فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان}:
في هذه الجملةِ بعد {إلاَّ} ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من {رسول} والمعنى: وما أرسلناه إلاَّ حالُهُ هذه، والحالُ محصورةً. الثاني: أنها في محلِّ الصفةِ لـ: {رسول}، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعها بالجرِّ باعتبارِ لفظِ الموصوف، وبالنصبِ باعتبارِ محلِّه؛ فإنَّ مِنْ مزيدةٌ فيه. الثالث: أنَّها في موضعِ استثناءٍ من غيرِ الجنس. قاله أبو البقاء. يعني أنه استثناءٌ منقطعٌ.
و{إذا} هذه يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفيُّ، وأَنْ تكونَ لمجردِ الظرفية. قال الشيخ: ونَصَّوا على أنَّه يَليها في النفي يعني إلاَّ المضارعُ بلا شرطٍ نحو: ما زيدٌ إلاَّ يفعلُ، وما رأيتُ زيدًا إلاَّ يفعلُ، والماضي بشرطِ تقدُّم فِعلٍ نحو: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ} [يس: 30] أو مصاحبةِ قد نحو: ما زيدٌ إلاَّ قد فعل. وما جاء بعد إلاَّ في الآية جملةُ شرطية، ولم يَلِها ماضٍ مصحوبٌ بـ: قَدْ ولا عارٍ منها. فإنْ صَحَّ ما نَصُّوا عليه يُؤَوَّل على أنَّ إذا جُرِّدَتْ للظرفية ولا شرطَ فيها وفُصِل بها بين إلاَّ والفعلِ الذي هو {أَلْقى}، وهو فصلٌ جائز، فتكونُ إلاَّ قد وَلِيها ماضٍ في التقديرِ ووُجِد شرطُه: وهو تقدُّم فعلٍ قبل إلاَّ وهو {وما أرسلنا}.
قلت: ولا حاجةَ إلى هذا التكليفِ المُخْرِجِ للآيةِ عن معناها. بل هو جملةٌ شرطيةٌ: إمَا حالٌ، أو صفةٌ، أو استثناء، كقوله: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ} [الغاشية: 23] وكيف يدعى الفصلُ بها وبالفعلِ بعدَها بين إلاَّ وبين {ألقى} مِنْ غير ضرورةٍ تدعو إليه ومع عدم صحةِ المعنى؟
وقوله تعالى: {إِذَا تمنى}: إنما أُفْرِد الضميرُ، وإن تقدَّمه شيئان معطوفٌ أحدُهما على الآخر بالواو؛ لأنَّ في الكلام حذفًا تقديرُه: وما أرسلنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إلاَّ إذا تمنَّى ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنَّى كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. والحذفُ: إمَا من الأول أو من الثاني.
والضميرُ في {أمنيته} فيه قولان، أحدُهما: وهو الذين ينبغي أن يكونَ أنه ضميرُ الشيطان. والثاني: أنه ضميرُ الرسولِ، ورَوَوْا في ذلك تفاسيرَ اللهُ أعلم بصحتها.
قوله: {لِّيَجْعَلَ}: في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها متعلقةٌ بـ: {يُحْكِم} أي: يُحْكِم اللهُ آياتِه ليجعلَ. وقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} جملةُ اعتراضٍ. وإليه نحا الحوفيُّ. والثاني: أنها متعلقةٌ بـ: {يَنْسَخُ} وإليه نحا ابن عطية. وهو ظاهرٌ أيضًا. الثالث: أنها متعلقةٌ بألقى، وليس بظاهر. وفي اللامِ قولان، أحدهما: أنها للعلةِ، والثاني: أنها للعاقبةِ. وما في قوله: {مَا يُلْقِي} الظاهرُ: أنَّها بمعنى الذي، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً.
قوله: {والقاسية} أل في {القاسية} موصولةٌ، والصفةُ صلتُها، و{قلوبُهم} فاعلٌ بها، والضميرُ المضافُ إليه هو عائدُ الموصول وأُنِّثَتْ الصلةُ لأنَّ مرفوعَها مؤنثُ مجازي، ولو وُضع فعلٌ موضعَها لجاز تأنيثُه. و{القاسيةِ} معطوفٌ على {الذين} أي: فتنةً للذين في قلوبِهم مَرَضٌ وفتنةً للقاسيةِ قلوبُهم.
قوله: {وَإِنَّ الظالمين} مِنْ وَضْع الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ؛ إذ الأصلُ: وإنهم في ضلال ولَكِن أُبْرِزُوا ظاهرين للشهادةِ عليهم بهذه الصفةِ الذَّميمةِ.
قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين}: عطفٌ على {ليجعلَ} عطفَ علةٍ على مثلِها. والضميرُ في {أنَّه} فيه قولان، أحدهما وإليه ذهب الزمخشري أنه عائدٌ على تمكينِ الشيطانِ أي: ليَعْلَمَ المؤمنون ِأن تمكينَ الشيطانِ هو الحق. الثاني وإليه نحا ابن عطية أنه عائدٌ على القران. وهو وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ فهو في قوة المنطوق.
قوله: {فَيُؤْمِنُواْ} عطفٌ على {وليعلمَ} و{فَتُخْبِتَ} عطفٌ عليه. وما أحسنَ ما وقعَتْ هذه الفاءاتُ.
وقرأ العامَّة: {لهادِيْ الذين} بالإضافة تخفيفًا. وابنُ أبي عبلة وأبو حيوةَ بتنوينِ الصفةِ وإعمالِها في الموصول.
{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}.
والمرِْيَةُ والمُرْيَةُ بالكسر والضم لغتان مشهورتان. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنهما قراءتان، ولا أحفظ الضم هنا. والضمير في {منه} قيل: يعودُ على القران. وقيل: على الرسول. وقيل: على ما ألقاه الشيطان.
قوله: {عَقِيمٍ} العَقيم: من العُقْم. وفيه قولان، أحدهما: أنه السَّدُّ يقال: امرأةٌ مَعْقُومَةُ الرَّحِمِ أي: مسدودتُه عن الولادة. وهذا قول أبي عبيد. والثاني: أن أصلَه القطعُ. ومنه المُلْك عَقيم أي: لأنه يقطع صلةَ الرحم بالتزاحُمِ عليه. ومنه العقيمُ لانقطاع ولادِتها. والعُقْم: انقطاعُ الخير، ومنه يومٌ عقيم. قيل: لأنَّه لا ليلةَ بعده ولا يومَ فشُبِّه بمَنْ انقطع نَسْلُه. هذا إنْ أريد به يومُ القيامة. وإن أريد به يومُ بدرٍ فقيل: لأنَّ أبناءَ الحربِ تُقْتَلُ فيه، فكأنَّ النساء لم تَلِدْهُنَّ، فيكُنَّ عُقُمًا. ويقال: رجل عقيم وامرأة عقيمة أي: لا يُولد لهما، والجمعُ عُقُم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}.
الشياطين يتعرَّضون للأنيباء عليهم السلام ولَكِن لا سلطانَ ولا تأثيرَ في أحوالهم منهم، ونبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة.
وإنما الشياطين تخييلٌ وتسويل من التضليل. وكان لنبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- سَكَتَاتٌ في خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلَفَّظ الشيطانُ ببعض الألفاظ، فَمَنْ لم يكن له تحصيلٌ تَوَهَّّمَ أنه كان من ألفاظِ الرسولِ- عليه الصلاة والسلام وصار فتنةً لقومٍ.
أما- الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يُضِرْهُم ذلك.
{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)}.
إذا أراد اللَّهُ بِعَبْدِه خيرًا أمدَّه بنور التحقيق، وأَيَّده بحسن العصمة، فيميِّز بحسن البصيرة بين الحق والباطل؛ فلا يُظلُّه غمامُ الرَّيْبِ، وينجلي عنه غطاءُ الغَفْلَة، فلا تأثير لضبابِ الغداةِ في شُعاع الشمس عند متوع النهار، وهذا معنى قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمنيته}. الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقى الشيطان في أمنيته أي تلاوته إذا تلا ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة ** تمني داود الزبور على رسل

ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقال بعض العلماء: إذا تمنى أحب شيئا وأراده فكل نبي يتمنى إيمان أمته والشيطان يلقى عليهم الوساوس والشبه ليصدهم عن سبيل الله، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا كما عليه الجمهور، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه، وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآيات المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وقوله: {وما كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، ووجه كون الآيات لا تعارض بينها أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء:
الأول: أن معنى السلطان الحجة الواضحة، وعليه فلا إشكال إذ لا حجة مع الشيطان البتة كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله: {وما كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.
الثاني: أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته لا يتضمن سلطانا للشيطان على النبي بل هو من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الآية، فإن قيل: ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا فوجدوهم على كفرهم، وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة.
فالجواب: أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومعلوم أن الكلبي متروك، وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير، وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها؛ فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق حديث القصة المذكورة، وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور. وقال البزار: وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي متروك.
فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل، وما كان كذلك فضعفه ظاهر، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح، وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة: ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} الآية، وقوله: {وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}، وقوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} الآية، فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون. ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل. وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها عياض وابن العربي المالكي والفخر الرازي وجماعات كثيرة، ومن أصرح الأدلة القرأنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلى ثم أبطل ذلك بقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم بأنها أسماء بلا مسميات وهذا هو الأخير وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق وعلى القول ببطلانها فلا إشكال وأما على القول بثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري: إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة من أحسنها وأقربها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى} قال الشيطان لعنه الله محاكيا لصوته صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى إلخ.. فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس، وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا فلذلك اختصرناها هنا فظهر أنه لا تعارض بين الآيات والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال صاحب التفسير الواضح:

روى المفسرون أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ إِذا هوى} فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ} الأخرى سمع المشركون تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال النبي: «إن ذلك من الشيطان»، فأنزل اللّه تعالى: {وما أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى } الآية.