فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟
قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هذه الآية الكريمة، هى التي ولّد منها المفسّرون وأصحاب السّير، قصة الغرانقة هذه.. ولَكِنا ندع هذه القصة الآن، وننظر في الآية الكريمة نظرا غير مرتبط بما يقال من روايات عن أسباب النزول- ننظر إليها على أنها قرآن يتلى، ويتعبّد بتلاوته، دون أن يكون لسبب النزول- أيّا كان- أثر في موقعه من قلوبنا، أو عقولنا!- فقوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته} هو خبر يتضمن حكما عاما، لا انفكاك منه.. يقع على رسل اللّه وأنبيائه جميعا.. وهذا الحكم، هو: أنه ما من رسول من رسل اللّه، ولا نبىّ من أنبيائه، إلا والشيطان راصد له، وأنه كلّما تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته! هذا صريح ما تنطق به كلمات اللّه، في وضوح وجلاء.. وإن كان هناك ما يسأل عنه، فهو كلمة التمنّى.. فما معنى التّمنّي، وماذا كان يتمنّى الرسول، أو النبي؟ ثم ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو النبي؟
والتمنّى في اللغة معروف، وهو طلب النّفس لرغيبة من الرغائب المحبوبة، البعيدة عن أن تنال، بعدا يكاد يبلغ حدّ الاستحالة. وقد فرّق علماء النحو والبلاغة بين الترجّى، والتّمنّي، كما فرّقوا بين حرفى الطلب: ليت، ولعلّ.. فقالوا: إن ليت للتمنّى، وهو طلب محبوب لا يدرك، ولعلّ للترجّى، وهو طلب مرغوب يمكن إدراكه والحصول عليه، وإن كان بعيدا.
وفي القرآن الكريم، جاء لفظ التمني بهذا المعنى، الذي هو طلب الشيء البعيد.. كما في قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [94- 95: البقرة].
والخطاب هنا لبنى إسرائيل، وهم مطالبون في هذا الخطاب أن يتمنّوا شيئا لا يمكن أن يقع منهم، وهو تمنّى الموت.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} كاشفا عن هذا.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ}- جاء مؤكدا لعدم وقوع هذا الأمر منهم، إذ إن الحريص على الشيء لا يتمنى إفلاته من يده، فكيف إذا كان أشدّ الناس حرصا عليه؟
وجاء في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى} [24: النجم] وهو ينكر على الإنسان أن يقع له ما يتمناه، ويجرى على هواه وهواجسه..
وجاء في القرآن الكريم كذلك في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [78: البقرة] والأمانىّ جمع أمنيّة..
وعلم الأميين من أهل الكتاب، بالكتاب، هو علم بعيد عن الحقّ، بعد الأمنية عمن يتمنّاها.
ذلك هو التمني، على ما عرفته العرب، وجاء به القرآن الكريم، وهو أنه طلب أمر محبوب، بعيد الإدراك، أو مستحيله.
فما هي أمنية كلّ رسول، وكلّ نبىّ؟
إن أمنية كلّ رسول، ورغيبة كلّ نبىّ، هى أن يرى قومه على الهدى الذي يدعوهم إليه، وأن يصبحوا جميعا في المؤمنين باللّه.. فتلك هى رسالته في الناس، يعيش لها، ويعمل من أجل تحقيقها، وأن سعادته كلها هي أن يرى نجاح مسعاه، وثمرة جهاده، في هذه الأعداد التي استجابت له واتبعته، وأنه كلما كثرت هذه الأعداد، تضاعفت سعادته، وعظمت غبطته.
هذه هى أمنية كل رسول، وكل نبىّ.. لا أمنية لأحد منهم غير هذه الأمنية! ولَكِن الأمانىّ- كما قلنا- بعيدة التحقيق! وأمنية الرسول أو النبي في أن يكون الناس جميعا مؤمنين- أمنية تقع في دائرة المستحيلات، لأنها تطلب من الحياة مالم تجد به، وتريد الناس على غير ما أقامهم اللّه عليه.. فالحياة لم تعرف المجتمع الإنسانىّ على طريق سواء، يضمّ جميع أفراده.. والناس- كما خلقهم اللّه- مؤمن وكافر، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
وإذن فأمنية أي رسول وأي نبىّ، غير ممكنة التحقيق.. ومع هذا فإن على كل رسول وكل نبىّ أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويدعو الناس جميعا إلى اللّه، ويؤذّن فيهم بآيات اللّه! ولَكِن صوت الحق هذا، تلقاه على الطريق أصوات منكرة، بعضها ينبح نبح الكلاب، وبعضها يعوى عواء الذئاب، ومنها ما ينهق نهيق الحمير، ومنها ما يفحّ فحيح الأفاعى.. فيتألف منها ومن كثير غيرها من كل صوت منكر- إعصار مجنون، يكاد يخنق هذا الصوت الكريم، ويغطى سماءه الصافية، بما يثير من غبار ودخان! فهذه هى أمنية الرسول أو النبي، وتلك إلقاءات الشيطان فيها.. إذ ليست كلّ هذه الأصوات المنكرة إلا صنيعة الشيطان، وإلا غرسا من غرسه النكد، وثمرات من ثمر هذا الغرس الخبيث.. ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته}..
وواضح مما رأيت، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ، كانت أبدا هي هداية قومه جميعا إلى اللّه، وأن إلقاء الشيطان في هذه الأمنية، هو ما يوسوس به للسفهاء، والحمقى، والجهلاء من القوم، ليقفوا في وجه الدعوة التي يدعون إليها، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم.. فالشيطان لا يظهر عيانا، ولا يلقى الرسول أو النبي مواجهة، وإنما يلقاهما في أتباعه وأوليائه، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان، وأمسك بهم من مقاودهم، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء اللّه، ورسل اللّه، وأولياء اللّه..
ولَكِن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبي، وما يلقى به الشيطان فيها؟
الشيطان كما أخبرنا اللّه- سبحانه وتعالى- عنه، ليس له سلطان على الذين آمنوا، كما يقول سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [99: النحل] فكيف بالرسل والأنبياء، الذين عصمهم اللّه، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه، وتوفيقه، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته، ويحمى وجوده من أن يكون مطيعة ذلولا له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا} [76: النساء] إن هؤلاء الضالين الآثمين، الذين يقفون في وجه الحق، هم صنائع الشيطان، وهم كيده الذي يكيد به لأولياء اللّه، وأنبياء اللّه، ورسل اللّه.. وهذا {الكيد} الذي هو من أولياء الشيطان.. هو كيد ضعيف، وسراب خادع، لا يقف للحقّ، ولا يحتمل صدمته!..
وعلى هذا، فإن ما يلقى به الشيطان في أمنية الرسول أو النبي، من ضلالات وأباطيل، وما يستنبت به في منابت الحق من شوك وحسك- هو سحب صيف، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس، وإذا شعاعها يملأ الآفاق، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام، وإذا حرارتها تتمشّى في أوصال الكائنات.. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [17: الرعد] وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان في أمنيّة الرسول أو النبي.. هباء، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه، وهم صفوة المجتمع، والثمرات الطيبة فيه، على حين يستولى الشيطان على أتباعه، ويسوقهم إلى حظيرته، حيث هم حصب جهنم وحطبها! واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول، وبين الشيطان وأولياء الشيطان.. لقد أحكم اللّه سبحانه وتعالى آياته، فنسخ أي أبطل.. ما ألقى الشيطان، ثم أحكم سبحانه آياته، وثبّت قواعدها..
ولا يعترض على هذا القول، بأن الرسول أو النبي كانت أمنيته هى هداية قومه، أو معظم قومه، ولَكِن الذين خلص بهم من هذا المعترك، هم قليل من كثير.. فكيف يقال مع هذا إن أمنيته تحققت، وإن اللّه سبحانه وتعالى قد أحكم آياته- على هذا المفهوم الذي فهمت عليه الآية- ونسخ ما ألقى الشيطان؟.
والجواب على هذا، قريب من قريب.. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد..! كما ترى.
إن أمنية الرسول أو النبي. كانت في أول الأمر هى هداية قومه، فردا، فردا.. وهو في سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده، ولا يضنّ بشيء من راحته.. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء، من فحش القول، وشنيع العمل.. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم، وأن لا ثمرة تحصّل منهم، مهما بذل من جهد، أو ضوعف من عمل- إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبي، وحجب ضوءها.. وعندئذ يتولى اللّه سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضراء، فيضربهم ضربة قاضية، فإذا هم في الهالكين.. وهكذا ينسخ اللّه كل ما ألقى الشيطان ويبطله، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبي أو الرسول من هذا البلاء.. إن الرسول أو النبي في تلك الحال- وإن كان وحده- هو آية اللّه، أو آيات اللّه التي أحكمت، فثبتت، وبقيت..
أما ما ألقى الشيطان، فقد نسخ وبطل، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وأحسب- بعد هذا، بل وقبل هذا- أن الآية الكريمة، واضحة الدلالة بيّنة القصد، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير، وهمسات الإسرائيليات، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار، فيتلقاها عنهم المفسرون، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!! فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها، وتحدّث بمفهومها، ولَكِن الخيال الأسطورى، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة.. كما سنعرضها عليك بعد قليل..
وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول، وعن النبي، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبي بإعادة حرف النفي، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبي ذاتيته.. فكأنّ نظم الآية يقول: {وما أرسلنا من قبلك من رسول وما أرسلنا من قبلك من نبىّ}.. وهذا يعنى أن الرسول غير النبي..
والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء، أن كلّا من الرسول والنبي يوحى إليهما من اللّه ولَكِن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من اللّه، ويدعو إليها الناس.. بخلاف النبي الذي لا شريعة معه، وإنما هو على شريعة رسول سبقه، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول.. فكل رسول نبىّ.. وليس كل نبىّ رسولا..
وعلى أىّ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية.. أما النبي فلا كتاب ولا صحف معه..
وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبي عن الرسول، له دلالة كبيرة في المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة، وهو أن قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ}.
لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة، المنزلة وحيا من السماء..
وذلك لأن النبي- مجرد النبي- لا يدخل في هذا الحكم، إذ لا كتاب معه، ولا صحف، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!!
وإذن، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما، هو أن معنى النسخ في هذه الآية، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات اللّه المتلوة، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق، الذي فسره عليه المفسرون..
وهذه الحقيقة، هى في الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة، والذي جاءت منه قصة- أو خرافة- الغرانقة العلا التي ستعرف نبأها عما قليل..
وقبل أن نعرض لهذه الخرافة، ننظر في الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها، منذ أخذنا في هذا الحديث.. فهذه الآيات مكملة لها، ومعقبة عليها.. يقول اللّه تعالى بعد هذه الآية:
{لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}.. وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول أو النبي- هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش.
بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء- هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب، وهم الذين في قلوبهم مرض، وعلى المشركين من العرب، وهم القاسية قلوبهم، إذ كانوا بعملهم هذا- من أهل كتاب ومشركين- دعوة إلى الضلال، تواجه دعوة الهدى التي يدعو بها الرسول والنبي.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [20:الفرقان] ويقول سبحانه على لسان المؤمنين: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [5: الممتحنة].
وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان في طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبي- هم متلبسون بظلم عظيم، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء، في إنكار البديهيات، وفي عدم التسليم بها والانقياد لها. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبي، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان في وجه هذا الحق- في هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل، فتزداد معرفتهم بالحق، ويقوى تعلقهم به، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون في وجهه، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق، ويضاعف من جلاله وروائه.. كالشمس، يحجبها السحاب، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء.. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده.. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا، والحلو يكون بعد مذاق المرّ أحلى مذاقا وألذّ طعما.. والعافية بعد السّقم، تكون أهنأ وأطيب منها في جسد لم تصادفه علة، أو يلحّ عليه مرض.. وفي المثل: بضدها تتميز الأشياء.
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. الضمير في منه يعود إلى القرآن الكريم، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم.. أما القاسية قلوبهم- وهم مشركو العرب- فستلين قلوبهم آخر الأمر، وسيؤمنون باللّه، وينقادون للحق..
وأما الذين في قلوبهم مرض- وهم أهل الكتاب- وخاصة اليهود، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القران، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه.. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب اللّه في هذا اليوم العظيم..
وفي وصف هذا اليوم بأنه عقيم، إشارة إلى أنه لا يوم بعده، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس، ويصلح المفسد منهم ما أفسد.. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده، كما تلد أيام الدنيا، أياما بعدها..
ثم يجىء قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}: أي في هذا اليوم، يكون الملك للّه وحده، لا يملك أحد لنفسه أو لأحد شيئا.. وفي هذا الموقف يفصل اللّه بين عباده، ويقضى بالحقّ بينهم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، ينعمون برضوان اللّه، ويخلدون في رحمته.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات اللّه، وجادلوا بالباطل فيها، فأولئك لهم عذاب مهين، يذلّهم ويخزيهم.
وفي تخصيص الملك للّه في هذا اليوم، مع أن الملك للّه أبدا، في هذا اليوم وفي كل يوم، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه، وكل ذى قوة من قوته، وكل ذى مال من ماله، فلا تصريف لأحد، في الظاهر أو الباطن، كما للناس تصريف- في الظاهر- فيما خوّلهم اللّه من سلطان، وأموال.. في هذه الدنيا ثم يجىء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.. هو إشارة إلى إحكام اللّه لآياته، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها..
فهؤلاء الذين هاجروا في سبيل اللّه، فرارا بدينهم، ثم قتلوا استشهادا في سبيل اللّه، أو ماتوا ميتة طبيعية- هم من الذين أحكم اللّه آياته فيهم، فنجاهم من الافتتان في دينهم، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء في أموالهم وأنفسهم، أجرا عظيما، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه، وهو الحق الذي معهم، والإيمان الذي عمر قلوبهم، ثم النّصر على عدوّهم، والتمكين لهم في الأرض.
ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم في الآخرة.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ومن عطائه الجزيل الجليل، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون في جنات الخلد، لهم فيها ما تشتهى أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون.. نزلا من غفور رحيم.. وهذا هو المدخل الذي يدخلهم اللّه فيه، ويملأ قلوبهم به غبطة ورضا.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بمن هم أحق برضاه ومغفرته وإحسانه من عباده..
{حَلِيمٌ} لا يعجل مقوبته، بل يمهل الظالمين، حتّى يكون لهم نظر في أمرهم، ورجعة إلى ربّهم.. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم: {وَلَعَذابُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [26: الزمر].
هذه الآية الكريمة: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وما سبقها أو تلاها من آيات- هى التي نسحت جولها قصة الغرانقة التي آن أن نحدثك عنها وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره، بين النبي، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن في قلوبهم مرض.. وهي في صورتها تلك ليس فيها شيء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء اللّه ورسله، مع أقوامهم..