فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} التفث في اللغة الوسخ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظافر، والاستحداد وسائر خاصل الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج، وقيل: التفث أعمال الحج، وقرئ بكسر اللام وإسكانها، وهي لام الأمر وكذلك {وليوفوا} {وليطوّفوا}.
{وَلْيَطَّوَّفُواْ} المراد هنا طواف الإفاظة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب {بالبيت العتيق} أي القديم، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل: العتيق الكريم، كقولهم: فرس عتيق، وقيل أُعتق من الجبابرة أي منع منهم، وقيل: العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط.
{ذلك} هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير: الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه، ثم يقول هذا وقد كان كذا، وأجاز بعضهم الوقف على قوله: {ذلك} في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا، و{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} [الحج: 32] وذلك {وَمَن يُشْرِكْ بالله} [الحج: 31] لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر، والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير، لأن ما بعدها ليس كلامًا أجنبيًّا، مثلها {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ} [الحج: 60] و{ذلكم فَذُوقُوهُ} [الأنفال: 14] في الأنفال، و{هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} في [ص: 55] {حُرُمَاتِ الله} جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة، فيحتمل أن يكون هنا على العموم، أو يكون خاصًا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي التعظيم للحرمات خير {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة {الرجس مِنَ الأوثان} من لبيان الجنس كأنه قال: الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربًا إليها، كما كانت العرب تفعل {قَوْلَ الزور} أي الكذب، وقيل: شهادة الزور.
{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} الآية، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك {سَحِيقٍ} أي بعيد.
{شَعَائِرَ الله} قيل: هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانًا عظامًا غالية الأثمان، وقيل: مواضع الحج، كعرفات ومنى المزدلفة، وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها، وقيل: الشعائر أمور الدين على الاطلاق، وتعظيمها القيام بها وإجلالها {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم، وقال الزمخشري،: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من قال إن شعائر الله هي الهدايا، فالمانع بها شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نحرها. ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} من قال: إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي، و{ثُمَّ} على هذا القول ليست للترتيب في الزمان، لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجُمل، ومن قال: إن الشعائر موضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم: أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال: إن الشعائر أمور الدين على الاطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله: محلها إلى البيت.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي لكل أمة مؤمنة، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم، ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة، والمراد بذلك الذبائح لقوله: {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّبًا إلى الأصنام {فإلهكم إله وَاحِدٌ} في وجه اتصاله بما قبله وجهان: أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدمة خاطبها بقوله: {فإلهكم إله وَاحِدٌ}، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدّم قبلكم، والثاني: أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربًا لغيره {المخبتين} الخاشعين وقيل: المتواضعين، وقيل: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وكذلك قوله بعد ذلك: {وَبَشِّرِ المحسنين} [الحج: 37] واللفظ فيهما أعم من ذلك {وَجِلَتْ} خافت {والبدن} جمع بَدَنة، وهو ما أشعر من الإبل، واختلف هل يقال للبقرة بدنة، وانتصابه بفعل مضمر {مِّن شَعَائِرِ الله} واحدها شعيرة، ومن للتبعيض، واستدل بذلك من قال: إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قيل: الخير هنا المنافع المذكورة قبل، وقيل: الثواب، والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة {صَوَافَّ} معناه: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور، ووزنه فواعل، وواحده صافة {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت إلى الأرض عند موتها، يقال: وجب الحائط وغيره إذا سقط {القانع} معناه السائل، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون: إذا سأل، وقيل: معناه المتعفف عن السؤال، فهو على هذا من قولك: قنع بالكسر إذا رضي بالقليل {والمعتر} المعترض بغير سؤال، ووزنه مفتعل، يقال: اعتررت بالقوم إذا تعرّضت لهم، فالمعنى: أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله، وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء {كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم، وقال الزمخشري: التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم.
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون من الهدايا، فعبر عن هذا المعنى بلفظ: {يَنَالَ} مبالغة وتأكيدًا، لأنه قال: لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما تصل بالتقوى منكم، فإن ذلك هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل لكم الثواب، وقيل: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} كرر للتأكيد {لِتُكَبِّرُواْ الله} قيل: يعني قول الذابح: بسم الله والله أكبر، واللفظ أعم من ذلك. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ولما بين تعالى أنّ الله قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر كيفية اختصامهم بقوله تعالى: {هذان خصمان} أي: المؤمنون خصم والكفار الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف {اختصموا} أي: أوقعوا الخصومة بغاية الجهد {في ربهم} أي: دينه، وروى عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذرّ يقسم قسمًا إن هذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيد بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحين وعن ابن عباس قال لما بارز على وحمزة وعبيدة عتبة وشيبة والوليد قالوا لهم: تكلموا نعرفكم. قال أنا على وهذا حمزة وهذا عببيدة فقالوا: أكفاء كرام فقال على أدعوكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عتبة هلم للمبارزة فبارز على شيبة فلم يلبث أن قتله بارز حمزة عتبة فقتله وبارز عبيدة الوليد فصعق عليه فأتى على فقتله فنزلت وعن قتادة نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم قال المسلمون كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم، وعن ابن عباس أنها نزلت كذلك لَكِن قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم بين يديكم كتابًا، ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنكم تعرفون نبينا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسدًا، فهذه خصومتهم في ربهم، وقيل: المؤمنون والكافرون من أيّ ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم، وقيل: الخصمان الجنة والنار لما روي عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» وعن عكرمة فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقال الجنة خلقني الله لرحمته وهذا القول بعيد عن لاسياق لأنّ الله تعالى ذكر جزاء الخصمين بقوله تعالى: {فالذين كفروا} وهو الفصل بينهم المعني بقوله تعالى: {إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} {قطعت} أي: قدّرت {لهم} على تقادير جثثهم {ثبات من نار} أي: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تفاخرًا وتكبرًا وعن إبراهيم التيمي أنه قال: سبحان من قطع من النار ثيابًا. وعن سعيد بن جبير قال: قطعت من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشدّ حرارة منه. وقال في قوله: {يصبّ} أي: ادخلوها {من فوق رؤوسهم الحميم} قال ابن النحاس يذاب على رؤوسهم ولَكِن المشهور أنه الماء الحار وعن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، والجملة حال من الضمير في لهم، أو خبر ثان وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا في الوصل، فإن وقف على {رؤوسهم} فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم وحمزة على أصله في الوقف على رؤوسهم بتسهيل الهمزة {يصهر} أي: يذاب {به} من شدّة حرارته {ما في بطونهم} من شحم وغيره {والجلود} فيكون أثره في الباطن والظاهر سواء وقال ابن عباس يسقون ماء إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون {ولهم مقامع} جمع مقمعة بكسر ثم فتح وهو عمود حديد وقيل: سوط يضرب به الوجه والرأس ليردّ المضروب عن مراده ردّا عنيفًا ثم نفي المجاز بقوله تعالى: {من حديد} أي: يقمعون بها روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أنّ مقمعًا من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان» {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي: من تلك الثياب أو من النار {من غمّ} أي: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم {أعيدوا فيها} أي: ردّوا إليها بالمقامع، وعن الحسن أنهم يضربون بلهب النار فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفًا، وعن الفضيل بن عياض قال: والله ما طمعوا في الخروج لأنّ الأرجل مقيدة والأيدي موثقة ولَكِن يرفعهم لهبها وتردّهم مقامعها وعن الحسن قال كان عمر يقول أكثروا ذكر النار فإنّ حرّها شديد، وقعرها بعيد، وإنّ مقامعها من حديد {و} قيل لهم {ذوقوا عذاب الحريق} أي: البالغ نهاية الإحراق.
ولما ذكر تعالى ما لأحد الخصمين وهم الكافرون أتبعه ما للآخر وهم المؤمنون، وغير الأسلوب فيه حيث لم يقل والذين آمنوا عطفًا على الذين كفروا وأسند الإدخال فيه إلى الله تعالى وأكده بأنّ إحمادًا لحال المؤمنين وتعظيمًا لشأنهم فقال: {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يدخل الذين آمنوا} بالله ورسوله {وعملوا} تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان {جنات تجري} أي: دائمًا {من تحتها الأنهار} أي: المياه الواسعة أينما أردت من أرضها جري لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار، عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال إنّ في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعده» أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح {يحلون فيها} من حليت المرأة إذا لبست الحلي في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم وقوله تعالى: {من أساور} صفة مفعول محذوف أي: حليًّا من أساور ومن زائدة أو تبعيضية وأساور جمع أسورة وهي جمع سوار.
ولما كان المقصود الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل شوّق إليه بأعلى ما يعرف من الحلية فقال: {من ذهب} وقوله تعالى: {ولؤلؤ} معطوف على أساور لا على ذهب لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضىء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب وقرأ نافع وعاصم بنصب الهمزة الثانية مع التنوين عطفًا على محل {أساور} أو إضمار الناصب مثل {ويؤتون} والباقون بالخفض مع التنوين وأبدل الهمزة الأولى الساكنة حرف مدّ السوسي وأبو بكر هذا حالة الوصل، وأمّا الوقف فحمزة يبدل الأولى واوًا وكذا الثانية تبدل واوًا له أيضًا فيها الرَّوْم وقوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} وهو الإبريسم المحرم لبسه على الرجال المكلفين في الدنيا في مقابلة ثياب الكفار كما كان لبسا الكفار في الدنيا حريرًا ولباس المؤمنين دون ذلك، وقد ورد في الصحيحين عن عبد الله ابن الزبير عن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة».
قال ابن كثير قال عبد الله بن الزبير ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} انتهى وفي الصحيحين أيضًا عن عمر رضي الله عنه أن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة».
قال البقاعي: فيوشك المتشبه بالكفار في لباسهم أن يلحقه الله بهم فلا يموت ملسمًا اه والأولى أن يحمل ذلك على أنه لا يلبسه مع السابقين فإنّ من مات على الإسلام لابد من دخوله الجنة أو على من استحله من الرجال المكلفين {وهدوا} أي: في الدنيا {إلى الطيب من القول} قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله، وقال السدي: هو القران. وقال عطاء: هو قول أهل الجنة الحمد لله الذي صدقنا وعده {وهدوا إلى صراط الحميد} أي طريق الله المحمود ودينه فكان فعلهم حسنًا كما كان قولهم حسنًا فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار، وحلوا فيها أشرف الحلي كما تحلوا في الدنيا بأشرف الطرائق عكس الكفار فإنهم آثروا الفاني لحضوره وأعرضوا عن الباقي مع شرفه لغياته فدخلوا نارًا كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ثم ذكر تعالى بعد ما فصل بين الفريقين حرمة البيت وعظم جرممن صدّ عنه فقال تعالى: {إن الذين كفروا} أي: أوقعوا هذا الفعل الخبيث وصح عطف {ويصدون} وإن كان مضارعًا على الماضي لأنّ المضارع قد لا يلاحظ منه زمان معين م حال أو استقبال بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرّد الاستمرار كما يقال: فلا يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه فالصدود منهم مستمرّ دائم للناس {عن سبيل الله} أي: عن طاعته باقتسامهم طرق مكة يقول بعضهم لمن يمرّ به خرج فينا ساحر وآخر يقول شاعر وآخر يقول كاهن فلا تسمعوا منه فإنه يريد أن يردكم عن دينكم حتى قال من أسلم لم يزالوا بي حتى جعلت في أذني الكُرسف مخافة أن أسمع شيئًا من كلامهم وكانوا يؤذون من أسلم إلى غير ذلك من أعمالهم {و} يصدّون عن {المسجد الحرام} أن تقام شعائره من الطواف بالبيت، والصلاة، والحج، والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا، ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصدّ عنه بقوله تعالى: {الذين جعلناه} بما لنا من العظمة {للناس} أي: كلهم ثم بين جعله لهم بقوله تعالى: {سواء العاكف} أي: المقيم {فيه والباد} أي: الطارىء من البادية وهو الجائي إليه من غربة، وقال بعضهم: يدخل في العاكف الغريب إذا جاءه للتعبد وإن لم يكن من أهله قال الزمخشري: وقد استشهد بهذا أصحاب أبي حنيفة قائلين إنّ المراد بالمسجد الحرام مكة على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها انتهى. وأيضًا هو مذهب ابن عمر وعمر ابن عبد العزيز وإسحاق الحنطي المعروف بابن راهويه قال البيضاويّ وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} الآية. وشرى عمر دارًا ليسجن فيها من غير نكير انتهى ووجه الرازي الضعيف بقوله: لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكر ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من الأوقات من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات انتهى واستدل أيضًا للجواز بقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد «يا رسول الله أتنزل غدًا بدارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» وكان عقيل ورث أبا طالب دون على وجعفر لأنهما كانا مسلمين ولا يورث إلا ما كان الميت مالكًا له قال الروياني: ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه النووي في مجموعه وقال: إنه خلاف الأولى لأنه لم يرد فيه نهي مقصود والأوّل كما قال الزركشيّ هو المنصوص بل اعترض على النوويّ فإنه صرّح بكراه بيع المصحف والشطرنج ولم يرد في ذلك نهي مقصود.