فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه: أحدها: أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضًا خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها: ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها: يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملًا فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها: معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلًا مقربًا إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] وكقوله: {وَإِمَا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ}، والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة:
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبيًّا إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكًا وما أرسلنا إليهم نبيًّا إلا منهم، وما أرسلنا نبيًّا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لَكِني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكًا بل أرسل رجالًا فقد وسوس الشيطان إليهم، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة، واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
البحث الأول: كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
أما قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القران وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة، ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولًا ثم في حق المؤمنين ثانيًّا، أما في حق الكفار فهو قوله: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول صلى الله عليه وسلم الاشتباه في القرآن سهوًا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابًا.
أما قوله: {لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم قال: {فِتْنَةً لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ولم خصهم بذلك الجواب: لأنهم مع كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر، وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر.
السؤال الثاني: ما مرض القلب الجواب: أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال: {في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرًا وباطنًا.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم، فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء، وأما في حق المؤمنين فهو قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} وفي الَكِناية ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان، عن الكلبي.
وثانيها: أنه الحق أي القرآن عن مقاتل وثالثها: أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق، أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقًّا، وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صوابًا فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن، وكل ميسر لما خلق له، {وإن الله لهاد الذين آمنوا} إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرئ {لهاد الذين آمنوا} بالتنوين، ولما بين سبحانه حال الكافرين أولًا ثم حال المؤمنين ثانيًّا عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي من القرآن أو من الرسول، وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه.
أما قوله تعالى: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء.
واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان: أحدهما: أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة: أحدها: أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن وثانيها: أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز وثالثها: هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشيء مطرًا ولم تلقح شجرًا ورابعها: أنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني: أنه يوم القيامة، وإنما وصف بالعقيم لوجوه: أحدها: أنهم لا يرون فيه خيرًا وثانيها: أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة وثالثها: أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه، وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} ويكون المراد يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر، فإن قيل لما ذكر الساعة.
فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار؛ قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكرارًا لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته} الآية.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الآية أَنَّهُ لَمَا تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ، فَقال قَائِلُونَ: لَمَا تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ السُّورَةَ وَذَكَرَ فِيهَا الْأَصْنَامَ عَلِمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ، فَقال قَائِلٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقال سَائِرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْهُ: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَدَحَ آلِهَتَنَا، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تِلَاوَتِهِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قولهمْ وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْلُهُ وَإِنَّمَا تَلَاهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَسَمَّى الَّذِي أَلْقَى ذَلِكَ فِي حَالِ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْطَانًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ كَمَا قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} وَالشَّيْطَانُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَقال ذَلِكَ عِنْدَ تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِثْلُ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَمَا حَكَى اللَّهُ تعالى عَنْهُ بِقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقال لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقال إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} وَإِنَّمَا قال ذَلِكَ إبْلِيسُ حِينَ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ، وَكَمَا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ حِينَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ جَائِزًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِضَرْبٍ مِنْ التَّدْبِيرِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي قال ذَلِكَ شَيْطَانًا فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالهُ.
وَقال بَعْضُهُمْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ الَّذِي لَا يَعْرَى مِنْهُ بَشَرٌ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُنَبِّهَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يُشْغِلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا يقول، فَيقرأ غَلَطًا فِي الْقَصَصِ الْمُتَشَابِهَةِ نَحْوَ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ فِي مَوَاضِعَ من القرآن مُخْتَلِفَةَ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ رُبَّمَا قالوا قَدْ رَجَعَ عَنْ بَعْضِ مَا قرأ وَكَانَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ السَّهْوِ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ.
فَأَمَا الْغَلَطُ فِي قراءة تِلْكَ الْغَرَانِيقُ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْغَلَطِ عَلَى بَعْضِ القران بِإِنْشَادِ شِعْرٍ فِي أَضْعَافِ التِّلَاوَةِ عَلَى أَنَّهُ من القرآن.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمَا تَلَا مَا فِيهِ ذِكْرُ الْأَصْنَامِ قال لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا هي عِنْدَكُمْ كَالْغَرَانِيقِ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى فِي قَوْلِكُمْ. عَلَى جِهَةِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، أَظْهَرُهَا وما فِيهَا ظَاهِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ، فَتَمَنَّى يَوْمَئِذٍ أَلَّا يَأْتِيَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَالنَّجْمِ إذَا هوى} فَقرأ حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى}.
أَلْقَى الشَّيْطَانُ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى.
فَتَكَلَّمَ بِهَا، ثُمَّ مَضَى بِقراءة السُّورَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ سَجَدَ فِي آخَرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ جَمِيعًا مَعَهُ، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إلَى جَبْهَتِهِ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمَا أَمْسَى أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ قال: مَا جِئْتُك بِهَاتَيْنِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أوحينا إلَيْك لِتَفْترى عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاِتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا} فَمَا زَالَ مَغْمُوما مَهْمُوما حَتَّى نَزَلَتْ: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته}.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ جِبْرِيلَ قال لَهُ: لَقَدْ تَلَوْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا لَمْ آتِك بِهِ، فَحَزِنَ وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَلَا نَبِيٌّ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَأَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ، إلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أمنيته كَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
اعْلَمُوا أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتكُمْ بِنُورِ هُدَاه، وَيَسَّرَ لَكُمْ مَقْصِدَ التَّوْحِيدِ وَمَغْزَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الآية فِي فَصْلِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ بِمَا نَرْجُو بِهِ عِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فِي مَقَامِ الزُّلْفَى، وَنَحْنُ الْآنَ نَجْلُو بِتِلْكَ الْفُصُولِ الْغَمَاءَ، وَنُرَقِّيكُمْ بِهَا عَنْ حَضِيضِ الدَّهْمَاءِ، إلَى بِقَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي عَشْرِ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ إذَا أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكُ بِوَحْيِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ، وَلَا تَبَيَّنَتْ النُّبُوَّةُ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ الْيَقِينُ، وَاسْتَقَامَ سَبِيلُ الدِّينِ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ إذَا شَافَهَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ لَا يَدْرِي أَمَلُك هُوَ أَمْ إنْسَانٌ، أَمْ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَلْقَتْ عَلَيْهِ كَلَامًا، وَبَلَّغَتْ إلَيْهِ قَوْلًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يقول: إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ، فَهَذِهِ سَبِيلٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَحَالَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ، لابد مِنْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَنْقُولِ وَلَا فِي الْمَعْقُولِ فِيهَا، وَلَوْ جَازَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِيهَا، أَوْ يَتَشَبَّهَ بِهَا مَا أَمِنَاهُ عَلَى آيَةٍ، وَلَا عَرَفْنَا مِنْهُ بَاطِلًا مِنْ حَقِيقَةٍ؛فَارْتَفَعَ بِهذا الْفَصْلِ اللَّبْسُ، وَصَحَّ الْيَقِينُ فِي النَّفْسِ..
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ رَسُولَهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَآمَنَهُ مِنْ الشِّرْكِ، وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِهِمْ فِيهِ، وَإِطْبَاقِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ، أَوْ يَشُكَّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ؛ بَلْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي فِي الْأَفْعَالِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكُفْرِ فِي الِاعْتِقَادِ؛ بَلْ هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِعْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَّفَ رَسُولَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَصَّرَهُ بِأَدِلَّتِهِ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَعَرَّفَهُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ إخْوَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، وَنَحْنُ حُثَالَةُ أُمَّتِهِ؛ وَمَنْ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَارِفٍ بِنَبِيِّهِ وَلَا بِرَبِّهِ.
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: تَأَمَّلُوا فَتَحَ اللَّهُ أَغْلَاقَ النَّظَرِ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ هُمْ بِجَهْلِهِمْ أَعْدَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَاوَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَا جَلَسَ مَعَ قُرَيْشٍ تَمَنَّى أَلَّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَحْيٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَنْ مَعَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آثَرَ وَصْلَ قَوْمِهِ عَلَى وَصْلِ رَبِّهِ، وَأراد أَلَا يَقْطَعَ أُنْسَهُ بِهِمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ حَيَاةَ جَسَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَأُنْسَ وَحْشَتِهِ، وَغَايَةَ أمنيته.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ؛ فَإِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فَيُؤْثِرُ عَلَى هذا مُجَالَسَةَ الأعداء.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ تِلْكَ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهُ مِنْهُ؛ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَكِ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ بِالْكُفْرِ، حَتَّى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَأَنَا مِنْ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَةً، وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِمَا وَفَّقَنِي اللَّهُ لَهُ، وَآتَانِي مِنْ عِلْمِهِ، لَا يَخْفَى على وَعَلَيْكُمْ أَنَّ هذا كُفْرٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَلَوْ قالهُ أَحَدٌ لَكُمْ لَتَبَادَرَ الْكُلُّ إلَيْهِ قَبْلَ التَّفْكِيرِ بِالْإنكار وَالرَّدْعِ، وَالتَّثْرِيبِ وَالتَّشْنِيعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْهَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَالَ الْقَوْلِ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ قوله، وَلَا يَتَفَطَّنُ لِصِفَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهَا تُرْتَجَى.
وَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْصُرُ وَلَا تَشْفَعُ، بِهذا كَانَ يَأْتِيه جِبْرِيلُ الصَّبَاحُ وَالْمَسَاءُ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى التَّوْحِيدُ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ، فَكَيْفَ يَخْفَى هذا عَلَى الرَّسُولِ؟ ثُمَّ لَمْ يَكْفِ هذا حَتَّى قالوا: إنَّ جِبْرِيلَ لَمَا عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُعَارِضَهُ فِيمَا أَلْقَى إلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَّرَهَا عَلَيْهِ جَاهِلًا بِهَا تعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَقال لَهُ: مَا جِئْتُك بِهَذِهِ.