فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.
والتمكين: التوثيق، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم.
وقد تقدم قوله تعالى: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش} في [سورة الأعراف: 10]، وقوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} في [سورة يوسف: 56].
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين: إما بكونه معروفًا للأمة كلها، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة.
وإما بكونه معروفًا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه.
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين.
وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال، ولتكون معرفة المعروف دليلًا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.
{وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} عطف على جملة {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]، أو على جملة {إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40]، والمآل واحد، وهو تحقيق وقوع النصر، لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسمًا.
وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة».
وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانًا حقًّا، ويكفيهم شر أهل السوء، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] الآية. وقوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14- 15] وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} [غافر: 51] الآية. وقوله: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47] وقوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] إلى غير ذلك من الآيات، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو: {إِنَّ الله يَدْفَعُ عَنِ الذين آمنوا} بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد، وعلى هذه القراءة، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء، لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره، وقرأ الباقون: {يدافع} بضم الياء، وفتح الدال بعدها ألف. وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل. وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر. والله جل وعلا يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئًا.
والجواب: هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد، نحو: جاوزت المكان بمعنى جزته، وعاقبت اللص، وسافرت، وعافاك الله، ونحو ذلك، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد، وعليه فقوله: {يدافع} بمعنى: يدفع. كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقال الزمخشري: ومن قرأ {يدافع} فمعناه: يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اه منه، ولا يبعد عندي أن يكون وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين، وإيذائهم، والله جل وعلا يدفع كيدهم عن المؤمنين، فكان دفعه جل وعلا لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة، في قوله: يدافع، وإن كان جل وعلا قادرًا على إهلاكهم، ودفع شرهم عن عبادة المؤمنين، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ** وليغلبن مغالب الغلاب

والعلم عند الله تعالى: ومفعول {يدافع} محذوف فعلى القول بأنه بمعنى: يدفع فقد ذكرنا تقديره، وعلى ما أشرنا إليه أخيرًا فتقدير المفعول: يدافع عنهم أعداءهم، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}. صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بأنه لا يحب كل خوان كفور. والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة، لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل، فلو قلت: زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته، في قتلهم، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولَكِنه لم يبالغ في القتل، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقًا، والكافر مطلقًا.
وقد أوضج جل وعلا ذلك في بعض المواضع، فقال في الخائن: {وَإِمَا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَواء إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] وقال في الكافر: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 33].
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}.
متعلق {أذن} محذوف في هذه الآية الكريمة: أي أذن لهم في القتال بدليل قوله: {يقاتلون} وقد صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {أنه أذن للذين يقاتلون} وهم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودل قوله: {يقاتلون} على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره بدليل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض} [النور: 61 والفتح: 17] الآية. وقوله جل وعلا: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة. وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ولَكِن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار، على الإذن كما هو ظاهر ههذ الآية. وقد قالت جماعة من أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذ أراد أن يشرع أمرًا شاقًا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج، لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت، لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدودًا عند الله تعالى كما قال تعالى: {وما كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم، بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة فَلَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه الملل أيضًا كما قال تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] قالوا: ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجًا، فأذن فيه أولًا من غير إيجاب بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} الآية. ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [البقرة: 190] الآية. وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابًا عامًا جازمًا في آيات من كتابه كقوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36] وقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم: أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالًا غير ما ذكرنا. ولَكِن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجًا. فذكر أولًا بعض معائبها كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] الآية. فكانوا بعد نزولها، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة. وكذلك ما بين الصبح والظهر. وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات. فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريمًا عامًا جازمًا بقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وكذلك الصوم، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقًا على النفوس، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجًا فخير أولًا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فلما استأنست النفوس به في الجملة، أوجبه أيضًا إيجابًا عامًا جازمًا بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:
185] الآية وقال بعض أهل العلم: التدريج في تشرعي الصوم على ثلاةث مراحل كما قبله قالوا: أوبج عليهم أولًا صوما خفيفًا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجًا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفًا، هكذا قالته جماعات من أهل العلم، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} يشير إلى معنيين.
أحدهما: أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبًا: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الحج: 38].
والمعنى الثاني: أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال لقدرته على إهلاكهم بما شاء، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكهم إياهم، ولَكِنه شرع الجهاد لحكم منها اختبار الصادق في إيمائه، وغير الصادق فيه، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله.
كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه، كقوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] وكقوله تعالى: {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب وما كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] الآية وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16] وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور، وتسهيل الشهادة في سبيله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شهداء والله لاَ يُحِبُّ الظالمين وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين} [آل عمران: 140- 141] وقرأ هذا الحرف نافع، وأبو عمرو وعاصم: {أذن} بضم الهمزة وكسر الذال مبينًا للمفعول، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة مبنيًّا للفاعل: أي أذن الله للذين يقاتلون، وقرأ نافع وابن عامر وحفص، عن عاصم: {يقاتلون} بفتح التاء مبنيًّا للمفعول، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيًّا للفاعل.
قوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله}.
تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة براءة في الكلام على قوله: {وما نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74].
قوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى. ثم إن الله جل وعلا بين صفات الذين وعدهم بنصره ليميزهم عن غيرهم فقال مبينًا من أقسم أنه ينصره، لأنه ينصر الله جل وعلا: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} [الحج: 41] الآية وما دلت عليه هذه الآية الكريمة: من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ والذين كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7- 8] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171- 173] وقوله تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] وقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] الآية. إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} [الحج: 41] الآية. دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له، وقوله تعالى: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء، كما قدمناه مرارًا بشواهده العربية. وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين، لأن الله نصرهم على أعدائهم، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكر لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] الآية. والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل. والعلم عند الله تعالى. اهـ.