هذان خَصْمَانِ} الآية؛ وقال: {هذان خَصْمَانِ اختصموا}، ولم يقل اختصما، لأن كل واحد من الخصمين جمع.
قرأ ابن كثير {هذان} بتشديد النون، والباقون بالتخفيف.
وفي الآية دليل أن الكفر كله ملة واحدة، لأنه ذكر ستة ملل من الأديان.
ثم قال: {هذان خَصْمَانِ} ثم بيَّن مصير كلا الفريقين، فقال: {فالذين كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ}، أي جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، هيئت لهم ثياب أي قُمُصٌ من نار، ويقال: نحاس.
{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم}؛ قال مقاتل: يضرب الملك رأسَه بالمقمع، فيثقب رأسه. ثم يصب من فوق رؤوسهم الحميم، الذي قد انتهى حَرُّهُ.
{يُصْهَرُ} به، يعني: يذاب به {مَا في بُطُونِهِمْ والجلود}، يعني: تنضج الجلود فتسلخ.
{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}، يضرب بها هامتهم، {كُلَّمَا أرادواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ}، يعني: من الغم والشدة التي أدركته، ضرب بمقمعة من حديد، فيهوي بها كذلك.
فذلك قوله: {غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا}، أي ردوا إليها.
{وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، أي المحرق، يعني: يقال لهم: ذوقوا عذاب النار؛ وهذا الجزاء لأحد الخصمين.
ثم بين جزاء الخصم الآخر، فقال عز وجل: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا}، يعني: يلبسون في الجنة.
{مِنْ أَسَاوِرَ}، يعني: أقلبة.
{مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}.
قرأ نافع وعاصم في رواية حفص {وَلُؤْلُؤًا} بالهمز والنصب، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هكذا إلا أنه لم يهمز الواو الأولى؛ وقرأ الباقون بالهمز والكسر.
فمن قرأ بالكسر، فلأجل {مِنْ} ومن قرأ بالنصب فمعناه يحلون.
{لؤلؤًا} نصب لوقوع الفعل عليه، وهو اختيار أبي عبيد.
ثم قال: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، أي في الجنة.
قوله عز وجل: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول}، يعني: أرشدوا؛ ويقال: دعوا إلى قول التوحيد، لا إله إلا الله، ويقال: {القرآن}.
{وَهُدُواْ إلى صراط الحميد}، يعني: الطريق المحمود في أفعاله وهو دين الإسلام.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} يعني: أهل مكة.