فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمن أين إذن جاءت خرافة الغرانيق العلى؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن..
كان موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن، من القضايا البارزة، التي شغل بها علماء التفسير، والفقه.. وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص في الجزء الأول من هذا التفسير.. وكان من رأينا- ومازلنا عليه- أن لا نسخ في القرآن.. وقد نظر المفسّرون في قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ} نظر المفسرون في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ} فرأوا هذا الخبر بالنسخ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه اللّه، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة، وبتحقق بها ما أخبر به اللّه سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان.. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان، ثم نسخه اللّه..!
هناك إذن أمران، كان على المفسّرين الكشف عنهما في هذا الموقف:
ما هي أمنية النبي؟
ثم ماذا ألقى الشيطان في أمنية النبي؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه اللّه؟
وقد كان! فألقى المفسّرون بشباكهم في هذا البحر المتلاطم، الذي يفيض من يدى القصاص، ورواة الأخبار.. فجاءت بأكثر من صيد.
فمن ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ مرة سورة النجم والمشركون يستمعون إليه، وحين بلغ إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} أتبع ذلك بقوله: تلك الغرانيق العلا وفي رواية: إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا وفي رواية ثالثة: والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى.. وفي رواية رابعة إن شفاعتهن لترتجى من غير ذكر الغرانقة العلا.
فهذه أربع روايات في هذه الواقعة، وكلّها ذات أسانيد متصلة.. فالرواية الأولى تقول: إن النبي قرأ الآيات هكذا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى.. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى ! والرواية الثانية تقول: إن قراءة النبي كانت هكذا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا ! وفي الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى.
والرواية الرابعة كانت هكذا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى، إن شفاعتهن لترتجى.
أما القرآن الكريم، فيقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأخرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى (1) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.
ومدلول هذه الروايات، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ذكر في تلاوته لسورة النجم، آلهة قريش بخير، وجعل لها عند اللّه مكانا عليّا، حتى إنها لتشفع عنده، لمن يلتمس الشفاعة عندها، ويستحقها منها.
وتقول الرواية: إن النبي حين بلغ آخر السورة، سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون، عند ما سمعوه، وقد أثنى على آلهتهم!! والذكور في عرفهم أكرم من الإناث. وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخرى، وكأنها تريد أن تفسر هذه الواقعة، وتجد لها وجها تقبل عليه.
فتقول بعض الروايات: إن الشيطان ألقى على لسان النبي هذا القول، الذي قاله في حق الآلهة- اللات والعزى ومناة- وأنه صلى الله عليه وسلم، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم، فتمنى في تلك الحال أن لو نزل عليه شيء من القرآن يقارب بينه وبين قومه، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم، ولهذا فإنه- عليه الصلاة والسلام- حين تلا سورة النجم، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات، التي ترفع من شأنها، وتجعل لها مكان الشفاعة عند اللّه.. ثم تستطرد الرواية فتقول: «إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبي، فلما عرض عليه النبي السورة بما أدخله الشيطان عليها، قال له جبريل: ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبي لذلك، فنزل قوله تعالى- تسلية له-: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } ثم قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحينا إِلَيْكَ لِتَفْترى عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا} [73- 75: الإسراء].
ونقول: إن هذه الروايات، وتلك النقول، كانت موضع إنكار، واستنكار عند بعض المفسّرين، وأصحاب السير.. إذ كانت- في صورتها تلك- عدوانا صارخا على مقام النبوّة، ونسخا صريحا لعصمة النبي.!
وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة، وفضح مستورها وعقد لذلك فصلا في كتابه: الشفا.. بتعريف حقوق المصطفى نرى من الخير أن نعرض جانبا منه.. والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شيء يصلح أن يعيش في الحياة، وأن يكتب له بقاء في عالم الأحياء.
ونسأل: ما مضمون هذا الخبر في قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته}.
أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ في حياته، وإنما هي أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.
فكيف لا يلقى الشيطان في أمنية النبي إلا في هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى في كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.
وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنه.
تمنّى كتاب اللّه أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر وهو- لو عقلوا- حجة عليهم.. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبي قرأنا، دخل عليه الشيطان، وألقى فيما يقرأ بما يريد، حتى يفسد مادة القران، ويغيّر وجهها، ويطفىء نورها..
والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء في قراءة النبي، على نحو ما رووه في هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبي سها فوقع هذا الخاطر في قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات اللّه وسلامه عليه- كان في حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو في حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم!..
وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع في نفسه أية شبهة من الشبه تحوم في سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم في هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟
فإن كان محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير..
فكل ما ينسب إليه من أخطاء، وما يرمى به من تهم، ممكن الوقوع، ويمكن التسليم به، إذ هو- والحال كذلك- إنسان، مجرد إنسان، يجوز عليه ما يجوز على الناس، من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر! أما إن كان محمد - صلوات اللّه وسلامه عليه- نبيا ورسولا، فإن الذي يعتقد في نبوته، ويؤمن برسالته، ثم يلحق به ما يقع في حياة الناس من أخطاء، وعثرات، وتخبطات، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة، فإن الرسول مبلّغ عن ربه، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان، فيما يتصل برسالة ربّه، وما تحمل من شريعة وعقيدة، إذ إن أي انحراف أو تحريف في هذا، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة، مليئة بالعثرات والحفر، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط، وهذه المتناقضات، التي تلتقى بالناس، وهم سائرون فيه.
ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.
وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبي- ويقولها هكذا النبي- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ في نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند اللّه شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟
نبىّ يقر قرأنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات اللّه، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟
وماذا ترك للضالين، والمنافقين، وأعداء الأنبياء؟
قد يكون سائغا أن تنفى عن محمد صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال في معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها.
أما ومحمد نبىّ، فإنه في عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: «قلت يا رسول اللّه.. أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال:
نعم فإنى لا أقول في ذلك كلّه إلّا حقّا»
.
والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا في قوله تعالى: {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}. فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن اللّه إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند اللّه، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول اللّه تعالى: {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}؟
إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، في غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا..
ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان في كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان لنقله، ثم نصب العلل التي تخرج به عن مفهومه.. فهو حديث خرافة، لا ينبغى النظر إليه، أو الوقوف عنده.
وبعد، فإن مفهوم الآية الكريمة: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ }- نقول إن مفهوم الآية الكريمة على هذا الوجه الذي قامت في ظله قصة الغرانقة العلا - هو اتهام لرسل اللّه وأنبيائه جميعا، بأنهم تحت سلطان الشيطان، وأنه راصد لهم، آخذ على ألسنتهم، فلا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية من آيات اللّه، حتى يخرجها الشيطان على الوجه الذي يراه، ويلوى لسان الرسول والنبي إلى ما يريد.
فسبحانك.. سبحانك. هذا بهتان عظيم، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا!. اهـ.. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

{وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته}.
عطف على جملة {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} [الحج: 49] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} [الحج: 48] إلخ.
وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام.
فقوله: {من رسول ولا نبي} نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحدًا من الأنبياء والرسل.
وعطف {نبي} على {رسول} دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول:
فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة.
والنبي: مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول، وهو التحقيق.
والتمنّي: كلمة مشهورة، وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصولُه.
والأمنية: الشيء المتمنّى.
وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو {من رسول ولا نبي}، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حالِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحدًا منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد.
واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهًا للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس.
ومنه قوله تعالى: {فكذلك ألقى السامري} [طه: 87] وقوله: {فألقوا إليهم القول} [النحل: 86] وكقوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} [طه: 96] على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {ألقى} محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد.
فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.