فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{فكأين} للتكثير، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.
وقرأ أبو عمرو وجماعة {أهلكتها} بتاء المتكلم، والجمهور بنون العظمة {وهي ظالمة} جملة حالية {فهي خاوية على عروشها} تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله: {أو كالذي مر على قرية} وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني {وهي ظالمة فهي خاوية} قلت: الأولى في محل نصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على {أهلَكِناها} وهذا الفعل ليس له محل انتهى.
وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن {فكأين} الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله: {أهلَكِناها} فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر، فيكون قوله: {فهي خاوية} في موضع رفع، لَكِن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب {فكأين} منصوبًا بإضمار فعل على الاشتغال، فتكون الجملة من قوله: {أهلَكِناها} مفسرة لذلك الفعل، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له.
وقرأ الجحدري والحسن وجماعة {معطلة} مخففًا يقال: عطلت البئر وأعطلتها فعطلت، هي بفتح الطاء، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء.
قال الزمخشري: ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلَكِنا، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و{قصر مشيد} أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة {معطلة} عليه انتهى.
{وبئر} {وقصر} معطوفان على {من قرية} و{من قرية} تمييز لكأين، {وكأين} تقتضي التكثير، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لَكِن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ، وينبغي أن يكون {بئر} {وقصر} من حيث عطفا على {من قرية} أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبرًا به عن {كأين} الذي هو القرية من حيث المعنى.
والمراد أهل القرية والبئر والقصر، وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على {عروشها} جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في {بروج مشيدة} لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه، وهذا مفرد وأيضًا {مشيد} فاصلة آية.
وقد عين بعض المفسرين هذه البئر.
فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس.
وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد.
وعن الضحاك وغيره: أن البئر بحضرموت من أرض الشحر، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئًا يسقط فيها.
روي أن صالحًا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب.
وهي بحضرموت، وسميت بذلك لأن صالحًا حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس، وأقاموا بها زمنًا ثم كفروا وعبدوا صنمًا، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان، وقيل: اسمه شريح بن صفوان نبيًّا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم.
وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال: رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}.
ولما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيرًا ما يمرون على كثير منها قال: {أفلم يسيروا} فاحتمل أن يكون حثًّا على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا.
وقرأ مبشر بن عبيد: فيكون بالياء والجمهور بالتاء {فتكون} منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي.
وقيل: على جواب النفي، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على {يسيروا}، وموردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالًا يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق {يعقلون بها} محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و{يعقلون} ما يجب من التوحيد، وكذلك مفعول {يسمعون} أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي.
والضمير في {فإنها} ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في {لا تعمى} ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله {فإنه لا تعمى}.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا يفسره {الأبصار} وفي {تعمى} راجع إليه انتهى.
وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور، وليس هذا واحدًا منها وهو في باب رب وفي باب نعم وبئس، وفي باب الأعمال، وفي باب البدل، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه.
وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضًا وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدًا من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها، وإنما العمى بقلوبهم، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لَكِن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لَكِن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب، ووصفت {القلوب} بالتي {في الصدور}.
قال ابن عطبة مبالغة كقوله: {يقولون بأفواههم} وكما تقول نظرت إليه بعيني.
وقال الزمخشري: الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولَكِنه للسانك الذي بين فكيك فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوًا مني ولَكِن تعمدت به إياه بعينه تعمدًا انتهى.
وقوله ولَكِن تعمّدت به إياه بعينه تعمدًا فصل الضمير وليس من مواضع فصله، والصواب ولَكِن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول: ضربت به إياك، وفصله في مكان اتصاله عجمة، وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر، والتدبير كقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.
والضمير في {ويستعجلونك} لقريش، وكان صلى الله عليه وسلم يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله: {ولن يخلف الله وعده} أي إن ذلك واقع لا محالة، لَكِن لوقوعه أجل لا يتعداه.
وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى.
وقال الزمخشري: أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى.
وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال.
وقيل: {ولن يخلف الله وعده} في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه.
فقيل: في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم.
وفي الحديث الصحيح: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام» فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله.
وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه، والشدة أي {وإن يوما} من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله {كألف سنة} من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم.
وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد {كألف سنة} واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضًا إمهال ألف سنة.
وقال ابن عباس: أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد.
وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة، وأريد العذاب في الدنيا أي {لن يخلف الله وعده} في إنزال العذاب بكم في الدنيا، {وإن يوما} من أيام عذابكم في الآخرة {كألف سنة} من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب.
وقال الزجاج: تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره.
وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت {فكأين} الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو.
وقال الزمخشري: الأولى وقعت بدلًا عن قوله: {فكيف كان نكير} وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله: {لن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة} وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشًا حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهًا على أن قريشًا وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لابد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ}.
منصوبٌ بمضمر يفسِّرُه قوله تعالى: {أهلَكِناها} أي فأهلَكِنا كثيرًا من القُرى بإهلاك أهلهِا. والجملةُ بدلٌ من قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أو مرفوعٌ على الابتداء وأهلَكِنا خبرُهُ أي فكثيرٌ من القُرى أهلَكِناها. وقرئ {أهلكتُها} على وفق قوله تعالى: {فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} {وهي ظالمة} جملة حاليَّةٌ من مفعول أهلَكِنا. وقوله تعالى: {فَهِىَ خَاوِيَةٌ} عطفٌ على أهلَكِناها لا على وهي ظالمةٌ لأنَّها حالٌ والإهلاك ليس في حالِ خوائها فعلى الأوَّلِ لا محلَّ له من الإعراب كالمعطوف عليه وعلى الثَّاني في محلِّ الرَّفعِ لعطفه على الخبرِ والخَوَاءُ إمَا بمعنى السُّقوطِ من خَوَى النَّجمُ إذ سقطَ فالمعنى فهي ساقطةٌ حيطانُها {على عُرُوشِهَا} أي سُقوفِها بأنْ تعطَّل بنيانُها فخرَّتْ سقوفُها ثم تهدَّمتْ حيطانُها فسقطتْ فوق السُّقوفِ.
وإسناد السُّقوطِ على العُروش إليها لتنزيلِ الحيطانِ منزلةَ كلِّ البنيانِ لكونها عمدةً فيه وإمَا بمعنى الخُلوِّ من خَوَى المنزلُ إذا خَلاَ من أهله فالمعنى فهي خاليةٌ مع بقاءِ عُروشها وسلامتها فتكونُ على بمعنى معَ ويجوزأنْ يكون على عُروشها خبرًا بعد خبرٍ أي فهي على عُروشها أي قائمةٌ مشرفةٌ على عروشِها على معنى أنَّ السُّقوفَ سقطتْ إلى الأرض وبقيتْ الحيطانُ قائمةً فهي مشرفة على السُّقوفِ السَّاقطةِ. وإسناد الإشرافِ إلى الكلِّ مع كونِه حال الحيطانِ لما مرَّ آنِفًا {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطفٌ على قريةٍ أي وكم بئرٍ عامرةٍ في البوادي تُركت لا يُستقى منها لهلاكِ أهلِها. وقرئ بالتَّخفيفِ من أعطلَه بمعنى عطَّله {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مرفوعِ البنيانِ أو مجصَّصٍ أخليناهُ عن ساكنيهِ وهذا يؤيِّد كونَ معنى {خاويةٌ على عروشِها} خاليةً مع بقاء عروشِها، وقيل: المراد بالبئرِ بئرٌ بسفحِ جبلٍ بحضْرَمَوت وبالقصرِ قصرٌ مشرفٌ على قُلَّتهِ كانا لقومِ حنظلةَ بنِ صفوانَ من بقايا قومِ صالحٍ فلما قتلُوه أهلكَهم الله تعالى وعطَّلهما.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} حثٌّ لهم أن يُسافروا ليرَوا مصارع المهلَكين فيعتبروا وهمُ وإنْ كانُوا قد سافروا فيها ولَكِنهم حيث لم يُسافروا للاعتبارِ جُعلوا غيرَ مسافرين فحثُّوا على ذلك. والفاءُ لعطفِ ما بعدها على مقدَّرٍ يقتضيه أي أغفِلُوا فلم يسيروا فيها {فَتَكُونَ لَهُمْ} بسبب ما شاهدُوه من موادِّ الاعتبار ومظانِّ الاستبصار {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} يجب أنْ يُعقل من التَّوحيدِ {أَوْ ءَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجبُ أنْ يُسمع من الوحيِ أو من أخبارِ الأُممِ المُهلَكة ممَّن يُجاورهم من النَّاسِ فإنَّهم أعرف منهم بحالهم {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} الضَّميرُ للقصَّةِ أو مبهمٌ يفسِّرُه الأبصارُ. وفي {تعمى} ضمير راجعٌ إليه وقد أقيم الظَّاهرُ مُقامَه {ولَكِن تعمى القلوب التى في الصدور} أي ليس الخللُ في مشاعرِهم وإنَّما هو في عقولهم باتِّباع الهَوَى والانهماكِ في الغَفْلةِ. وذكر {الصُّدورِ} للتَّأكيدِ ونفيِ تَوهُّمِ التَّجوزِ وفضل التَّنبيه على أنَّ العَمَى الحقيقيَّ ليس المتعارف الذي يختصُّ بالبصر، قيل: لمَا نزل قوله تعالى: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى} قال ابنُ أُمِّ مكتومٍ: يا رسولَ الله، أنا في الدُّنيا أعمى أفأكونُ في الآخرةِ أعمى؟
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} كانوا منكرين لمجيءِ العذابِ المتوعَّدِ به أشدَّ الإنكار وإنَّما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزًا له على زعمِهم فحَكَى عنهم ذلك بطريقِ التَّخطئةِ والاستنكارِ فقوله تعالى: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} إمَا جملةٌ حاليَّةٌ جيء بها لبيانِ بُطلانِ إنكارهم لمجيئه في ضمن استعجالِهم به وإظهار خطئِهم فيه كأنَّه قيل: كيف يُنكرون مجيءَ العذابِ الموعود والحالُ أنَّه تعالى لا يُخلف وعدَه أبدًا وقد سبق الوعدُ فلابد من مجيئِه حتمًا أو اعتراضيةٌ مبنيَّةٌ لمَا ذُكر. وقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَا تَعُدُّونَ} جملة مستأنفة إنْ كانت الأولى حاليَّةً ومعطوفةٌ عليها إنْ كانتْ اعتراضيةً سيقت لبيان خطئِهم في الاستعجال المذكورِ ببيان كمال سَعةِ ساحةِ حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطنِهم المستتبع لكون المُدَّة القصيرةِ عنده تعالى مُددًا طوالًا عندهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} ولذلك يرَون مجيئَه بعيدًا ويتَّخذونه ذريعةً إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجالِ به ولا يدرون أنَّ معيار تقدير الأمور كلِّها وقوعًا وأخبارًا ما عنده تعالى من المقدار. وقراءة {يعدّون} على صيغة الغَيبة أي يعده المستعجلون أوفقُ لهذا المعنى وقد جعل الخطابُ في القراءة المشهورة لهم أيضًا بطريقِ الالتفاتِ لَكِن الظَّاهرُ أنَّه للرسولِ عليه السَّلامُ ومن معه من المؤمنينَ، وقيل: المرادُ بوعدِه تعالى ما جعل لهلاك كلِّ أُمَّةٍ من موعد معيَّنٍ وأجل مسمَّى كما في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب}.
فتكون الجملةُ الأولى حالية كانتْ أو اعتراضيةً مبيِّنة لبطلانِ الاستعجالِ به ببيان استحالةِ مجيئِه قبل وقته الموعود والجملةُ الأخيرةُ بيانًا لبطلانه ببيانِ ابتناء على استطالةِ ما هو قصير عنده تعالى على الوجهِ الذي مرَّ بيانُه فلا يكون في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تعرُّضٌ لإنكارهم الذي دسُّوه تحت الاستعجال بل يكون الجوابُ مبنيًّا على ظاهر مقالهم ويكتفى في ردِّ إنكارهم ببيان عاقبةِ من قبلهم من أمثالِهم. هذا وحملُ المستعجَلِ به على عذاب الآخرة وجعلُ اليَّومِ عبارةً عن يوم العذابِ المستطال لشدَّتِه أو عن أيام الآخرةِ الطَّويلةِ حقيقةً أو المُستطالة لشدَّةِ عذابها ممَا لا يُساعده سباقُ النَّظمِ الجليلِ ولا سياقُه فإنَّ كُلًا منهما ناطقٌ بأنَّ المرادَ هو العذابُ الدُّنيويُّ وأن الزَّمانَ الممتدُّ هو الذي مرَّ عليهم قبل حلولِه بطريق الإملالِ لا الزَّمانُ المقارن له ألا يُرَى إلى قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} الخ، فإنه كما سلف من قوله تعالى: {فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} صريحٌ في أنَّ المراد هو الأخذُ العاجلُ الشَّديدُ بعد الإملاء المديدِ أي وكم من أهلِ قريةٍ فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه في الإعراب ورجع الضَّمائرِ والأحكامِ مبالغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمليتُ لهؤلاء حتَّى أنكرُوا مجيء ما وُعدوا من العذابِ واستعجلُوا به استهزاءً برسلِهم كما فعلَ هؤلأَ {وهي ظالمة} جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لكمال حلمِه تعالى ومشعرةٌ بطريق التَّعريضِ بظلم المستعجلينَ أي أمليتُ لها والحالُ أنَّها ظالمةٌ مستوجِبةٌ لتعجيل العقوبةِ كدأبِ هؤلاءِ {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والنَّكالِ بعد طول الإملاءِ والإمهالِ وقوله تعالى: {وإلي المصير} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ومصرِّحٌ بما أفاده ذلك بطريقِ التَّعريضِ من أنَّ مآلَ أمر المُستعجلين أيضًا ما ذُكر من الأخذِ الوبيلِ أي إلى حُكمي مرجعُ الكُلِّ جميعًا لا إلى أحدٍ غيري لا استقلالًا ولا شركة فأفعلُ ممَا يليقُ بأعمالِهم. اهـ.