فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}.
والإنذار نوع من الرحمة، لأنك تخبر بشرٍّ قبل أوانه، ليحذره المنذَر، ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه، ويبتعد عن أسبابه، فحين أُذكّرك بالله، وأنه يأخذ أعداءه أخْذَ عزيز مقتدر، فعليك أنْ تربأ بنفسك عن هذه النهاية، وأن تنجوَ من دواعي الهلاك.
ومعنى {مُّبِينٌ} [الحج: 49] محيط، لا يترك صغيرة ولا كبيرة.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}.
وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذراة، وأثمرتْ فيهم، فآمنوا بالله إلهًا فاعلًا مختارًا له صفات الكمال المطلق، ثم عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت أَلَمَّتْ نفوسهم بشيء من المعاصي، ويكون لهم رزق كريم. والكريم هو البذَّال، كأن الرزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة، كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائمًا بالعطاء، على حَدِّ قول الشاعر:
وَإِنِّي امْرؤٌ لاَ تَسْتَقِرُّ دَرَاهِمِي ** عَلَى الكَفِّ إِلاَّ عَابِرَات سَبِيل

فالرزق نفسه كريم؛ لأنه ممدود لا ينقطع، كما لو أخذت كوب ماء من ماء جارٍ، فإنه يحلُّ محلَّه غيره على الفور، وهكذا.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}.
السعي: عمل يذهب إلى غاية، فإنْ كان قطع مسافة نقول: سِرنْا من كذا إلى كذا، وإنْ كان في قضية علمية فكرية، فيعني: أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية.
والسَّعْيُ لا يُحمد على إطلاقه، ولا يُذَمُّ على إطلاقه، فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح، كالسعي الذي قال الله فيه: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19]، وإنْ كان في شَرٍّ فهو قبيح مذموم، كالسعي الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قوله فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } [البقرة: 204- 205].
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر. وتعني: الوشاية والسّعي بين الناس بالنميمة، تقول: فلان سَعَّاء بين الخلق يعني: بالشر ينقله بين الناس بقصْد الأذى، وهؤلاء إنْ عَلِموا الخير أخفَوْه، وإنْ علموا الشر أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا.
لذلك، نقول عَمَا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس: هذا آفة الآخِذ، يعني: الذي سمع الشرَّ ونقله وسعى به، وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه، حتى لا تنتشر هذه الرذيلة بين الخَلْق.
وقد وشى واشٍ بمهام بن عبد الله السلولي إلى زياد بن أبيه، وكان زياد جبارًا فقال للواشي: أأجمع بينك وبينه؟ فلم يجد الواشي بُدًَّا من أنْ يقول: نعم، فكيف ينكر ما قال؟! ولعله قال في نفسه: لعل الله يقضي أمرًا يُخرِجني من هذه الورطة قبل هذه المواجهة؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأُتِي به، وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار، وأُدخِل همام، فقال له: يا همام بلغني أنك هجوْتني، فقال: كلا، أصلحك الله ما فعلتُ: ولا أنت لذلك بأهْل، فكشف زياد الستار وقال: هذا الرجل أخبرني أنك هجوتني، فنظر ابن همام، فإذا هو صديق له يجالسه، فقال له:
أنتَ امْرؤٌ إمّا ائتمنْتكَ خَالِيًّا ** فَخُنْتَ وَإِمّا قُلْتَ قَوْلًا بِلاَ عِلْمِ

فَأُبْتَ مِنَ الأَمْرِ الذي كَانَ بينَنَا ** بمنزلةٍ بيْنَ الخِيَانَةِ والإثْمِ

يعني: أنت مذموم في كل الأحوال؛ لأنك إما خُنْتَ أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سرًّا فضفضْتُ لك به، وإمَا اختلقْتَ هذا القوْل كذبًا وبلا علم.
وعندها خلع زياد على همام الخُلَع، لَكِنه لم يعاقب الواشي، وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل إليهم، وأن آذانهم قد أخذتْ على ذلك وتعوَّدَتْ عليه.
ومعنى {في آيَاتِنَا} [الحج: 51] والآيات إما كونية، كالشمس والقمر، وإما معجزات، وإما آيات الأحكام، وسَعَوْا فيها يعني: قالوا فيها قِوْلًا باطلًا غير الحق، كما يسعى الواشي بالباطل بين الناس، فهؤلاء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا: من صنع الطبيعة.
وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيٍّ قالوا: سحر وأساطير الأولين، وإنْ سمعوا آيات الأحكام تُتْلى قالوا: شعر. وهم بذلك كله يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل الإيمان إيمانهم، ويصدُّوا عن سبيل الله.
ومعنى {مُعَاجِزِينَ} [الحج: 51] جمع لاسم الفاعل معاجز مثل: مقاتل، وهي من عَاجَزَ غير عجز عن كذا يعني: لم يقدر عليه، عَاجَزَ فلانٌ فلانًا يعني باراه أيُّهما يعجز قبل الآخر، فعاجزه مثل باراه ليثبتَ أنه الأفضل، ومثل: سابقه ونافسه.
إذن: فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة، وكلمة نافسه الأصل فيها من النفَس الذي نأخذه في الشهيق، ونُخرِجه في الزفير، والذي به يتأكسد الدم، وتستمر حركة الإنسان، فإن امتنع التنفس يموت؛ لأن الإنسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء، لَكِنه لا يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد.
وقد حدثتْ هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي الله عنهما: قال عمر للعباس: أتُنافسني في الماء، يعني: نغطس تحت الماء وننظر أيهما يُعجِز الآخر، ويتحمل عملية توقُّف النفَس، ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها الإنسان إنْ كتم نفسَه وهو في جَوِّ الهواء، أما إنْ نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء، فكيف سيحتال على هذه المسألة؟ وتحت الماء لا يكون إلا الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته، ومثل هذه المنافسة أيهما أفسح صَدْرًا من الآخر، وأيُّهما أكثر تحمُّلًا تحت الماء. هذه هي المعاجزة.
فمعنى {سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } [الحج: 51] أي: يظنون أنهم قادرون أن يُعجزونا، فحين نأتي إليهم بكلام بليغ مُعْجز يختلقون كلامًا فارغًا ليعجزونا به، فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ يطعنوا بكلامهم على كلام الله؟
ثم يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة: {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} [الحج: 51] فهذا حُكْم الله فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق، فمَنْ ذَا الذي يُعجِز الله؟. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَإِن يُكَذّبُوكَ} إلخ.
هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له متضمنة للوعد له بإهلاك المكذبين له كما أهلك سبحانه المكذبين لمن كان قبله.
وفيه إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على قومه والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك، وقد تقدّم ذكر هذه الأمم وما كان منهم ومن أنبيائهم وكيف كانت عاقبتهم.
وإنما غير النظم في قوله: {وَكُذّبَ موسى} فجاء بالفعل مبنيًّا للمفعول؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه وإنما كذّبه غيرهم من القبط {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أي: أخرت عنهم العقوبة وأمهلتهم والفاء لترتيب الإمهال على التكذيب {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أخذت كلّ فريق من المكذبين بالعذاب بعد انقضاء مدّة الإمهال {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} هذا الاستفهام للتقرير، أي فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتغيير ما كانوا فيه من النعم وإهلاكهم، والنكير اسم من الإنكار.
قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار.
قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر.
ثم ذكر سبحانه كيف عذّب أهل القرى المكذبة فقال: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها} أي أهلَكِنا أهلها، وقد تقدّم الكلام على هذا التركيب في آل عمران، وقرئ: {أهلكتها}، وجملة: {وَهِيَ ظالمة} حالية، وجملة: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} عطف على {أهلَكِناها}، لا على {ظالمة} لأنها حالية، والعذاب ليس في حال الظلم، والمراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها.
والخواء: بمعنى السقوط فهي ساقطة {على عُرُوشِهَا} أي على سقوفها، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدّمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في البقرة {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} معطوف على قرية، والمعنى: وكم من أهل قرية، ومن أهل بئر معطلة، هكذا قال الزجاج.
وقال الفراء: إنه معطوف على عروشها.
والمراد بالمعطلة: المتروكة، وقيل: الخالية عن أهلها لهلاكهم.
وقيل: الغائرة.
وقيل معطلة من الدلاء والأرشية، والقصر المشيد هو: المرفوع البنيان، كذا قال قتادة والضحاك، ويدلّ عليه قول عديّ بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كِلْ ** سًا فللطير في ذراه وكور

شاده: أي رفعه.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: المراد بالمشيد: المجصص، مأخوذ من الشيد، وهو الجص، ومنه قول الراجز:
لا تحسبني وإن كنت أمرأ غمرا ** كحية الماء بين الطين والشيد

وقيل: المشيد: الحصين قاله الكلبيّ.
قال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد: بالكسر: كلّ شيء طليت به الحائط من جصّ أو بلاط، وبالفتح المصدر، تقول: شاده يشيده جصصه، والمشيد بالتشديد: المطوّل.
قال الكسائي: المشِيد للواحد من قوله تعالى: {وقصر مشيد} والمُشيِّد للجمع، من قوله تعالى: {في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] والمعنى المعنيّ: وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة؟ ومعنى التعطيل في القصر هو: أنه معطل من أهله، أو من آلاته، أو نحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضر موت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقرّ الريح شيئًا سقط فيها إلا أخرجته، وأصحاب القصر ملوك الحضر، وأصحاب البئر ملوك البدو.
حكى الثعلبيّ وغيره: أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال لها: حضوراء، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح فمات صالح، فسمي المكان حضر موت؛ لأن صالحًا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلًا، ثم ذكر قصة طويلة، وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شدّاد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضًا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدًا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يسمع فيه من عزيف الجنّ والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك، وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة.
قال: وقيل: إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدّم في سورة الأنبياء في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11]. فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم. انتهى.
ثم أنكر سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلًا: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} حثًّا لهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا، فلهذا أنكر عليهم، كما في قوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138].
ومعنى {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}: أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل. كما أن الآذان محل السمع.
وقيل: إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجًا عنه.
وقد اختلف علماء المعقول في محل العقل وماهيته اختلافًا كثيرًا لا حاجة إلى التطويل بذكره {أو آذان يسمعون بها} أي ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} قال الفراء: الهاء عماد يجوز أن يقال: فإنه، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة، أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة {لا تعمي الأبصار} أي أبصار العيون {ولَكِن تعمى القلوب التي فِي الصدور} أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار.
قال الفراء والزجاج: إن قوله: {التي في الصدور} من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله: {عشرة كاملة} [البقرة: 196]، {يقولون بأفواههم} [المائدة: 41]، {يطير بجناحيه} [الأنعام: 38].
ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} لأنهم كانوا منكرين لمجيئه أشدّ إنكار، فاستعجالهم له، هو على طريقة الاستهزاء والسخرية، وكأنهم كانوا يقولون ذلك عند سماعهم لما تقوله الأنبياء عن الله سبحانه من الوعد منه عز وجل بوقوعه عليهم وحلوله بهم، ولهذا قال: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} قال الفراء: في هذه الآية وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.