فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِن الله يدافع عن الذين آمنوا}.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {يدفع} {ولولا دفع الله} بغير ألف، وهذا على مصدر {دَفَع}.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {إِن الله يدافع} بألف {ولولا دفع} بغير ألف، وهذا على مصدر {دافعَ}، والمعنى: يدفع عن الذين آمنوا غائلة المشركين بمنعهم منهم ونصرهم عليهم.
قال الزجاج: والمعنى: إِذا فعلتم هذا وخالفتم الجاهلية فيما يفعلونه من نحرهم وإِشراكهم، فإن الله يدفع عن حزبه.
وال {خَوَّان} فَعّال من الخيانة، والمعنى: أنَّ مَنْ ذكر غير اسم الله، وتقرَّب إِلى الأصنام بذبيحته، فهو خوَّان.
قوله تعالى: {أُذِنَ للَّذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِمُوا} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {أَذِنَ} بفتح الألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: {أُذِنَ} بضمها.
قوله تعالى: {للذين يقاتَلون} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر التاء، وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بفتحها.
قال ابن عباس: «كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أُومر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهي أول آية أُنزلت في القتال».
وقال مجاهد: هم ناس خرجوا من مكة مهاجرين، فأدركهم كفار قريش، فأُذن لهم في قتالهم.
قال الزجاج: معنى الآية: أُذن للذين يقاتَلون أن يقاتِلوا.
{بأنهم ظُلموا} أي: بسبب ما ظُلموا.
ثم وعدهم النصر بقوله: {وإِنَّ الله على نصرهم لقدير} ولا يجوز أن تقرأ بفتح أن هذه من غير خلاف بين أهل اللغة، لأن أن إِذا كانت معها اللام، لم تُفتح أبدًا.
وقوله: {إِلا أن يقولوا ربُّنا الله} معناه: أُخرِجوا لتوحيدهم.
قوله تعالى: {ولولا دَفْعُ الله الناسَ} قد فسرناه في [البقرة: 251].
قوله تعالى: {لهدِّمت} قرأ ابن كثير، ونافع: {لَهُدِمَتْ} خفيفة، والباقون بتشديد الدال.
فأما الصوامع، ففيها قولان.
أحدهما: أنها صوامع الرهبان، قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن زيد.
والثاني: أنها صوامع الصابئين، قاله قتادة، وابن قتيبة.
فأما البِيَع، فهي جمع بِيعة، وهي بِيَع النصارى.
وفي المراد بالصلوات قولان.
أحدهما: مواضع الصلوات.
ثم فيها قولان.
أحدهما: أنها كنائس اليهود، قاله قتادة، والضحاك، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قوله تعالى: {وصلوات} هي كنائس اليهود، وهي بالعبرانية صلوثا.
والثاني: أنها مساجد الصابئين، قاله أبو العالية.
والقول الثاني: أنها الصلوات حقيقة، والمعنى: لولا دفع الله عن المسلمين بالمجاهدين، لانقطعت الصلوات في المساجد، قاله ابن زيد.
فأما المساجد، فقال ابن عباس: هي مساجد المسلمين.
وقال الزجاج: معنى الآية: لولا دفع بعض الناس ببعض لهدّمت في زمن موسى الَكِنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيَع، وفي زمن محمد المساجد.
وفي قوله: {يُذْكَرُ فيها اسم الله} قولان.
أحدهما: أن الَكِناية ترجع إِلى جميع الأماكن المذكورات، قاله الضحاك.
والثاني: إِلى المساجد خاصة، لأن جميع المواضع المذكورة، الغالب فيها الشِّرك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه} أي: من ينصر دينه وشرعه.
قوله تعالى: {الذين إِن مكَّنَّاهم في الأرض} قال الزجاج: هذه صفة ناصِرِيه.
قال المفسرون: التمكين في الأرض: نصرتهم على عدوّهم، والمعروف: لا إِله إِلا الله، والمنكر الشِّرك.
قال الأكثرون: وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القرظي: هم الولاة.
قوله تعالى: {ولله عاقبة الأمور} أي: إِليه مرجعها، لأن كلَّ مُلك يَبْطُل سوى مُلكه. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
رُوي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل مَن أمكنه من الكفار ويغتالَ ويَغْدِر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كفورٍ}.
فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر.
وقد مضى في الأنفال التشديد في الغدر؛ وأنه: «يُنصب للغادر لواء عند استه بقدر غَدْرته يقال هذه غَدْرة فلان».
وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدّوا بقلوبهم.
وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة.
ثم قتل كافرٍ مؤمنًا نادر، وإنْ فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته.
وقرأ نافع {يُدافِع} {ولولا دِفاع}، وقرأ أبو عمرو وابن كَثير {يدفع} {ولولا دَفْعُ}، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدافِعُ} {ولولا دَفْعُ اللهِ}، ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعًا.
وحكى الزهراويّ أن دِفاعا مصدر دفع؛ كحسب حِسابا.
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل: هذا بيان قوله: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي أذن للذين يَصْلُحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف.
وقال الضحاك: اِستأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله {إِن الله لا يُحِبّ كُلَّ خَوّانٍ كفورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}.
وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أوّل آية نزلت في القتال.
قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وروى النَّسائيّ والترمذيّ عن ابن عباس قال: لما أخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم ليهلَكِن؛ فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال. فقال: هذا حديث حسن.
وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البَطِين عن سعيد بن جُبير مرسلًا، وليس فيه: عن ابن عباس.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافًا للمعتزلة؛ لأن قوله: {أذِن} معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة وغير موضع.
وقرئ {أَذن} بفتح الهمزة؛ أي أذن الله. {يُقاتِلون} بكسر التاء أي يقاتلون عدوّهم. وقرئ {يُقاتَلون} بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال: {بِأنهم ظلِموا} أي أخرجوا من ديارهم.
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يقولوا رَبُّنَا اللَّهُ} فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} هذا أحد ما ظلِموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده.
فقوله: {إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} استثناء منقطع؛ أي لَكِن لقولهم ربنا الله؛ قاله سيبويه.
وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان.
و{الذين أُخْرِجُواْ} في موضع خفض بدلًا من قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}.
الثانية: قال ابن العربيّ: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بَيْعة العَقَبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلّ له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدّة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: {وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فاستمرّ الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت مَن اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفَوْهم عن بلادهم؛ فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم مَن صَبَر على الأذى.
فلما عَتَتْ قريش على الله تعالى وردّوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحّده وعبده، وصدّق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذِن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل {أذِن لِلذِين يقاتلون بِأنهم ظُلِموا إلى قوله الأمور}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من المُلجأ المُكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه.
وهذه الآية مثلُ قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [براءة: 40] والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدّم في براءة والحمد لله.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطّلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولَكِنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرّغ أهل الدين للعبادة.
فالجهاد أمر متقدّم في الأمم، وبه صَلَحت الشرائع واجتمعت المتعبَّدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون.
ثم قوّى هذا الأمر في القتال بقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس} الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتُغُلِّب على الحق في كل أمة.
فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدِّين الذي يذبّ عنه.
وأيضًا هذه المواضع التي اتّخذِت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الَكِنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبِيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد.
{لَّهُدِّمَتْ} من هدمت البناء أي نقضته فانهدم.
قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفارَ عن التابعين فمن بعدهم.
وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال ألْيق؛ كما تقدّم.
وقال مجاهد: لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول.
وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظّلمة بعدل الولاة.
وقال أبو الدَّرْداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب.
وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسِّر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولابد تقتضي مدفوعًا من الناس ومدفوعًا عنه، فتأمله.
الخامسة: قال ابن خُوَيْزمَنْداد: تضمّنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبِيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يُتركون أن يحدِثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سَعة ولا ارتفاعًا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها.
ويُنقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والَكِنائس.
وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة.
ولا يجوز أن يمكَّنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهارَ أسباب الكفر.
وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قرئ {لَهَدِمَتْ} بتخفيف الدال وتشديدها.
{صَوَامِعُ} جمع صَوْمعة، وزنها فَوْعلة، وهي بناء مرتفعٌ حديدُ الأعلى؛ يقال: صمّع الثريدة، أي رفع رأسها وحدّده. ورجل أصمع القلب أي حادّ الفِطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعبّاد الصابئين قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين.
والبِيَع جمع بِيعة، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبريّ: قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.