فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ}.
قال مجاهد: صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ، وَالْبِيَعُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ.
وَقال الضَّحَّاكُ: صَلَوَاتٌ كَنَائِسُ الْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلُوتَا.
وَقِيلَ: إنَّ الصَّلَوَاتِ مَوَاضِعُ صَلَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِمَا فِي مَنَازِلِهِمْ.
وَقال بَعْضُهُمْ: لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِيَعٌ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَسَاجِدُ فِي أَيَّامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَقال الْحَسَنُ: يُدْفَعُ عَنْ هَدْمِ مُصَلَّيَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: فِي الآية دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَمَ عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ مِنْ الْكُفَّارِ، وَأَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَائِزٌ لَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوهَا كَمَا يَهْدِمُونَ سَائِرَ دُورِهِمْ.
وَقال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ إذَا صَارَتْ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ: لَمْ يُهْدَمْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ بَيْتِ نَارٍ، وَأَمَا مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ مَا صَارَ مِنْهَا مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَلَا تُهْدَمُ عَلَيْهِمْ وَيُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَجْعَلُوهَا إنْ شَاءُوا بُيُوتًا مَسْكُونَةً.
قوله تعالى: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} قال أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ صِفَةُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ بِقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلَى قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلَى قوله: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَخْبَرَ تعالى أَنَّهُ إنْ مَكَّنَهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ صِفَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ فِي الأرض وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ إمَامَتِهِمْ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تعالى بِأَنَّهُمْ إذَا مُكِّنُوا فِي الأرض قَامُوا بِفُرُوضِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مُكِّنُوا فِي الأرض فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَئِمَّةً قَائِمِينَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ مُنْتَهِينَ عَنْ زَوَاجِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ مُعَاوِيَةُ فِي هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا وَصَفَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلَيْسَ مُعَاوِيَةُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَلْ هُوَ مِنْ الطُّلَقَاءِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
سَبَبُ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ قال أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ، إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَيَهْلَكِن. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. قال أَبُو بَكْرٍ: فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
الثَّانِي: قال مُجَاهِدٌ: الآية مَخْصُوصَةٌ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مُهَاجِرِينَ، وَكَانُوا يُمْنَعُونَ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ.
الثَّالِثُ: قال الضَّحَّاكُ: اسْتَأْذَنَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، فَقِيلَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فَلَمَا هاجر نَزَلَتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وَهذا نَاسِخٌ لِكُلِّ مَا في القرآن مِنْ إعْرَاضٍ وَتَرْكٍ وَصَفْحٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّسْخِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ القران.
المسألة الثَّانِيَةُ:
مَعْنَى {أُذِنَ} أُبِيحَ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِإِبَاحَةِ كُلِّ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ قَبْلَ الشَّرْعِ، لَا إبَاحَةً وَلَا حَظْرًا إلَّا مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبَيَّنَهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ بَعَثَ رَسُولَهُ وَدَعَا قَوْمَهُ، وَلَكِنهُمْ لَمْ يَتَصَرَّفُوا إلَّا بِأَمْرٍ، وَلَا فَعَلُوا إلَّا بِإِذْنٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَا بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحُجَّةِ دَعَا قَوْمَهُ إلَى اللَّهِ دُعَاءً دَائِمًا عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قوله: {وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ فِي الطُّغْيَانِ، وما اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ، وَحِينَ أَعْذَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ، وَأَبَوْا عَنْ الصِّدْقِ أَمَرَ رَسُولَهُ بِالْقِتَالِ، لِيَسْتَخْرِجَ الإقرار بِالْحَقِّ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قرئ يُقَاتِلُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، فَإِنْ كَسَرْت التَّاءَ كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ الْمَاذُونِ لَهُمْ، وَإِنْ فَتَحْتَهَا كَانَ خَبَرًا عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، وَإِنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، فَفِي فَتْحِ التَّاءِ بَيَانُ سَبَبِ الْقِتَالِ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَعَمَّدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْإِذَايَةِ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالنِّكَايَةِ: لَقَدْ خَنَقَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ، فَتَدَارَكَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يقول رَبِّي اللَّهُ} وَقَدْ بَلَغَ بِأَصْحَابِهِ إلَى الْمَوْتِ؛ فَقَدْ قَتَلَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةَ أُمَّ عَمَارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَقَدْ عُذِّبَ بِلَالٌ، وما بَعْدَ هذا إلَّا الِانْتِصَارُ بِالْقِتَالِ.
وَالْأَقْوَى عِنْدِي قراءة كَسْرِ التَّاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وُقُوعِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَمَا فَعَلُوا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ استقرارهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَ الْبُعُوثَ، ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ الدِّمَاءُ. إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالدعاء إلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالصَّفْحِ عَنْ الْجَاهِلِ مُدَّةَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، لِإِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ تعالى عَلَيْهِمْ، وَوَفَاءً بِوَعْدِهِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ بِفَضْلِهِ فِي قوله: {وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فَاسْتَمَرَّ الطُّغْيَانُ وما اسْتَدَلُّوا بِوَاضِحِ الْبُرْهَانِ.
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَنَفَوْهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَهُمْ بَيْنَ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ، وَمُعَذِّبٍ، وَبَيْنَ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ مُغَرَّبٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى، فَلَمَا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللَّهِ، وَرَدُّوا أَمْرَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ، وَعَذَّبُوا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ، وَصَدَّقَ نَبِيَّهُ، وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ، أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقِتَالِ وَالِامْتِنَاعِ وَالِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ؛ فَكَانَتْ أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ لَهُ بِالْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدِّمَاءَ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إلَى قوله: {الأمور}.
أَيْ إنَّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَأَنَّهُمْ إذَا ظَهَرُوا أَقَامُوا الصَّلَاةَ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَعَنْ هذا عَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ إبراهيم الزَّاهِدِ قال: حَدَّثَنَا علي بن مُوسَى، أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} دَلِيلٌ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُلْجَأِ الْمُكْرَهِ إلَى الَّذِي أَلْجَأَهُ وَأَكْرَهَهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ فِعْلِهِ؛ وَلِذَلِكَ قال عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ الْقَتْلُ.
وَرُوِيَ فِي مُخْتَصَرِ الطَّبَرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، إذْ آذَوْهُ بِمَكَّةَ غِيلَةً، فَنَزَلَتْ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فَلَمَا هاجر إلَى الْمَدِينَةِ أَطْلَقَ قِتَالَهُمْ، وَهذا إنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ نَسَخَهُ الْحديث الصَّحِيحُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قال: نَعَمْ فَقَتَلَهُ مَعَ أَصْحَابِهِ غِيلَةً».
وَكَذَلِكَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا إلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَتَلُوهُ غِيلَةً». اهـ.

.قال الماوردي:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بالكفار عن المؤمنين، وبالعصاة عن المطيعين، وبالجهال عن العلماء.
والثاني: يدفع بنور السنة ظلمات البدعة، قاله سهل بن عبد الله.
قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين، وهذا قول ابن جريج.
الثاني: ولولا دفع الله عن الدين بالمجاهدين، وهذا قول ابن زيد.
والثالث: ولولا دفع الله بالنبيين عن المؤمنين، وهذا قول الكلبي.
والرابع: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين، وهذا قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
والخامس: ولولا دفع الله بشهادة الشهود على الحقوق، وهذا قول مجاهد.
والسادس: ولولا دفع الله على النفوس بالفضائل، وهذا قول قطرب.
ويحتمل عندي تأويلًا سابعًا: ولولا دفع الله عن المنكر بالمعروف.
{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} فيه قولان: أحدها: أنها صوامع الرهبان، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أنها مصلى الصابئين، وهو قول قتادة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صَوْمَعَةُ المُؤْمِنِ بَيْتُه» وسميت صومعة لانضمام طرفيها، والمنصمع: المنضم، ومنه أذنٌ صمعاء.
{وَبِيَعٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها بيع النصارى، وهو قول قتادة.
والثاني: أنها كنائس اليهود، وهو قول مجاهد، والبيعة اسم أعجمي مُعَرَّب.
{وَصَلَوَاتٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود يسمونها: صلوتا، فعرب جمعها، فقيل صلوات، وهذا قول الضحاك.
والثاني: معناه: وتركت صلوات، ذكره ابن عيسى.
{وَمَسَاجِدُ} المسلمين، ثم فيه قولان: أحدهما: لهدمها الآن المشركون لولا دفع الله بالمسلمين، وهو معنى قول الضحاك.
والثاني: لهدمت صوامع في أيام شريعة موسى، وبيع في أيام شريعة عيسى ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الزجاج، فكان المراد بهدم كل شريعة، الموضع الذي يعبد الله فيه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كفور}، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر {يدافع} {ولولا دفاع}، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يدفع} {ولولا دفع}، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {يدافع} {ولولا دفع} قال أبو على أجريت {دافع} في هذه القراءة مجرى {دفع} كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء المصدر دفعًا، قال أبو الحسن والأخفش: أكثر الكلام أن الله {يدفع} ويقولون دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر.
قال القاضي أبو محمد: فحسن في الآية: {يدفع} لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن دفاعًا مصدر دفع كحسبت حسابًا، ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله: {أذن} وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع وحفص عن عاصم {أُذن} بضم الألف {يقاتَلون} بفتح التاء، أي في أن يقاتلهم فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحسن والزهري {أَذن} بفتح الألف {يقاتِلون} بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {أَذن} بفتح الألف {يقاتِلون} بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعًا، وهي في مصحف ابن مسعود {أذن للذين يقاتِلون في سبيل الله} بكسر التاء، وفي مصحف أبي {أُذن} بضم الهمزة {للذين قاتلوا} وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة {أَذن} وقوله: {بأنهم ظلموا} معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقص الموادعة، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أن سيكون قتال، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا، ثم وعد تعالى بالنصر في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير}، وقوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه، وقوله: {إلا أن يقولوا ربنا الله} استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو إسحاق، والأول أصوب، وقوله: {ولولا دفاع الله} الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد {ولولا دفاع الله} ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعد الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية، وقالت فرقة {ولولا دفاع الله} العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولابد مدفوعًا من الناس ومدفوعًا عنه فتأمله، وقرأ نافع وابن كثير {لهدمت} مخففة الدال، وقرأ الباقون {لهدّمت} مشددة وهذ تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال: {بروج مشيدة} [النساء: 78] فثقل الياء وقال: {قصر مشيد} [الحج: 45] فخفف لكونه فردًا {وغلقت الأبواب} [يوسف: 43] و{مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50] و{الصومعة} موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع، من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين، قاله قتادة، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري: وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، و{الصلوات} مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد وموضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجميع صلاة، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس {صَلَوات} بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ جعفر بن محمد {صَلْوات} بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني، وقرأ الجحدري فيما روي عنه {وصُلُوات} بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف {وصُلُوب} بضم الصاد واللام والباء على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي {وصُلُوث} بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثًا قالوا وهي مساجد اليهود، وقرأت فرقة {صَلْوات} بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة {صُلُوات} بضم الصاد واللام حكاها ابن جني، وقرأت فرقة صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتًا يدفن فيها النصارى يقال لها {صلوات}، وقرأ عكرمة ومجاهد {صلويثا} بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، والصوامع للرهبان ع وقيل للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقوله: {يذكر فيها} الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقًّا إلى يوم القيامة.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.
قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهدًا على كل من مكنه الله، كل على قدر ما مكن، فأما {الصلاة} و{الزكاة} فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك، و{المعروف} و{المنكر} يعمان الإيمان والكفر دونهما، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من الناس وهذا على أن {الذين} بدل من قوله: {يقاتلون} [الحج: 39] أو على أن {الذين} تابع لـ: {من} في قوله: {من ينصره} [الحج: 40]، وقوله: {ولله عاقبة الأمور} توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن. اهـ.