فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عطية: بينسخ.
وقال غيرهما: بألقى، والظاهر أنها للتعليل.
وقيل: هي لام العاقبة و{ما} في {ما يلقي} الظاهر أنها بمعنى الذي، وجوَّز أن تكون مصدرية.
والفتنة: الابتلاء والاختبار.
والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار.
وقال الزمخشري: المنافقون والشاكون {والقاسية قلوبهم} خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة.
وقال الزمخشري: المشركون المكذبون {وإن الظالمين} يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر، قضاء عليهم بالظلم.
والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه.
والضمير في: {أنه} قال ابن عطية: عائد على القران {والذين أوتوا العلم} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود الضمير إليه {فتخبت} أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قلبه مرض وقسا قلبه.
وقرأ الجمهور {لهاد الذين آمنوا} الإضافة، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين {الهاد}.
المرية: الشك.
والضمير في {منه} قيل: عائد على القران.
وقيل: على الرسول.
وقيل: ما ألقى الشيطان، ولما ذكر حال الكافرين أولًا ثم حال المؤمنين ثانيًّا عاد إلى شرح حال الكافرين، والظاهر أن {الساعة} يوم القيامة.
قيل: واليوم العقيم يوم بدر.
وقيل: ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر، واليوم العقيم يوم القيامة.
وقال الزمخشري: اليوم العقيم يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز.
وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشيء مطرًا ولم تلقح شجرًا.
وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
وعن الضحاك: إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و{يوم عقيم} يوم القيامة كأنه قيل {حتى تأتيهم الساعة} أو يأتيهم عذابها فوضع {يوم عقيم} موضع الضمير انتهى.
وقال ابن عطية: وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيمًا لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد انتهى.
و{حتى} غاية لاستمرار مريتهم، فالمعنى {حتى تأتيهم الساعة} {أو عذاب يوم عقيم} فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عيانًا. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أمنيته } الآية.
قلت: قال القاضي أبو الفضل عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة والنجم وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} [النجم: 19، 20] قال: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى، وإنَّ شَفَاعَتَهَا لترتجى». قال عياض: اعلم أكرمك اللّه أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ رحمه اللّه تعالى حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه؛ وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ، قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ؛ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مُصَنِّفٌ مشهور؛ بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السَّبَبَ ولا غيره.
قال ع *: وحدثني أَبي رحمه اللّه تعالى أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أُسْمِعَهُ الكُفَّارُ عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} [النجم: 19، 20].
وقَرَّبَ صوته من صوتِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعادنا اللّه من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحوَ هذا، وقال: إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: {تمنى} أي: تلا ومنه قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]. أي: تلاوة، {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي: يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ: وقال ابن عباس: {إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أمنيته}، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال: {أمنيته}: قراءته انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى.
وقوله سبحانه: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} الفتنة: الامتحانُ والاختبار، والذين في قلوبهم مرض: عامَّةُ الكُفَّارِ، {والقاسية قُلُوبُهُمْ} خواصُّ منهم عتاة: كأبي جهل وغيره، والشقاق: البعد عن الخير والكونُ في شقٍّ غيرِ شقِّ الصلاح، و{الذين أُوتُواْ العلم}: هم أصحاب نَبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {أَنَّهُ}: عائد على القران، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}: معناه: تتطامن وتَخْضَعُ، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض كما تقدم.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: من القرآن، والمريةُ: الشَّكُّ، {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} يعني يوم القيامة، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قيل: يوم بدر، وقيل: الساعةُ سَاعَةُ موتهم، واليوم العقيم يومُ القيامة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ}.
الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها، والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعيسى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شَبَّه عليه السَّلامُ علماءَ أُمَّتِه بهم. فالنَّبيُّ أعمُّ من الرَّسول، ويدلُّ عليه أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئل عن الأنبياءِ فقال: «مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفًا» قيل: فكم الرَّسولُ منهم؟ فقال: «ثلاثمائةٌ وثلاثةَ عشرَ جَمًّا غفيرًا». وقيل: الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتابًا منزَّلًا عليه، والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له. وقيل: الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ، والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه {أَلْقَى الشيطان في أمنيته} في تشهِّيه ما يُوجب اشتغالَه بالدُّنيا كما قال عليه السلام: «وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة» {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شؤون الحقِّ. وصيغةُ المضارع في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي. وإظهارُ الجلالة في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ {والله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بكلِّ ما من شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العبادِ من قولٍ وفعلٍ عمدًا أو خطأ {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعلُ.
والإظهارُ هاهنا أيضًا لما ذُكر مع ما فيه من تأكيد استقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ، قيل: حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ، وقيل: تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهوًا إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتمَّ به فعزَّاه الله عز وجل بهذه الآية وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزلِ فيه، وقيل: تمنَّى بمعنى قرأ كقوله:
تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ ليلة ** تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ

وأمنيته قراءته وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعًا صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النَّبيِّ عليه السَّلامُ وقد رُدَّ بأنه أيضًا يخلُّ بالوثوقِ بالقران ولا يندفعُ بقوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} لأنَّه أيضًا يحتملُه، وفي الآية دلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم.
{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان} علَّة لما يُنبىء عنه ما ذُكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حقِّ النبيِّ عليه السلام خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النَّظمِ الكريم لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائر الأنبياء عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل {فِتْنَةً لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى: {في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية: {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي المشركين {وَإِنَّ الظالمين} أي الفريقينِ المذكورينِ، فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرهم تسجيلًا عليهم بالظُّلمِ مع ما وُصفوا به من المرض والقساوةِ {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ، ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.
{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ} أي القرآن {الحق مِن رَّبّكَ} أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى، وقيل: ليعلمُوا أنَّ تمكينَ الشَّيطانِ من الإلقاءِ هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لَدُن آدمَ عليه السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلقاءِ في حقِّه عليه السَّلامُ لَكِن يأباه قوله تعالى: {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بالقران أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيمانًا بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي، ورجعُ الضَّميرِ لاسيما الثَّاني إلى تمكينِ الشَّيطانِ من الإلقاء ممَا لا وجه له {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءَامَنُواْ} أي في الأمور الدِّينيةِ خُصوصًا في المداحض والمشكلاتِ التي من جُملتها ما ذكر {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ} أي في شكَ وجدال {مِنْهُ} أي من القرآن وقيل: من الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} وقوله تعالى: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} وما لحقَ من قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا} وأمَا تجويزُ كون الضَّميرِ لما ألقى الشَّيطانُ في أمنيته فممَا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هَنَاتِهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القران ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليست ناشيءةً منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم.
{حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذن قوله تعالى: {بَغْتَةً} أي فجأةً فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطها وقيل: الموت {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيمًا.
والمرادُ به السَّاعةُ أيضًا كأنَّه قيل: أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطها لما عرفتَه. وأمَا ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيمًا أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعًا أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم يُنشيء مطرًا ولم يلقح شَجرًا أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَا لا يساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ أصلًا كيفَ لا وإنَّ تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عز وجل ثم بيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الآخرويينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بيِّنًا لا ريبَ فيه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أمنيته}.
من الأولى ابتدائية، والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: {والله أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] والظاهر أن إذا شرطية ونص على ذلك الحوفي لَكِن قالوا: إن إلا في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدًا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: {وما يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} [الحجر: 11] إلخ أو يكون الماضي مصحوبًا بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذ لم يليها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن إذا جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو {ألقى} وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف {نبي} على {رسول} يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضًا ما روي «أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا قيل: فكن الرسل منهم؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جمًا غفيرًا».
وقد أخرج ذلك كما قال السيوطي أحمد وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر. وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة؛ وجاء في رواية الرسل ثلثمائة وخمسة عشر، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدًا في نفسه كاسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا والنبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانًا وتفصيلًا لشرع سابق والنبي من أوحى إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابًا منزلًا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحي إليه في المنام لا غير: وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا منامًا وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.