فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَحَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنْ الَّذِي أوحينا إلَيْكَ لِتَفْترى عَلَيْنَا غَيْرَهُ}، فَيَا لِلَّهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْعَالَمِينَ مِنْ شَيْخٍ فَاسِدٍ وَسُوسٍ هَامِدٍ، لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الآية نَافِيَةً لِمَا زَعَمُوا، مُبْطِلَةً لِمَا رَوَوْا وَتَقَوَّلُوا، وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِيِّ: كَادَ يَكُونُ كَذَا: مَعْنَاهُ قَارَبَ وَلَمْ يَكُنْ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الآية أَنَّهُمْ قَارَبُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، ثُمَّ قال: لِتَفْترى عَلَيْنَا غَيْرَهُ.
وَهُوَ: الْمَقَامُ السَّابِعُ: وَلَمْ يَفْتَرِ، وَلَوْ فَتَنُوك وَافتريت لَاتَّخَذُوك خَلِيلًا، فَلَمْ تُفْتَتَنْ وَلَا افتريت، وَلَا عَدُّوك خَلِيلًا.
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك} وَهُوَ:
الْمَقَامُ الثَّامِنُ: {لَقَدْ كِدْت تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى أَنَّهُ ثَبَّتَهُ، وَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالْمَعْرِفَةَ فِي قَلْبِهِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ سُرَادِقَ الْعِصْمَةِ، وَآوَاهُ فِي كَنَفِ الْحُرْمَةِ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِصْمَتِهِ لَحْظَةً لَأَلْمَمَت بِمَا رَامُوهُ، وَلَكِنا أَمَرْنَا عَلَيْك بِالْمُحَافَظَةِ، وَأَشْرَقْنَا بِنُورِ الْهِدَايَةِ فُؤَادَك، فَاسْتَبْصِرْ وَأَزِحْ عَنْك الْبَاطِلَ، وَادْحَرْ.
فَهَذِهِ الآية نَصٌّ فِي عِصْمَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتَأَوَّلُهَا أَحَدٌ؟ عَدُّوا عَمَا نُسِبَ مِنْ الْبَاطِلِ إلَيْهِ.
الْمَقَامُ التَّاسِعُ: قوله: فَمَا زَالَ مَهْمُوما حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية.
فَأَمَا غَمُّهُ وَحُزْنُهُ فَبِأَنْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِمَا تَمَكَّنَ، مِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ.
الْمَقَامُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذِهِ الآية نَصٌّ فِي غَرَضِنَا، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، أَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَا نُسِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ قالهُ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قال تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته} فَأَخْبَرَ اللَّهُ تعالى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ فِي رُسُلِهِ وَسِيرَتِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ إذَا قالوا عَنْ اللَّهِ قَوْلًا زَادَ الشَّيْطَانُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ الْمَعَاصِي، كَمَا تَقُولُ: أَلْقَيْت فِي الدَّارِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْعِكْمِ كَذَا، وَأَلْقَيْت فِي الْكِيسِ كَذَا.
فَهذا نَصٌّ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ زَادَ فِي الَّذِي قالهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا أَنَّ النَّبِيَّ قالهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قرأ تَلَا قرأنًا مُقَطَّعًا، وَسَكَتَ فِي مَقَاطِعِ الْآيِ سُكُوتًا مُحَصَّلًا، وَكَذَلِكَ كَانَ حديثهُ مُتَرَسِّلًا مُتَأَنِّيًّا، فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ السَّكَتَاتِ الَّتِي بَيْنَ قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} وَبَيْنَ قوله تعالى: {أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}، فَقال يُحَاكِي صَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِقَةُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى.
فَأَمَا الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ وَفَسَادِ السَّرِيرَةِ فَتَلَوْهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَسَبُوهَا بِجَهْلِهِمْ إلَيْهِ، حَتَّى سَجَدُوا مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّهُ مَعَهُمْ، وَعَلِمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَنَّ القران حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَرْفُضُونَ غَيْرَهُ، وَتُجِيبُ قُلُوبُهُمْ إلَى الْحَقِّ، وَتَنْفِرُ عَنْ الْبَاطِلِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ وَمِحْنَةٌ.
فَأَيْنَ هذا مِنْ قولهمْ، وَلَيْسَ في القرآن إلَّا غَايَةُ الْبَيَانِ بِصِيَانَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ عَنْ الشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ.
وَقَدْ أَوْعَدْنَا إلَيْكُمْ تَوْصِيَةً أَنْ تَجْعَلُوا القران إمَامَكُمْ، وَحُرُوفَهُ أَمَامَكُمْ، فَلَا تَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلَا تَرْبِطُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وما هدي لِهذا إلَّا الطَّبَرِيُّ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَصَفَاءِ فِكْرِهِ، وَسَعَةِ بَاعِهِ فِي الْعِلْمِ، وَشِدَّةِ سَاعِدِهِ وَذِرَاعِهِ فِي النَّظَرِ؛ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هذا الْغَرَضِ، وَصَوَّبَ عَلَى هذا الْمَرْمَى فَقَرْطَسَ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ كُلِّهَا بَاطِلَةٌ، لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَمَا رَوَاهَا أَحَدٌ وَلَا سَطَرَهَا، وَلَكِنهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلآَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني أنه إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في نفسه، قاله الكلبي.
الثاني: إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته، قاله قتادة ومجاهد، قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله ** وآخره لاقى حمام المقادِرِ

{مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } فيه قولان:
أحدهما: أن الرسول والنبي واحد، ولا فرق بين الرسول والنبي، وإنما جمع بينهما لأن الأنبياء تخص البشر، والرسل تعم الملائكة والبشر.
والقول الثاني: أنهما مختلفان، وأن الرسول أعلى منزلة من النبي.
واختلف قائل هذا في الفرق بين الرسول والنبي على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الرسول هو الذي تتنزل عليه الملائكة بالوحي، والنبي يوحى إليه في نومه.
والثاني: أن الرسول هو المبعوث إلى أُمَّةٍ، والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة، قاله قطرب.
والثالث: أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام، والنبي هو الذي يحفظ شريعة الله، قاله الجاحظ.
{فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يرفعه. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياته} أي يثبتها، واختلف أهل التأويل فيما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك على أربعة أقاويل:
أحدها: أنه ألقاه الشيطان على لسانه فقرأه ساهيًّا.
الثاني: أنه كان ناعسًا فألقاه الشيطان على لسانه فقرأه في نعاسه قاله قتادة.
الثالث: أن بعض المنافقين تلاه عن إغواء الشيطان فخيل للناس أنه من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عيسى.
الرابع: إنما قال: هي كالغرانيق العلا- يعني الملائكة- وأن شفاعتهم لترتجى، أي في قولكم، قاله الحسن.
سبب نزول هذه الآية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة النجم. قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} [النجم: 19- 20] ألقى الشيطان على لسانه أولئك الغرانيق العلا. وأن شفاعتهن لترتجى ثم ختم السورة وسجد. وسجد معه المسلمون والمشركون ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود، ورضي بذلك كفار قريش، وسمع بذلك من هاجر لأرض الحبشة. فأنكر جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأه، وشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته}.
قوله تعالى: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} فيه وجهان:
أولهما: محنة.
الثاني: اختبارًا. {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي نفاق.
{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} يعني المشركين. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: لفي ضلال طويل، قاله السدي.
الثاني: لفي فراق للحق بعيد إلى يوم القيامة، قاله يحيى بن سلام.
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} يعني في شك {مِّنْهُ} من القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فيه وجهان: أحدهما: ساعة القيامة على من يقوم عليه من المشركين، قاله الحسن.
الثاني: ساعة موتهم.
{أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: يوم القيامة، قاله عكرمة، والضحاك.
الثاني: يوم بدر، قاله مجاهد، وقتادة.
وفي العقيم وجهان:
أحدهما: أنه الشديد، قاله الحسن.
الثاني: أنه الذي ليس له مثيل ولا عديل، قال يحيى بن سلام: لقتال الملائكة فيه.
ويحتمل ثالثًا: أن يكون العقيم هو الذي يجدب الأرض ويقطع النسل. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {وما أرسلنا} الآية تسليه للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أُمنية النبي عليه السلام، و{تمنى} معناه المشهور أراد وأحب، وقالت فرقة هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا: فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله: {أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20] القى الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن حلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا، قال البخاري: هو أمية بن خلف، وقال بعض الناس: هو الوليد بن المغيرة، وقال بعض الناس: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمدًا ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا، وقالت فرقة {تمنى} معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر: الطويل:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

ومنه قول الآخر: الطويل:
تمنى داود الزبور على رسل

وتأولوا قوله تعالى: {إلا أماني} أي إلا تلاوة، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب إلقاء الشيطان في تلاوة النبي عليه السلام ما تقدم آنفًا من ذكر الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو الألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشطيان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدارسه سورة النجم فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل لم آتك بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية: {وما أرسلنا من قبلك من رسول}، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20] وصوب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التَبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع و{تمنى} على هذا التأويل بمعنى تلا ولابد، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
و الرسول أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي، والنسخ في هذه الآية الإذهاب، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة، وفي بعضها تلك الغرانيق، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر:
أهلا بصائدة الغرانق

وقوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان} الآية، اللام في قوله: {ليجعل} متعلقة بقوله: {فينسخ الله} والفتنة الامتحان والاختبار، و{الذين في قلوبهم مرض} هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، والشقاق البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، و{بعيد}، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، و{الذين أوتوا العلم} هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في {أنه} عائد على القران وتخبت معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبث وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة {لهاد} بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: {لهادي} بياء، وقرأت فرقة {لهادٍ} بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}.
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}.
المرية الشك، والضمير في قوله: {منه} قالت فرقة هو عائد على القران، وقالت فرقة: على محمد عليه السلام، وقالت فرقة: على ما {ألقى الشيطان} [الحج: 52]، وقال سعيد بن جبير أيضًا على سجود النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، و{الساعة}، قالت فرقة: أراد يوم القيامة، واليوم العقيم، يوم بدر، وقالت فرقة: {الساعة}، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه، واليوم العقيم، يوم القيامة، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم بـ: {أو} ومن جعل {الساعة} واليوم العقيم، يوم القيامة، فقد أفسد رتبة {أو}، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقميًّا لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كأنها نتائج لمجيء وأحد إثر واحد، فكأن أخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول} الآية.
قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى بلغ قوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20]، فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى؛ فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟ تلوتَ على الناس مالم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، فنزلت هذه الآية تطييبًا لقلبه، وإِعلامًا له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا.
قال العلماء المحققون: وهذا لا يصح، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عز وجل: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه} [فصِّلت: 26].
قال: وفي معنى {تمنى} قولان.
أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ** وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ

وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ** تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ